ما أقبح هذا الكون لو لم يأتِ إليه ارتورو

wafasultan2015أشكر السماء….
عاد أرتورو من المكسيك قبل أن ينتهي دونالد ترامب من بناء الحائط. عاد بعد إجازة دامت أربعة أسابيع ابتلعتنا خلالها أوراق الأشجار وما حملته الرياح!

سافر أرتورو ليزور أولاده وكان من المفروض أن يرجع الاسبوع الماضي.. تركني في ذروة تحضيري للأعياد وللسنة الجديدة، بالاضافة إلى أنّ الخريف هو أكثر الفصول التي نحتاج خلالها أن نلتصق بأمنا الأرض! عندما لم يعد في اليوم المحدد، اجتاحتني نوبة رعب ودخلت في حالة كآبة، فأرتورو صار فردا من عائلتنا، ولم يعد من السهل الاستغناء عنه!
…..
أربع سنوات مضى على وجوده معنا… لم أتكلم معه ثلاث كلمات… فأنا لا أجيد من الإسبانية إلا كلمتين “بوريتو ـ تاكوز ” وكلاهما اسمين لسندويشات مكسيكية، وهو لا يجيد كلمة واحدة بالانكليزي! لكنني عشقت فيه جدي أبي علي، وعشق فيني أمه ماريا…
…..
عندما أناوله وجبته يتساءل في سره: من أين أرسلتك السماء ياماريا بعد أن رحلت وأنا في الخامسة؟؟ وعندما يقلم أزهاري ويروي أشجاري أتساءل في سري: كيف أعادتك السماء إليّ يا أبا علي بعد أن غادرتنا بلا وداع؟؟
….
لا أعرف اسم والدة ارتورو، لكن ثلاثة أرباع نساء المكسيك يحملن اسم “ماريا”، ولست متأكدة أنها يتمته في الخامسة من عمره، لكنني أقرأ الناس سلوكيا وطاقويا، وأستطيع أن ألتقط يتيم الأم حتى ولو كان في عامه المائة ومن بين ألف انسان آخر… خجله المفرط وهدوءه الصاخب وخوفه من أن ينظر في وجوه الناس هي هوية من يفقد أمه في سنوات طفولته، وهي صفات تثير حزني كلما تطلعت في وجه ارتورو الستيني!
….
نشتغل معا كتفا بكتف، ونتبادل الصمت على مدى ساعات كل يوم… صمتنا ينقل لكل منا ما يحتاجه كي يعرف الآخر… هو جدي أبو علي… وأنا أمه ماريا…. استرق النظر إليه بين الحين والآخر كي استرجع صورة جدي وهو يدفع محراثه، يسربله أمل كبير من أن الموسم القادم أكثر خيرا… وهو يسترق النظر إلي بين الحين والآخر كي يسترجع صورة أمه ماريا وهل منهكمة في لف سندويشات البوريتو لأطفال نست عددهم وربما اسمائهم!
……
كل زهرة في حديقتي روتها قطرة عرق من أرتورو…. ومع كل وجبة قدمتها لأرتورو اعترتني موجة فرح أعادت مزاجي إلى توازنه رغم ضغوط اليوم! يحبني وأحبه….
…..
سأل زوجي مرة إحدى زبائنه إن كانت تعرف شخصا يجيد أعمال الحديقة ويقبل أن يعيش معنا، فعادت تلك السيدة بعد عام من سؤال زوجي وبعد أن نسينا الموضوع، وتوقفت بسيارتها أمام مكتبه، ثم أومأت له وصاحت: هذا رجل يجيد الزارعة وهو يبحث عن عمل…. أنزلت أرتورو من سيارتها وراحت تسابق الريح!
انصطدم زوجي بعد أن اكتشف أنه لا يجيد التحدث بالانكليزي، واستغرب ما يفعل! يومها جمعتنا مائدة عشاء واحدة، تبادلنا خلالها النظرات والابتسامات، فشعرت أنه أحب طعامي، وشعر أننا استأنسا بوجوده!
ومنذ يومها وهو فرد من عائلتنا….
….
ليتنا جئنا إلى الكون بدون لغات…. لو كان الإنسان قادرا أن يتواصل مع أخيه الإنسان فقط مشاعريا،
لكانت آلامنا أقل وحياتنا أجمل بكثير!
………..
أرتورو لا يعرف من أنا، وأنا لا أعرف من هو…. لكن كلّ منا يدرك أن الآخر يلعب دورا مهما في حياته،
وكل منا يشعر بانسانيته من خلال ذلك الدور!
…..
عندما ناولني ارتورو هذا الصباح هدية جلبها لي من المكسيك، وهي عبارة عن كيسين من الجبن، وبعض البندق وعلبة صغيرة من أقراص الحلوى، عندما ناولني اياها عانقته وشكرته، ورحت أتمتم بعيدا عن صخب العالم:
ليسقط ترامب….
ولتسقط كلنتون….
وليسقط بوتين…..
وليسقط هنري السادس عشر….
وليسقط عمر بن الخطاب…
وليسقط المهدي المنتظر…
وليبقى ارتور وكل إنسان يأتي إلى هذا العالم ليجعله أجمل،
ليبقى حيا في أزهاري وأشجاري…
كما ظلّ جدي حيّا من خلال ارتورو،
وكما ظلت ماريا حيّة من خلالي….
….
ما أقبح هذا الكون لو لم يأتِ إليه ارتورو،
وما أحلاه لو كان بلا حيطان وبلا حواجز!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.