ماذا يجمع بين الفيلسوف فريدريك نيتشه والشاعر راينر ماريا ريلكة ورائد التحليل النفسي سيغموند فرويد؟
عدا عن كونهم من الشخصيات المؤثرة التي طبعت القرن العشرين، فهناك امرأة شبه منسية ارتبطت بهم جميعاً، إن كان عن طريق الحب أو الصداقة أو الزمالة، امرأة استثنائية لم ينصفها التاريخ فجاءت السينما وإن متأخرة، لتعيد لها حقها وتسلط الضوء على امرأة عاشرت واحتكت بالكثير من المفكرين والفلاسفة، قرأت ودرست معهم، لكنها غالباً ما كانت تسرق قلوبهم وتمضي.
تلك المرأة هي لو أندرياس سالومة، المولودة سنة 1861 لأب روسي وأم ألمانية، ابنة وحيدة على خمسة أولاد، استطاعت منذ طفولتها امتلاك قلب والدها الجنرال الروسي، الذي شجعها على طرح الأسئلة ورفض المسلمات والتقاليد الجامدة. بكلمة «لماذا» بدأت حياتها وعلاقتها بالأم والمجتمع والكنيسة والله، ولم تتوقف عن استخدامها طوال حياتها. حياة لو سالومة بكل مراحلها وصخبها، كانت عنواناً لفيلم ألماني يحمل اسمها من إخراج الألمانية غوردولا كوبلز بوست، التي قالت إنها عثرت بالصدفة وهي مراهقة على كتاب يحكي سيرة لو سالومة، وشكلت هذه المرأة، بالنسبة لها، قدوة ومثلاً عن المرأة الحرة التي تكسر المحرمات وتقفز فوق الأسوار والحدود، بل حتى فوق الزمن فهي كما قالت كوبلز بوست تصلح لأن تكون ابنة لزماننا المعاصر، فمن هي لو أندرياس سالومة؟
هذا ما يحاول الفيلم الإجابة عنه، فيأخذنا في رحلة استكشاف للكاتبة والفيلسوفة والمحللة النفسية، بعيداً عن كليشيهة «الملهمة» أو «الفاتنة اللعوب»، فلو سالومة رغم جمالها لم تكن تمارس إغراءً غير إغراء ذكائها وعلمها وثقافتها.
يبدأ الفيلم في عام 1933 بمشهد حرق كتب سيغموند فرويد على أيدي النازيين، على اعتبار التحليل النفسي علماً منبوذاً، لأن مؤسسه يهودي، ثم منع لوسالومة وهي في مراحل عمرها الأخيرة من ممارسة عملها كمحللة نفسية وتلميذة لفرويد، ثم نعود معها في فلاش باك إلى الوراء وهي تملي مذكراتها على الشاب فايفة، الذي سيكون له في النهاية الفضل بالاحتفاظ بأوراق وكتب سالومة ونشرها بعد حرق مكتبتها وموتها.
لو سالومة الطفلة لا تكف عن القفز فوق الأشجار واللعب خارج أسوار البيت المخصص عادة للفتيات وألعابهن، علاقتها بالله تبدو منذ البداية علاقة حوار لا خضوع، الخيبة الأولى تعيشها الطفلة حسب تصورها، عندما يخلف الله بوعده لها بالإبقاء على والدها إلى جانبها مدى الحياة. موت الأب ترافقه قطيعة مع السلطة الدينية ورفض سالومة لتعميدها في الكنيسة، ونراها في مشهد خروجها غاضبة من الكنيسة وهي في عمر السادسة عشرة راكضة تحت المطر الصيفي، تاركة الكنيسة وراءها وكأنها تتحرر من سلطة الدين وتتعمد بالحريه إلى الأبد. ثم تقرأ على بطاقة بريدية ما كتبه لها والدها: «كوني أنت وحسب»… عبارة ظلت وفية لها طوال حياتها، لم تساوم على حريتها كما لم تساوم على قناعاتها وهي من قالت: «أنا وفية للذكريات لا للبشر».
