لن أتحدث في هذا الموضوع عن مارسيل مارسو كفنان , لكني سأتحدث عن الظرف الذي أوصل هذا الشخص ليصبح فناناً .
ولد مارسيل جارلس عام 1923 لعائلة يهوديه تعيش في مدينة ستراسبورغ الفرنسيه الواقعه مباشرة على الحدود مع ألمانيا . والده كان يعمل قصاب يذبح على الطريقة اليهوديه ( كوشر ) .
كطفل صغير كان مارسيل مغرماً بنجم العصر شارلي شابلن ولهذا كان يقلده بإرتداء ملابس والده الكبيرة عليه كطفل , ثم يرتدي قبعة الأب أيضا ً ويخرج الى الشارع مقلداً شارلي شابلن .
كان عمره 5 سنوات فقط حين شاهد أول فلم لشارلي شابلن أيام كانت السينما صامته ولم تكن الأفلام الناطقه قد ظهرت بعد .
بوصولنا الى عام 1939 كان عمر مارسيل 16 عاما ً حين إندلعت الحرب العالميه الثانيه بغزو ألمانيا لبولندا . في نفس يوم الغزو أمرت الحكومه الفرنسيه مواطنيها في مدينة ستراسبورغ بمغادرتها وحمل ما يتمكنون من حمله من أمتعتهم والرحيل على عجل .
خلال ساعات كانت مدينة ستراسبورغ مدينة خاليه من البشر . إنتقل مارسيل مع أخيه آلان الى مدينة ليموج وسط فرنسا حيث دخل مارسيل الى إحدى مدارسها لدراسة الأدب .
بحلول الصيف كانت ألمانيا قد إحتلت الجزء الشمالي من فرنسا إحتلالاً عسكريا مباشراً أما الجزء الجنوبي من فرنسا فقد وضعت عليه حكومة عميلة لها دعيت بحكومة فيشي لأنها كانت تحكم البلاد من مقرها في مدينة فيشي .
كانت حركات المقاومة ضد النازيين وضد حكومة فيشي تتنامى في أنحاء البلاد بسرعة ، وكانت تتزايد قوة وخطورة حيث غذتها الأعداد الضخمة من الشبان الفرنسيين الذين كانوا يلجؤون للتلال والأرياف للفرار من قبضة السلطات الألمانية ومن قوانين العمل القسري التي كانت تفرضها عليهم . كان الثوار يعيشون في الريف كخارجين عن القانون، يتلقون الدعم والمساعدة من الفلاحين ومن الإمدادات التي كانت تقوم بها قوات الحلفاء حيث تلقي لهم المساعدات من الجو بالطائرات البريطانية .
حياة اليهود في فرنسا كانت أصعب من غيرهم في هذه الفتره فقد أجبروا على العيش في غيتوهات وإعتقل الكثير منهم وأرسلوا الى معسكرات الإعتقال .
مدينة ليموج كانت مركز المقاومه الفرنسيه ضد الإحتلال الألماني , إنضم آلان شقيق مارسيل الأكبر الى المقاومة المسلحه , أما مارسيل الذي كان في 17 من العمر فقد إستعمل موهبة الرسم في تزوير الوثائق وشهادات الميلاد لكي يحمي الشباب الفرنسيين من الإنخراط في الخدمة الإلزاميه تحت إدارة المحتلين وأعوانهم , كما كان يزور لليهود وثائق بأسماء لا تدل على ديانتهم الحقيقيه , وفي هذه الفتره منح مارسيل لنفسه تسمية ( مارسيل مارسو ) أما من هو مارسو فقد كان جنرال في الجيش الفرنسي المقاوم للإحتلال .
لمارسيل إبن عم يدعى جورج وكان قائداً من قادة المقاومه .. أمر مارسيل ذات يوم أن يقود مجموعة من الأطفال اليهود ويقوم بتهريبهم الى سويسرا , وبعد نجاحه في هذه المهمه أوكلت إليه مهمة تهريب الأطفال بشكل مستمر على أنهم فرق من الكشافه يعودون الى مخيماتهم الكشفيه .
