كانت ثلاثة أيام عصيبة، عصيبة جدا، رغم أنني استمتعت بكل لحظة عشتها مع جازي وبنجي وأصدقائهم، فلقد أصرّت أمهما أن تمطرني بوابل رسائلها عبر الموبايل، في محاولة لأعيش معها الحدث بحذافيره!
…..
سافرت هي وزوجها في رحلة إلى لاس فيغاس المدينة الأكثر صخبا في العالم لم تكن رحلتهم هذه المرة استجمامية وكالعادة، بل كانت رحلة وداع أرادوا من خلالها أن يقولوا وداعا للرجل الذي احتضنهما منذ أن تزوجا وأغدق عليهما من حبه وكرمه
وهو خال الزوج….
……
وجدته زوجته مقتولا في غرفة نومه… نعم مقتولا! لقد قتل نفسه بعد أن تناول علبة كاملة من الحبوب المنومة، فنام ألى الأبد…
ترك إلى جانبه رسالة مؤثرة جدا، لا نعرف بعد كل تفاصيلها! كان شابا في أول خمسينيايته، لكنه لم يتجاوز يوما عشرينياته….
نعم عاش طيلة حياته كما يعيش شاب في بداياته، عاشقا لكل برهة من وقته، ومولعا بتفاصيل ذلك الوقت…
يرقص عندما يتكلم.. وعندما يمشي.. وعندما يأكل…. وعندما يغني… وحتى عندما يبكي…
إذ كانت الحياة بالنسبة له حلبة رقص، ولقد أجاد التمايل على أنغامها إلى حد الثمالة!
…
أحببته شخصيا منذ أول لحظة قابلته بها، شعرت بأنه شعلة من طاقة، يدفىء كل من حوله، ويضيء أية بقعة عاتمة تلوح في محيطه… نعم، كان له حضور آخاذ يشع دفأا وضوءا… …..
لكن مايكل – للأسف الشديد- عجز طيلة حياته أن يضيء تلك البقعة الصغيرة جدا والمظلمة جدا جدا والقابعة عميقا في قاع قلبه…. فكلما تقدم به العمر يوما كانت تلك البقعة المظلمة تكبر حجما، حتى – على ما يبدو – طغت على كل ساحة وعيه،
عندها عجز على أن يتحمل عذاب ضميره وشعوره بعقدة الذنب، فوضع حدا لمآساته وهو في ذروة حياته وأوج نجاحه،
أو هكذا بدا الأمر لكل من حوله،
إلا لابنتي! فلقد استطاعت ومنذ سنوات أن تتبين تلك البقعة المظلمة رغم مجونه ورقصه وعشقه للصخب! ربّما ساعدتها دراستها لعلم النفس وخبرتها كمعالجة نفسية في أحد سجون الأحداث، أو ربما ساعدها أكثر العشق المتجذر في جيناتها لفهم السلوك البشري ولقراءة لغة الجسد، يضاف إلى ذلك كونها من مواليد برج الحوت، الناس الأكثر حساسية لخفايا النفس والمحيط..
….
لقد استطاعت فرح ومنذ سنوات أن تكتشف بأن خال زوجها (أو أنكُل مايك) كما اعتادت أن تناديه، يملك سرا في ثنايا قلبه وقد يقتله يوما… هي تؤمن بأنه اختار لاس فيغاس ليعيش فيها آملا أن يطغى صخبها على ذلك الصوت الذي يضج في أعماقه والذي يذكره بماض يعذبه! هي تؤمن أيضا بأن عشقه للحياة كان محاولة فاشلة من قبل اللاوعي ليغطي به كرهه لها والذي استفحل على ساحة الوعي..
…..
بالمنظار الاجتماعي المتعارف عليه في كل ثقافات الأرض كان مايكل ناجحا على كل صعيد، بصحة جيدة ويملك عملا يدر عليه دخلا مذهلا…. متزوجا من حسناء وله بنت في سنواتها الجامعية الأولى، ويعيش في بيت كبير تتوفر فيه كل مستلزمات الراحة، محاطا بالأهل والأصدقاء المحبين…. لكن كل هذا النجاح لم يكن كافيا ليسعد قلبا متعبا ويريح ضميرا معذبا…
فالماضي بقي جاثما بثقله على صدر مايكل حتى خنقه!