علاقة سالومة بالرجال كانت غريبة ومعقدة، فقد استطاعت دائماً أن تسرق قلوبهم بذكائها وجمالها، ولكنها كانت ترفض الارتباط بهم، وكان طلب يدها كفيلاً بأن تدير ظهرها وتغادر، سيناريو تكرر كثيراً في حياتها مع رجال، أقل ما يقال عنهم إنهم استثنائيون، أولهم كان اللاهوتي البروتستاني غيلوت، الذي تتلمذت على يده وتعلمت الفلسفة اليونانية وعلم اللاهوت، كانت تتمرجح على حضنه كطفلة وهو يقرأ لها عن أرسطو وكان قلبه يتمرجح معها، إلى أن طلبها للزواج عام 1880 بعد أن طلق زوجته لأجلها، فكان ردها بأن حزمت حقائبها وذهبت لدراسة الفلسفة في جامعة زيوريخ، الجامعة الوحيدة حينها التي تسمح للنساء بالدراسة فيها، وهناك بدأت لو سالومة مرحلة جديدة في حياتها، مرحلة مليئة بالبحث والأسئلة والنقاشات ومليئة بعلاقات أغنت شخصيتها على جميع الأصعدة.
علاقتها بالفلاسفة فريدريك
نيتشه وبول ريه:
بداية تتعرف سالومة على الفيلسوف الشاب بول ريه، ونراهما معاً في الفيلم في مشهد جميل، سالومة تقفز فوق سور عالٍ وتتحدى ريه ألا يصاب بالدوار ويلحق بها، يحاول ريه ويقع أرضاً ثم يطلب يدها للزواج فترفضه، داعية إياه لعلاقة صداقة ينسى فيها أنه رجل وهي امرأة. يعدها ريه أنه سيحاول صداقتها من دون أن يشفى حقاً من حبها، ثم يعرفها على صديقه الفيلسوف نيتشه، الذي يصيبه أيضاُ سهم الحب من النظرة الأولى فيمسك يدها مرحباً ويقول: من أي نجم سقطنا هنا والتقينا؟
وتبدأ بعدها علاقة صداقة وزمالة معقدة بين الثلاثة، رجلان يعشقان امرأة واحدة وهي لا ترغب بأكثر من علاقة تواصل فكري وروحي معهما… يتجسد هذا في الفيلم عندما يذهب الثلاثة في رحلة نهريه بالقارب، وتعرض عليهما سالومة علاقة صداقة ثلاثية، يتقاسمون فيها السكن والأفكار في مدينة باريس، ثم تقف على حافة القارب وقبل أن تقفز في الماء تقول: «دعونا نرى إن كانت الحواجز التي يضعها العالم في وجهنا، إن هي إلا خطوط طباشير»، فيبتسم نيتشه ويقول: هذه هي المرأة التي حلمت بها دوماً.
نيتشه يطلب سالومة أيضاً للزواج ويحلم معها بأولاد عباقرة، لكنها ترفض وتقول له:
أنت تريد تغيير العالم أما أنا فأحلم بتغيير قدري وأريد أن أعيش حريتي حتى النهاية.
العلاقة الثلاثية بين سالومة ونيتشه وريه يخلدها الزمن في صورة شهيرة لهم، التقطت في استديو صغير في مدينة لوزان فيها تظهر سالومة وهي تجر عربة، جيادها نيتشه وريه، وفي يدها سوط معلقة فيه وردة.
اللقطة بكاملها أخرجها نيتشه، في تجسيد لحالة الاستلاب التي كان يشعر بها الفيلسوفان في حضرة سالومة، هي الصورة الفضيحة أيضاً، التي التقطت عام 1882 وقلبت مفاهيم السيطرة الذكوريه رأساً على عقب، وهي أيضاَ الصورة التي استعادها نيتشه بعد أن رفضته سالومة مرتين، فكتب قبل موته كنوع من تصفية الحساب: «عندما تذهب للمرأة لا تنسى أن تحمل السوط معك».
