ما الذي يقودنا خلال رفة جفن للوصول إلى حقيقة ما

blinkbookخلال الدقائق الأخيرة قبل إغلاق بوابة الطائرة، دخلت محلا لبيع الكتب والمجلات كي أشتري ـ زادي ـ قبل أن ألحق بالبوابة…
وقع نظري على رفٍ من الكتب، وبلمح البصر جاءني صوت من عمق أعماقي: “عليكِ بهذا الكتاب”، وكان أول كتاب لمحته عيني!
هو بعنوان:
Blink
أي “رفة جفن”!

اشتريته بنهم وبدون أدنى خوف من أن يتناول ـ على سبيل المثال ـ مغامرات كيم كاردشيان العاطفية وآخر أخبار مؤخرتها البارزة، وركضت كي ألحق بالبوابة تطاردني بضع دقائق بقيت قبل إغلاقها…
من يدري؟
فالموضوع الذي يحقق أرباحا هائلة هو الأكثر تناولا في الكتب والمجلات التي تُطبع في أمريكا..
ولا أعتقد أن الإتفاق الأمريكي ـ الإيراني أهم من مؤخرة كيم، على الأقل بالنسبة لسوق الطباعة!!!
علما بأنني لو اكتشفت أنه يحكي عمّا يدور في سرير كيم لألقيت نفسي من نافذة الطائرة قهرا على العشرين دولارا التي دفعتها ثمنا له!
لكن الله كان “كعادته” في تلك المرّة رحيما!
….
ربطت حزام الأمان (احتراما للقانون وليس ايمانا بفاعليته)، وأقفلت كل حواسي التي تربطني بالعالم الخارجي غير آبهة بتعليمات مضيفة الطيران عن “كيفية التصرف في حالات الخطر”….
تصوّر نفسك معلقا بين السماء والأرض واختل توازن الطائرة، هل سيبقى لديك ذرة عقل كي تلتزم بتلك التعليمات؟؟؟
مجانين هؤلاء الغربيون، هم “زرقاويون وبن لاديون” حتى النخاع….
يطبقون تعاليم الكتب حرفيّا بما فيها أحرف الجر!!

