نبض الروح إلى أبي في ذكرى رحيله العشرين

noreldinelatasiآية الأتاسي

أنا ابنة السجن.. ابنة سنوات القمع.. ابنة الانتظار الطويل.. ابنة نور الدين الأتاسي..

أبي الذي سرقته مني السياسة ومدت لي لسانها.. قالت لي: رجال السياسة لا أبناء لهم.. انسيه يا صغيرتي.. أبوك ملكية عامة.

كرهت السياسة يومها.. وتخيلتها غول يسرق الآباء من أبنائهم ويتركهم يتامى.. مر العمر ومات أبي ولم أتصالح مع السياسة ولم أغفر لها.. بل ازدادت الهوة بيننا، حاولت أن أرى أبي كأي أب أخرمن لحم ودم.. بلحظات حنان كثيرة ولحظات قسوة قليلة، لكنني كنت دائماً أجدني محاصرة برجل السياسة، بمؤيديه وبمنتقديه.. برفاقه وأعدائه.. بفترة حكمه القصيرة وفترة سجنه الطويلة.

في مثل هذا اليوم، وقبل عشرين سنة رحل أبي عن هذه الحياة.. رحل الأب حاملاً معه كل الأبوة المؤجلة وكل خفايا السياسة وكل أوجاع السجن وآلامه.. لم أتوقف يوماً عن استحضار صورة الأب وذكرياته.. وحجبت صورة السياسي وتناسيتها.. ولكنني أحس يوماً بعد يوم بضرورة الحديث عن مرحلة من تاريخ سوريا، لا تخصني وحدي بل تخص كل السوريين.. مرحلة حاول النظام بكل ما أوتي من بطش، طمسها والتعتيم عليها.. ابتداءً من زج رجالها في السجون وقتلهم على البطيء وانتهاء بإزالتها من الكتب المدرسية والتاريخ.. وكأن تاريخ سورية بدأ بالأسد وسينتهي به.

كنت أفاجأ أحياناً أن جيلا كاملا ولد وترعرع في ظل الديكتاتور الأب ولا يعرف من كان رئيس سورية قبل الأسد، في وقت كنت أسافر لأبعد أصقاع الأرض ويسألونني، عندما يسمعون اسمي، عن أبي وماذا حل به.. أعترف أنني تجنبت كثيراً الخوض بالسياسة وأسئلتها ورفضت كثيراً أن أتكلم عن أبي كرئيس سابق وأدافع عنه على مبدأ ” كل فتاة بأبيها معجبة”.. لقناعتي أن التاريخ سينصفه وأنه ليس بحاجه لابنة تدافع عنه.. ولأنني لم أكن أرى نفسي يوماً كابنة رئيس سابق.. فأنا كنت ومازلت ابنة السجن ومعاناته.. لم أر نفسي يوماً مع أصحاب السلطة، بل مع أصحاب الحق المسلوب وابنة للسجناء والمعتقلين..

في ذكرى رحيله العشرين، سأسمح لنفسي أن أستحضر الأب السياسي.. أستحضره من البداية ومن لحظة الوجع الأولى.. عندما كان صبياً ذا اثنا عشرة ربيعاً يقف أمام قبر أمه ويبكيها بكاءً، نشفت دموعه من بعدها.. بكى أياماً وليال حتى جفت دموعه وصارت من حينها تسيل إلى الداخل ويكتمها كي لا تخرج.. وصار يبحث عن الأم الصغيرة الغائبة في صورة الأم الكبرى الحاضرة سورية. اكتشف باكراً طريق السياسة فخرج في مظاهرات ضد الاحتلال الفرنسي.. ثم انتسب في سن مبكرة لحزب البعث.. في مرحلة كانت أحلام الشباب فيها تدور حول الوحدة العربية والاشتراكية.. في الثامنة عشر من عمره.. تمرد على والده وعائلته من ملاكي الأراضي.. ومضى بحلمه حتى النهاية.

