كل الأهل والأقارب باعوني إلى المخابرات بثمنٍ بخس, إلا أمي ما زالت إلى اليوم تشتريني بأغلى وأعلى الأسعار كلما باعني أخٌ أو صديق أو قريب , ولم أرَ في حياتي إنسانا يهتم بنظافة أسنانه كما تهتم أمي ببياض أسنانها, فدائما أسنانها تلمع في الليل وفي النهار, ولو أكلت حبة أرزٍ واحدة لقامت على الفور إلى المغسلة وشطفت أسنانها بمعجون الأسنان,ولو لعبت ابنتي (بتول) ابنة الثلاث سنوات بثوبها على الفور تستبدله بثوبٍ آخر, وانتهى الزمن الذي كانت فيه أمي الملكة الوحيدة في المنزل فكانت تطبخ وتعجن وتخبز حتى ظهر جيل جديد من الملكات وظهر في منزلها ملكة جديدة في زمرتنا العائلية, هذه الملكة لا تعترض أمي على طبيخها ولا تبدي أي رأيٍ مخالف لها لأن عندها عزة نفس لم أرَ مثلها أبداً ومهما طبخنا ووضعنا أمامها من المستحيل أن تعترض عليه مطلقا كما تفعل بعض العجائز مع (كناتهن)وكل يوم تستحم ولا تقبل بأن تشرب الماء من كوبِ ماءٍ شرب منه أحدٌ قبلها إلا في حالة واحدة, وهي أن يدخل هذا الكوب إلى المطبخ ثانية ويعاد غسله بالماء ومسحوق الجلي مرة أخرى, ومن أي منظر وسخ تنقلب معدتها وتراجع ما بمعدتها من طعامٍ أو شراب, فهي تقرف كثيرا من الأوساخ ولا تطيق أن ترى أي بواقٍ للطعام على الأرض أو في غرفتها رغم أن غرفتها تعج بالزوار من كل مكان,من أولادي وأولاد أخي وأولاد بناتها وأولاد الجيران الذين يأتون للعب مع أولادي, وبالمناسبة أمي لا تقبل بأن ينام أولادي في شقتي المجاورة لجناحها الخاص بالمنزل,لأن منزلي مكونٌ من جناحين, جناح خاص لأمي وجناح خاص لي وجميعهم يأكلون ويشربون ويدرسون دروسهم وينامون عندها في جناحها الخاص تحت عينها ولا تنزعج منهم, وإذا ما أزعج الأولادُ أمهم لا تجرئ زوجتي أبدا على مد يدها لضرب أي أحدٍ منهم وأمي حاضرة, حدث هذا مرة واحدة في حياتنا وحصلت بين أمي وزوجتي مشكلة كبيرة ومنذ ذلك اليوم والأولاد يختبئون عند أمي إذا ما أحسوا بأن عقابا قادما سيحل بهم, وإذا غابوا عنها عدة ساعات لا تستطيع أن تجلس في بيتها فتخرج منه إلى بيت الجيران في زيارة قصيرة حتى يعود الأولاد مع أمهم من سفرتهم القصيرة سواء أكانت هنا أو هناك أو عند أخوالهم, ومن ناحية إعلامية مهما حدث لا تقبل بأن تشاهد إذاعة غير الإذاعة الأردنية(عمان) فهي مدمنة جدا على مشاهدة التلفزيون الأردني, ومحافظة جدا على الصلوات الخمس ولا تطيق أي نقدٍ للدين سواء أكان من قريبٍ أو من بعيد, وهذه هي النقطة الوحيدة التي أختلف فيها مع أمي..وتكره جدا وهي جالسة أن ينتقد الجلوس بعضهم البعض أو حتى أن يختلفوا مع بعضهم, ونحن مثل كل العائلات من الطبيعي أن تنشأ الخلافات بين الإخوة وبين الأقارب, ولكنها لا تسمح لأحدٍ منا أن يختلف مع الآخر وإذا عصينا لها هذا الأمر تطردنا من غرفتها وتقول: روحوا إتهاوشوا برى ما حداش يتهاوش مع الثاني عندي, أنا مَره مريضه وعندي 100 عله ولا أحتمل الزعل, ولهذا السبب ندخل جميعنا غرفتها ونحن مرتضون ومتصالحون وإذا أردنا أن نختلف مع بعضنا نذهب إلى بيت أختي في منطقة نائية وبعيدة عن السكان وهنالك نرفع أصواتنا ونتقاتل بالكلام ونعود بعد ساعتين أو ثلاث ساعات إلى بيتها ونحن مصطلحون, وكلما حصل خلاف بيننا نختار منزلا آخر نظهر فيه الخلاف وفي النهاية نجور على بعضنا من أجل خاطر أمي ونأتي إليها ونحن راضون من بعضنا البعض حتى لو كنا غير مقتنعين بالتصالح.