……
المأساة بدأت عندما كان مايكل شابا يافعا في سنته الجامعية الأولى عندها قرر أن يتزوج حبيبة مراهقته، وفعل! لما اكتشف أنها حامل بابنته الأولى اسشاط غضبا، لقناعته يومها بأنه لم يكن جاهزا ليكون أبا, وفِي غمرة غضبه طردها من حياته رافضا وعلى مدى كل هذه السنين أن يتعرف على ابنته، أو أن يكون جزءا من حياتها… مع السنين ظل متمسكا بقراره، تتحكم به غطرسة الذكورة التي وقفت حائلا بينه وبين اعترافه بخطأه وتراجعه عن ذلك الخطأ، رغم كل الآلام التي عاشها بسببه
تزوج مرة ثانية ورزق بابنة اخرى في محاولة لإسدال الستارة على الفصل الأول من مسرحيته. لكن، مالم تتصالح مع ماضيك سيظل ذلك الماضي يطاردك في حلّك وترحالك….
……
دخلت العائلة كلها إلى غرفة النوم حيث فارق الحياة، وحشر الجميع أنفسهم بين جدرانها والتفوا حول السرير الذي مات عليه
وراحوا يصلون ويرتلون لقناعتهم بأن الروح تحوم في نفس المكان لثلاثة أيام…. وبعد أن انتهوا من صلاتهم بدأ كل فرد منهم بالحديث عن ذكرياته الجميلة مع أنكل مايك! الأمر الصاعق أن ابنته الأولى قد وصلت مع أمها وزوجها وولديها لتودع الوالد الذي رفض مدى حياته أن يكون أبا لها…. وعندما انتهى آخر فرد من كلمته تقدمت أمام الجميع، وقالت: لقد جاء دوري لأنعي الرجل الذي أنجبني إلى الحياة ثم سلخني من حياته! ثم تابعت:
لقد تحدث كل منكم عن ذكرياته الجميلة مع والدي، أما أنا فلا أملك ذكرى واحدة معه سيئة كانت أو جيدة. لقد علمتني أمي منذ طفولتي المبكرة أن أغفر له لأن المسيح علمنا أن نغفر لما أساء إلينا، ولأن أي غل نحمله في قلوبنا يقتلنا قبل أن يقتل صاحب الإساءة.
وتابعت: أنا الْيَوْمَ سيدة ناجحة وتعلمت من خلال مآساتي مع والذي كيف أكون أما صالحة وأدركت أهمية الدور الذي يلعبه الآباء في حياة أولادهم, أطلب من الله أن يغفر لوالدي الذي رفض لسبب لا أعرفه أن يكون يوما أبا لي! ثم مسحت دمعتها وغادرت الغرفة تتبعها أمها وزوجها وولديها ولَم تبق لحضور الجنازة…. غادرت تاركة الجميع في حالة صدمة! تقدم دانيال ابن خالة زوج ابنتي أمام الجميع، وقال:
يجب أن يكون موت خالنا وكلمة ابنته الْيَوْمَ صيحة توقظنا من سباتنا …. الحياة يا أعزائي قصيرة جدا، ويجب أن لا يكون فيها مكان للإساءة. دعونا نتصالح مع ماضينا ونغفر لمن أساء إلينا، ونطلب السماح ممن أسأنا له, دعونا نأخذ عهدا على أنفسنا بأن لا ننام على ضغينة كي لا تحرقنا أوتحرق من يعيش معنا, دعونا نملك الجرأة لنعترف بآخطائنا، ولتتراجع عنها مهما كان الوقت متأخرا, ثم أخذ دانيال وعدا من الجميع على أن يتواصلوا مع ماغي ابنة خالهم مايكل علهم يعوضون لها بعضا مما افتقدته خلال حياتها من عطف وحنان….
……
طبعا لا أحد يستطيع أن يعوض عن حنان الأب، ولا أحد يستطيع أن يعيد عجلة الزمن إلى الوراء, لكن أية لمسة حنان تقدمها لشخص مقهور لا تضيع عبثا، وقد تخفف عنه بعضا من آلامه!
….
لقد شاركتم بمآساة أنكل مايك علها تكون أيضا صيحة توقظ كل منا من سباته قبل فوات الآوان…
…….
عادت فرح وزوجها مساء اليوم، ولم تقص علي كعادتها عندما تعود من لاس فيغاس العروض الفنية الجميلة التي حضرتها،
بل ذرفت دموعا حارة وعانقت طفليها، وهي تقول: لا أتصور أننا سنزور تلك المدينة مرّة أخرى, فلقد دفنا أنكل مايك ودفنا معه كل صخبها وذكرياتنا الجميلة….