دخل جامعة دمشق ودرس الطب هناك.. وترأس الاجتماعات الطلابية وقاد المظاهرات ضد حكم الشيشكلي وتم اعتقاله وسجنه في سجن تدمر الصحراوي لمدة سنة.. عندما اعتقل، طلب منه أن يوقع على تعهد يترك بموجبه العمل السياسي والنشاط التظاهري ولكنه رفض.. وعندما طُـلب من جدي الضغط عليه للتوقيع.. ما كان من جدي، الذي كان يعارض أفكار ابنه ونشاطه، إلا أن قال له: طالما هذه هي قناعاتك فأنا لن أجبرك على تغيرها.. أبقى رجلا وتمسك بموقفك حتى النهاية.

تخرج أبي من كلية الطب عام1955 وتخصص بالجراحة في مستشفى المجتهد، وفي عام 1958 شارك كمتطوع في الثورة الجزائرية على رأس مجموعة من الأطباء، وكان اسمه السري “عبد القادر بن عبد الوهاب”.. بعد وفاته تم تكريمه في الجزائر، وتم افتتاح مستشفى باسم “مستشفى نور الدين الأتاسي” وفاء من بلد المليون شهيد، لمن ناضل جنباً لجنب مع ثوارها.. عاد بعدها أبي لمدينته حمص وافتتح عيادته فيها وعمل كطبيب هناك.. حتى عودة حزب البعث واستيلائه على السلطة عام 1963، فتم استدعاء والدي وسلم حقيبة الداخلية.. وبدأت رحلة السياسة من جديد.. رحلة لم يدفعه إليها لا نداء السلطة ولا شهوة المال ولا الجاه.. فهو لم يكن ينقصه لا جاه ولا مال.. ولا كان ابن طائفة.. ولا كان عسكريا يبحث عن سلم ليتسلق على ظهور العباد.. بل بكل بساطة لاقتناعه بأفكار، آمن بها وحلم بها من أجل سورية.. أحلام ربما تختلف عن أحلامنا نحن جيل اليوم.. ولكنها كانت أحلام جيلهم في زمن المد القومي والعروبي.

في عام 1966 أصبح والدي رئيساً للدولة بعد أن كان عضواً في مجلس الرئاسة، ولكنه لم يكن الرئيس الواحد الأحد.. ولا كان الرئيس الخالد المفدى.. كما اعتدنا عليه عند رؤساء الدول العربية المستبدين.. بل كان جزءا من قيادة حزبية، يتم اتخاذ قراراتها عن طريق التصويت داخل القيادة.. لا أدعي أن تلك المرحلة كانت مشرقة وبلا أخطاء.. ولكننا لا نستطيع أن نرى بعيون اليوم حقبة الستينيات وأحلام القومية والناصرية وأولوية القضية الفلسطينية.. حقبة تشي غفارا وحركات التحرر واليسار العربي.. لم أعايش تلك الفترة ولم أكن على سطح هذه الأرض بعد.. ولكنني أعرف أن أبي رئيس الدولة حينها، كان يسكن في بيت أجره.. وبعد سجنه ظللنا نسكن فيه وندفع أجاره مثلنا مثل أي مواطن سوري أخر.. لم يستفد من منصبه ولم يترك لنا بعد سجنه وموته لا سيارة باسمه ولا حساب بنك.. لم يترك لنا إلا سمعة حسنة ويد بيضاء، حاولنا جاهدين الحفاظ عليها ناصعة كما ورثناها.

بعد أن احتدمت الخلافات داخل القيادة بسبب محاولة الأسد التفرد بالسلطة، وبعد انكشاف الدور المتواطئ لحافظ الأسد في أحداث أيلول الأسود، عندما رفض إرسال تغطية جوية للقوات السورية التي حاولت الدخول لحماية الفلسطينيين في الأردن.. قدم والدي استقالته من كل مناصبه احتجاجاً على موقف وزير الدفاع وعلى تدخل الجيش في السياسة. وتم عقد المؤتمر الاستثنائي العاشر للحزب وعلى إثره طرد حافظ الأسد ومصطفى طلاس من الحزب.