لم أرَ امرأة مثل أمي طوال الليل وهي تئن وتصرخ من الألم وحين أصحو على صوتها تقول لي: روح نام عند مرتك أنا والحمدلله بصحة جيدة,وتأخذ كل يوم أكثر من 15 حبة دواء للقلب وللسكري وللضغط وللدسك وللأعصاب….إلخ , وتعاني من كل هذه الأمراض وبنفس الوقت تتابع صحتنا جميعا أنا وأخواتي وتراقب حركاتنا من خلال الموبايل أينما ذهبنا, فمنذ الصباح الباكر تتصل بأخواتي وتسأل كل واحدة ماذا تفعل وماذا تصنع وماذا طبخت لأولادها,وبنفس الوقت تتصل بي في العمل وتستفسر عني وعن شغلي وماذا أكلت في الشغل وماذا شربت؟؟, وحين أعود من العمل متعبا تبدأ النظر في جسمي من أعلى إلى أسفل ومن الأسفل إلى الأعلى , وتسألني بعينيها السوداوية اللون أكثر من مائة سؤال وسؤال, وتجيب هي على أغلب تلك الأسئلة من قبل أن أنبس ببنت شفى , وربما استطيع أن أكذب على كل الناس إلا أمي فهي تعرف عني كل شيء وتعرف بسرعة إن كان في جيبي نقود أو لا.. , ورغم أنها أمية لا تقرأ ولا تكتب مثل كل أمة لا إله إلا الله إلا أنها تحب الثقافة والمثقفين وتشجعني على الكتابة وعلى القراءة طالما أنا مرتاح بهذا.
وكذلك تهتم بأخي الأصغر مني كما تهتم بي …أمي أسطورة أخرى,وحكاية من حكايات ألف ليلة وليلة, وأعجوبة من أعاجيب الزمان ما زالت تعج بالزهر وتفوح من جبينها رائحة العطر ومن يديها رائحة الياسمين.
ما زلت اذكر ذلك اليوم, يوم حملتني بيديها الطاهرتين وركضت بي إلى المركز الصحي حين انقلبت على جسمي طنجرة الطعام الساخنة,كان عمري تقريبا ست سنوات ما زلت أذكر يوم كانت تحملني إلى فراشي لأنام,وما زلت اذكر يوم صدمتني سيارة ركاب صغيرة في الشارع, فبعد أن صحوتُ من الغيبوبة قال لي أولاد الحاره: أمك فكرتك متت وفتحت باب البير على شان ترمي حالها في البير,كان عمري في وقتها 11 أحد عشر سنة,وحين عادوا بي من منتصف الطريق إليها احتضنتني والدموع تبلل وجهها ومن كثرة ما قبلتني غسلت وجهي بالدموع حتى صار لونه أبيضَ أبيضَ!! ومرت الأيام وكان سقف البيت من القصيب,وكانت الليلة ليلة شتاء باردة جدا وماطرة بغزارة, تركتني أنام في المكان الذي لا يدلف منه السقف من فوق رأسي ونامت هي بمكان الدلف(الدلف هو المطر الذي ينزل من السقف على الأرض), كان صوت المزراب خارج الغرفة يشقع بالمياه,كانت الريح عاتية, كانت تسهر طوال الليل تراقب مكان نومي,وكنت أصحو على صوتها وهي تتحرك هنا وهناك, تنقل باقي إخوتي من مكانٍ إلى مكان -مثل القطة التي تنقل أولادها كلَ ساعة من مكانٍ إلى مكانٍ آخر- وتجلس هي تحت(الدلف) وتبقى صاحية لا يغمض لها جفن,كانت تتركنا لنأكل أكثر وهي تمد يدها إلى صحن الطعام وتعود فارغة موهمة نفسها أنها تأكل, كانت تحاول خداعنا بهذه الحركة,ولكن كلنا كنا نعرف هذه الخدعة , كنا نراقب دموعها السخية, تبكي بسرعة وتجهش بالبكاء بصوتٍ عالي,ولا تحتمل أكثر مما مضى من حياتها, وكما قال أحد الفلاسفة: يبقى الرجل طفلا حتى تموت أمه, فإذا ماتت شاخ فجأة, وأنا من هذا المنطلق أدعو لأمي بطول البقاء لكي أبقى محافظا بشبابي فلا أريد يا ألله أن تموت أمي ويظهر عجزي عن الحياة.