الشرطه الألمانيه قامت بإعتقال والد مارسيل وأرسلته الى معسكر إعتقال اليهود في أوشفيتز البولونيه , ولهذا فقد خافت والدة مارسيل على أولادها وأرسلتهم للحياة بعيداً عنها .. وفي هذه الفتره إتخذ مارسيل إسما ً حركيا ً هو : الكنغر .
رغم هذه الحياة لكن حلم مارسيل بأن يصبح ممثلاً صامتاً لم يتوقف ولهذا فقد بدأ بتعلم الفن والدراما وكان بالتحديد يقلد شارلي شابلن في حركاته , وذات يوم وبعد أن أصبح عمر مارسيل 20 عاما ً إلتقى بمؤرخ مسرحي نصحه بأن يدرس الدراما في مدرسة الممثل والمخرج المشهور ( جارلس دولين ) .
وبالرغم من إستمرار الحرب لكن مارسيل واصل دراسته في مدرسة دولين وتحت إشراف مدرس التمثيل الصامت ( إتيان دكرو ) الذي علمه كيف يستعمل الحركه وتعابير الوجه ليعبر بهما بدل الكلمات .
آب عام 1944 حرر الجيش الأمريكي باريس من الإحتلال الألماني وفي هذا العام إنتمى مارسيل الى الجيش الفرنسي الحر , ولأنه يستطيع التحدث بالإنكليزيه فقد أصبح جندي اتصال بين الجيش الفرنسي الحر والقطعات الأمريكيه المتواجده في فرنسا .
في هذه الفتره كان يستغل وقت الفراغ لتقديم عروض التمثيل الصامت الى القطعات الأمريكيه في فرنسا أو قوات الحلفاء المتواجده في ألمانيا . وكانت نقلته السريعه الى عالم الشهره حين قدم عرضاً الى الجنود المريكان حيث شاهده ما لا يقل عن 3 آلاف جندي .
حين إنتهت الحرب نذر مارسيل كل وقته للمسرح , وكان يمضي الساعات الطوال في التمرين وإختراع الشخصيات والأدوار التي سيؤديها .
عام 1947 ظهر لأول مره بشخصية ( بب ) المهرج , بعدها أصبحت هذه الشخصيه جزءاً من جميع العروض التي قدمها حتى ان المشاهدين ما عادوا يذكرون مارسيل إلا بهذه الشخصيه . ومن خلال هذه الشخصيه كان بب المهرج يقلد كل شيء : ولد يلعب أو سيدة تحوك أو بائع البالونات .. كان يقلد الحياة وكل فعل فيها .
ولمدة 60 عاما ً بقي مارسيل يتحدث الى الناس دون كلمات وكان يقدم عروضه للكبار والصغار .. وأخيرأً قام بإفتتاح مدرسة للتمثيل الصامت إنسب إليها ممثلون من مختلف أنحاء العالم .
عام 2002 تم تعيين مارسيل مارسو سفير خير للجمعية العالمية الثانية للشيخوخة في الأمم المتحدة حيث عقدت الجمعية العالمية الثانية للشيخوخة في مدريد، بإسبانيا، ، بعد 20 عاماً من انعقاد الجمعية العالمية الأولى في فيينا. ومهمة الجمعية البحث في واحد من التحديات المميزة للقرن الحادي والعشرين ألا وهي شيخوخة سكان العالم . فبعد زمن وجيز سيكون ثلث سكان العالم فوق سن الستين ، وللمرة الأولى في التاريخ البشري ، سيمثل كبار السن والشباب حصتين متساويتين من السكان .
عام 2007 نعاه ( فرانسوا فيون ) رئيس الوزراء الفرنسي فى بيان يؤكد وفاة نجم التمثيل الصامت قائلاً : مارسو الممثل الصامت سنذكره دوماً بشخصية بب ، لقد كان واحداً من أشهر الفنانين الفرنسيين فى العالم . سيفتقده تلاميذه وستفتقده عروضه العالمية . ميسون البياتي – مفكر حر؟