و في 16 نوفمبر قام الأسد بانقلابه وانتهى فعلياً حزب البعث، وتمت مصادرة سورية لصالح رجل واحد مستبد.. كتب سورية باسمه وجعلنا عبيدا ورعايا.. ثم كما يورث المتاع.. تمت نقل ملكية سورية وشعبها لابنه من بعده. في هذا اليوم عرض الأسد على والدي البقاء في مناصبه معززاً ومكرماً، ولكن هذه المرة ليصبح فعلاً غطاء وستارة يتلطى من ورائها الأسد، لكنه رفض ليس كرمال لصلاح جديد، الذي كثيراً ما اختلف معه في وجهات النظر ولكن لإدراكه أن الأسد سيحول سورية إلى سجن سوري كبير.. وليس اعتقال رفاقه القدماء إلا البداية له.

دخل أبي السجن وبقي فيه 22 سنه.. لأنه لم يكن يريد أن يغطي على مشروع ولادة الأسد الديكتاتور.. ولم يكن يريد أن يكون جزءا من دولة الاستبداد.. رفض في عام 1970 أن يكون جزء من هذا النظام المجرم.. ورفض في عام 1980 عندما تم إخراجه لاستراحة القصور التابعة للدولة، ووضعه فيه قيد الإقامة الجبرية من أجل التفاوض معه. وعندما طلب منه مندوب الأسد، محمد الخولي تأييد النظام رفض.. لأن سنوات السجن والمراجعة لم تزيده إلا قناعة باستحالة إصلاح هذا النظام ولإيمانه أن لا مستقبل لسورية إلا بالديمقراطية.

لا أطلب من الآخرين الإيمان بقناعات أبي ومعتقداته ولكن أطلب منهم احترام تاريخ رجل وطني، اتفقنا أو اختلفنا معه، لكنه بقي لأخر لحظة شريفاً ومخلصاً لأفكاره.. وقد حاول الأسد المستحيل كي لا يدعه يخرج ويحكي ويقدم خلاصة تجربته ومراجعته لها.. تركه في غياهب السجون حتى تفشى سرطان السجون في روحه وفتك بجسده، وعندما سمح له بعد 22 سنه سجن بالسفر لفرنسا للعلاج.. كان المرض قد تفشى في كل خلاياه ولم يكن قادراً لا على المشي ولا الكلام ومات بعد أسبوع من وصوله لباريس.

اليوم وبعد انهيار مملكة الصمت.. سمحت لنفسي أن أتحدث عن أبي لا باسمه.. وحاولت أن أكتبه كما تراه عيناي، ولكنني تعمدت أن أخذ مسافة عاطفية، تسمح لي بقدر الإمكان أن أكون منصفة وحيادية.

اليوم يا أبتي.. وبعد 20 سنه على رحيلك.. لا أستطيع أن أقف عند قبرك، ولا أن أضع الزهور كما اعتدت أن أفعل.. اليوم لا أتصالح مع السياسة التي أخذتك مني.. بل أتكئ، أنا التي لا تتقنها ولا تتقن ألاعيبها.. اتكئ عليها لأحكي عنك لمن لا يعرفك.. يحكي لساني عن رجل سياسة.. ويحكي قلبي عن رجل الحياة والإنسانية.. وتحكي دموعي عن رجل المعاناة والألم، دموع أحاول أن أبكي بها ما عجزت دموعك عن سرده والبوح به.

يا أبتي.. اشتقت لك.. لن أسألك: لماذا مضيت في سراديب السياسة وتهت عن ابنتك الصغيرة؟.. سؤال لطالما أردت أن أسأله لك ولم أفعل.. لأنني كنت أعرف جوابك من غير أن تنطقه: سامحيني يا حبيبتي.. أحبك.. ولكننني أحببت بلدي أكثر.

سوريتنا

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.