في مشهد أخير لسالومة مع نيتشه في الفيلم، يظهران معاً وهما يتناقشان في الفلسفة اليونانية، نيتشه يحاول استمالتها شارحاً لها المبدأ الديونيسوسي في إشارة لإله الخمر والرغبة والنشوة عند الاغريق، داعياً إياها إلى تمجيد الجسد وشهواته، فترد بأنها من أتباع المذهب الأبولوني إله الشمس والشعر والموسيقى، حيث النظام والعقل في مواجهة الغريزة.
يعترف نيتشه في ما بعد أنها الأنثى الأذكى التي لم يستطع امتلاكها أبداً، وتعترف هي بقيمته كفيلسوف وتكتب عنه بعد وفاته كتاباً تحلل فيه شخصية الفيلسوف فيما يشبه التحليل النفسي قبل أن يولد مفهوم التحليل النفسي ذاته. الغيرة تبتر الصداقة بينهما في ما بعد، ولكن تبقى سالومة المرأة التي أحبها نيتشه بجنون وتحت تأثير خيبته من الحب كتب كتابه الشهير «هكذا تحدث زرادشت»، الكتاب الذي ذاع صيته، من دون أن يلتفت أحد للمرأة التي كانت وراء الموقف الكاره للنساء فيه، المرأة التي لم يتوقف نيتشه يوماً عن حبها.
أما ريه فقد استجاب لمغامرة العيش مع سالومة بتزاوج فكري ومعرفي ومن دون أي اتصال جسدي، محاولة فشلت في النهاية عندما قررت لو الزواج بالمستشرق أندرياس، بعد أن هدد بطعن نفسه إن هي رفضت طلبه، ولكنها اشترطت أن يكون الزواج شكلياً بلا أي علاقة جنسية، زوجان على الورق ورفيقا درب في الواقع تجمعهما الصداقة والاهتمامات المشتركة ويفرقهما الجسد.
وافق أندرياس على شروط سالومة ظناً منه أنها ستلين في ما بعد، ولكنها بقيت زوجته لأكثر من أربعين سنة من دون أن يلمس جسدها، أما الفيلسوف الشاب ريه فقد لقي حتفه في ما بعد في رحلة جبلية ويرجح أنه مات منتحراً، وكأن لعنة سالومة كانت تصيب جميع عشاقها وتحرمهم من السعادة. أما هي فلم يمنحها السعادة إلا رجل واحد أحبته ومنحته عذريتها وهي في السادسة والثلاثين، ولم يكن هذا إلا شاعر اللغة الألمانية الكبير ريلكة.
علاقتها بالشاعر راينر ماريا ريلكة:
ريلكة كان شاعراً مغموراَ ويصغرها بخمس عشرة سنة عندما التقيا أول مرة، لم يتوقف الشاب عن ملاحقتها وكتابة الشعر لها، أما هي فقد جذبها إليه الجانب الرقيق والأنثوي في شخصيته، فاستسلمت للحب، ضاربة بعرض الحائط كل كلامها السابق عن التحرر من الطاقة الجنسية كشرط أساسي لتحرر الطاقة الفكريه.