……
غصت بين دفتي الكتاب بشغف ضفدع بحري أمريكي غاص في عمق المحيط كي يتجسس على سفينة روسيّة اقتربت من المياه الإقلمية لامبراطوريته!
مدفوعة ليس فقط بمقدار شغفه، وإنما أيضا بمقدار مهارته في الغوص والتقاط أدق التفاصيل!
لم أكد أنهي الصفحة الثانية من الكتاب حتى اقشعر بدني وكاد يُغمى عليّ!
الصفحتان الأولى والثانية تشرحان لماذا اختار المؤلف لكتابه عنوانا “رفة جفن”!
الكاتب يذكر في البداية مثالا ليدعم فكرة الكتاب….
باختصار شديد: المثال يشرح كيف اشترى متحف في لوس أنجلوس تمثالا من تاجر يوناني بمقدار عشرة ملايين دولار، يُقال أنه يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد!
طبعا، لم يدفع القائمون على المتحف ذلك المبلغ الضخم بناءا على ما “يقال”، بل بناءا على تحقيقات ودراسات جرت لمدة أشهر اشترك به أشهر علماء الآثار الأمريكان ومن دول أخرى، وأكدوا خلالها أن التمثال حقيقي وغير مزيف!
بعد فترة من عرض التمثال في المتحف جاء لزيارة ذلك المتحف عالم ايطالي مختص في تاريخ علوم الفنون، وقاده القائمون على المتحف متباهين كالطاووس إلى خزانة التمثال لإلقاء نظرة عليه!
خلال أول رفة جفن بعد أن وجه نظره باتجاه التمثال، صاح: هذا التمثال مزيف وليس حقيقيا!
سقطت عبارته تلك كالصاعقة فوق رؤوس مرافقيه…
لن أخوض في قصة طويلة، لكن الكثير من التحقيقات والدراسات التي جرت لاحقا أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن عبارته “مزيف وليس حقيقيا” هي أصدق من جدول الضرب!
إذن، اختار الكاتب لكتابه عنوان “رفة جفن” ليجيب على سؤال: ما الذي يقودنا خلال رفة جفن للوصول إلى حقيقة ما، دون أن نملك أية معلومات بخصوص تلك الحقيقة؟
ألم أشترِ ذلك الكتاب خلال ثانيتين، وقبل أن أقرأ كلمة منه؟؟؟
ما الذي دفعني لأن اشتريه وليس في حوذتي سوى دقائق قبل أن ألحق ببوابة الطائرة؟؟؟
على أي معلومات استندت لأتخذ قرارا بشرائه، وأنا أعرف أن ذوقي عندما يتعلق الأمر بشراء الكتب انتقائيٌّ جدا جدا؟؟؟
ما الذي جعل الخبير الإيطالي يصيح “إنه مزيّف” قبل أن يلمسه وقبل أن يحصل على أي معلومات بخصوصه؟؟
….
يُسهب الكاتب في الجواب على ذلك السؤال، مستندا على مئات التجارب التي اُجريت على السلوك البشري، والتي أنجزها علماء نفس وسلوك مشهورون في أمريكا وغيرها!
خلاصة الأمر: هناك غرفة قيادة في مؤخرة عقلنا، مغلقة ولا تسمح للوعي بدخولها إطلاقا!
تقودنا باللاوعي لأنها تختزن من المعلومات ما يكفي لاتخاذ القرار، ومعظم الأحيان قراراتها صائبة، علما بأنها لا تحتاج من الزمن لكي تصنع القرار إلاّ بمقدار رفة جفن!
الكتاب يخزّن معلومات معقدة جدا، ولا أعتقد أن القارئ العادي يستطيع استيعابه.
لولا خلفيّتي العلمية (وشغف الضفدع الأمريكي بالغطس والتجسس على أدقّ التفاصيل والذي يستحوذني) لما تجاوزت في قراءته أول سطرين!
…..
لقد قادتني أول رفة جفن بعد أن ألقيت نظري على رف الكتب في ذلك المحل، محكومة ببضع دقائق قبل أن يغلقوا بوابة الطائرة، قادتني لأشتري ذلك الكتاب، خلافا لعادتي التي تجبرني أن أقرأ عشرة صفحات في الكتاب قبل أن أشتريه!
لقد قررت القيادة المغلقة في الحيز الخلفي لعقلي والتي لا تسمح عادة للوعي بدخولها، قررت أن أختار ذلك الكتاب…
ربمّا لأنني وصلت إلى فكرة ما في أحد الفصول من كتابي القادم، ولما حاولت أن اُسهب في شرح تلك الفكرة تعثرت وتوقفت عن الاستمرار!
فجاء كتاب
Blink))
طبقا من المنّ والسلوى في زمن مجاعة قاتلة!

إنها قوة التفكير الإيجابي!
من يدري؟؟؟
قد تجبر تلك القوة القائمون على الغرفة الخلفية في مؤخرة عقلك على اتخاذ قرار تحتاجُه أن يأتي في وقته!!!
……….
لم أشعر بالزمن، ولم أنتبه لعربة المؤكولات والمشروبات التي تجرها المضيفة، لأنني كنت أبحث عمّا أتجسس عليه في كتاب زاخر أكثر مما هو زاخر عمق المحيطات….
وكنت مشغولة بتدوين الكثير من الأفكار، حتى أعلن الطيار أنها دقائق ونهبط في مدينة أتلانتا!
كنت أعرف سلفا أنني سأنتظر في أتلانتا ثلاث ساعات قبل أن ألحق بطائرة أخرى في طريقي إلى نيويورك…
لكن لم تكن هناك أية مشكلة فالانتظار ليس إلا لحظات ترقب نحلم خلالها بالقادم الجميل….
………..
أصدقائي وأعزائي القرّاء:
ترقبوا القادم فهو الأجمل…

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.