فمع ريلكة اكتشفت أن الاستسلام للحب واللذة، كفيل بتحرير كل الطاقات الفكريه والمكبوتة لديها، عن ليلتهما الحزيرانية الأولى معاً كتب ريلكة بما معناه:
ريح الربيع أنت
أنت مطر الصيف
أنت ليلة حزيران تلك
بألف طريق وطريق
ولا أحد وطأها قبلي
أنا الآن فيك…
تغير شعر ريلكة بعد علاقته بلو سالومة وتغير اسمه أيضاً، فهي من اختارت له اسم راينر بدل رينيه، لتمنح الاسم وصاحبه نكهة ذكوريه، أما نهاية العلاقة الغرامية فقد كانت بعد أربع سنوات عندما طلبها ريلكة للزواج وأخبرها أنه لا يستطيع الحياة من دونها، وأنه يريد أن يصبحا كياناً واحداً. فما كان منها ألا أن حزمت حقائبها وودعته قائلة: أنت لا تستطيع التنفس إلا معي وأنا لا أستطيع التنفس معك، وهكذا انتهى الحب بينهما ليفسح المجال لصداقة استمرت مدى الحياة. ومما شك فيه أن تأثير سالومة في شعر ريلكة كان إيجابياُ، وكأنه كان يتعالج نفسياً من حبه لها بالكتابة عنها لا بزيارة الطبيب النفسي كما نصحته يوماً.
عن علاقتها بريلكة قال فرويد: إنه كان يبحث فيها عن الأم والانثى معاً، أما فرويد فكان آخر محطات حياتها حيث كانت أول امرأة تتلمذت على يديه.
علاقتها برائد التحليل النفسي سيغموند فرويد:
فرويد كان الرجل الوحيد الذي لم يقع في غرامها، ولكنه لم ينجُ من سحرها، فأطلق عليها لقب «شاعرة التحليل النفسي»، ومنحها أحد خواتمه الخمسة التي خصصها لأصدقائه المقربين، كتب لها مرة أنه يفتقد حضورها عندما تغيب، ولا يتوقف عن النظر إلى كرسيها الفارغ. أما هي فقد قبلت أن تكون لفرويد حالة للدراسة والتحليل قبل أن تصبح تلميذة وتمارس مهنتها في ما بعد كمحللة نفسية، ونراها في مشهد من الفيلم مستلقية على الكنبة الحمراء، مستسلمة لتحليل فرويد عن علاقتها بوالدها وفقدانها المبكر والمباغت له، وما يتركه هذا من خوف من الارتباط مستقبلاً…
حتى استسلامها لفرويد بدا مصطنعاً وهي المتمردة على السلطة حتى لو كانت لأستاذها، فنراها في لحظة تنفجر ضاحكة وهي تخبره بأن وجه الله الذي كانت تتخيله وتخاطبه وهي صغيرة كان يشبه وجهه. وعندما يسألها عن الرجل الذي امتلك قلبها، تجيب بأنه ريلكة ولكن في خلفية المشهد كما لو أنه يجري في عقلها الباطن، نرى وجه أستاذها الأول جيلوت، اللاهوتي البروتستانتي، وهو يحاول التحرش بها عندما كانت صغيرة، وكأن هنا مفتاح علاقتها بالرجال وخوفها من العلاقة الجسدية الحميمة.
ينتهي الفيلم بوجه لو سالومة المتغصن في السبعين، وهي تقول: «الحياة لا تمنحك السعادة بسهولة، إذا أردت الحياة كما تشاء، فعليك الاستيلاء عليها بكل قوتك». وهكذا عاشت كما حلمت، واستولت على الحياة كما أرادت، كما استولت على قلوب كل من رآها، ولم تكن وفية إلا لهوسها المطلق بالحريه. عندما انتهى الفيلم وأضيأت صالة السينما بدا الجميع وكأنهم مصابون بمس أو لعنة امرأة لا تشبه إلا نفسها، لعنة قد يطلق عليها العشاق حباً، ولكن الأكيد أنه سحر امرأة لا تقاوم، وكما قال عنها أحد تلامذة فرويد: كانت تبدأ علاقة برجل ما، وبعد تسعة أشهر يكتب الرجل كتاباً… وكأنها كانت امرأة تولد أفكاراً لا أطفالاً.
٭ كاتبة سورية
مواضيع ذات صلة:نبض الروح إلى أبي في ذكرى رحيله العشرين