لماذا لم يسقط النظام؟

ميشيل كيلو : السفير

في العقل السحري، يكفي أن «تعزم» على أمر كي يحدث. في العقل السحري السيــاسي السـوري يكـفي أن «تعــزم» علــى النظــام كي يسقــط. في العــقل العقلانـي والعملــي، لا يتحقــق هدفــك ما لم تخـلق شروط تحققه الواقعية. إذا فشلت في إقامة هذه الشروط، لن يتحقق هدفك مهما «عزمت» عليه سحريا ورغبيا. عندئذ، يزيد «التعزيم» عجزك عن بلوغ مقصدك بقدر ما يجعلك تعزف عن العمل الدؤوب للوصول إلى شروط تحققه، ويحولك إلى كائن منفصل عن الواقع، مع أنه قد يكون «لتعزيمك» مفعول تعبوي، لكنه يكون دوما مفعولا تضليليا يوهم الخلق أنه قادر بمفرده على بلوغ الآمال، بينما هو يبعدهم عنها، ويأخذهم إلى عالم يخضعون فيه لتأثير مخدر كلامي مدمر، لا يستطيع تبديل شيء في واقعهم العملي، أو بالنسبة إلى شروط تحقق هدفهم، بل يبعدهم عنه وحسب.

في السياسة: هناك حدان أحدهما الهدف وثانيهما الجهد الضروري لتحقيقه. فهل مهدت السياســات التي اعتمدتها المعارضة السورية في تنظيميها الرئيسَين: «المجلـس الوطني الســوري» و«ائتــلاف قوى الثورة والمعارضة» لإسقاط النظـام، أم حققت مفعولا عكسيا وأسهمت في استمرار النظام، بدل أن تؤدي إلى إقامة بيئة سياسية ونضالية تفضي إلى زواله؟

قبل أن أجيب عن هذا السؤال، أود التركيز على نقطة مهمة هي أن السياسة الحقة ليست أي شيء آخر غير خلق الظروف والشروط الملائمة، المفضية إلى تحقيق أهداف يناضل من أجلها بشر يعتقدون أن فيها تطلعاتهم ومصالحهم. بهذا المعنى، ما أن يتحدد الهدف، حتى تأخذ السياســة صــورة جهــود، منظــمة أو عفوية، تذهب مباشــرة أو بصــورة غير مباشــرة، نحــو تحقيقــه، علـى مراحــل غالبــا، وبضربــة واحــدة في حالات جد نادرة. وبما أنني لم أكن يومــا من أنصار فكرة: الهدف لا شيء، الحركة كل شيء، كما قال ذات يوم منظر اشتراكي اسمه برنشتاين، فإنني أؤمن أن انفصال الهدف والحركة أحدهما عن الآخر يقود إلى فشل سياسي وإنســاني محتــم، لأنه توجــد دوما طــريق حركي يرتبــط بهــدف؛ طريق قـد تتنــوع الخطـى عليــه وتتقــدم وتتراجع في أحيان كثــيرة، إلا أن تناقضها مع الطريــق يحــول دون بلوغ الهــدف كلــيا أو جزئيا، كما حدث في تجربــة المعارضــة السورية مع إسقـاط النظــام الذي أعلنــته هــدفا للثورة، بيد أن طريقـها إليــه وخطــواتها نحــوه أديــا إلى تعطيل قدرات وطنية ومجتمعية هائلة، سياسية ومقاومة، لو أحســن استخدامها للعبــت دورا حاســما في جعل إسقاطه مسألة واقعية وعملية، وفي متناول اليد.

من المعلوم أنه حين تفضي الحركة إلى الابتعاد عن الهدف، يصاب طلابه بإحباط يدفعهم إلى البحث عن بدائل توصلهم إليه، وأن جدارتهم السياسية والفكرية تتأكد من خلال المراجعة التي يجرونها والطريقة التي يتلمسون بواسطتها البدائل والسبل المطلوبة، التي توصلهم إلى مبتغاهم. أما عندما يتمسك العقل السياسي الرسمي بسلوكه الذي فشل في تحقيق هدفه، ويرفض البحث عن بدائل لها، فإنه يضع نفسه في حال احتجاز تنتج الفشل تلو الفشل، مهما تحدث عن هدفه في تصريحاته وبلاغاته، التي تنقلب إلى فخ يسقط فيه، ما أن يفقد القدرة على الخروج منه، حتى يمعن في التمسك بهدفه الوهمي، الذي يتحول إلى مجرد شعار يقلص الممارسة الثورية والسياسية إلى ألفاظ لا معنى لها، تحتفظ بطابعها التضليلي وإيحاءاتها الوهمية، بينما يكون المطلوب التخلي عنها والبحث عن طريق تكون بديلا لطريق فاشلة قادت الشعب إلى حيث لا يريد.

لم يسقط النظام، ليس لأنه غير قابل للسقوط، كما تقول دعايته، بل لأن المعارضة فشلت في خلق الشروط اللازمة لسقوطه، وضيعت، بسبب فشلها، تضحيات كبيرة يقدمها شعب قادته على طريق أخذته بعيدا عما كان يطالب به: الحرية لشعب سوريا الواحد. حدث هذا، لأن رهانات المعارضة المتحكمة تقاطــعت مع رهــانات النظام الأمني، الذي وضع خطة أساسها القضاء على الجانب المدني من الحراك والضغط بالعنف والقوة على المجتمع الأهلي، لإجباره على التخلي عن وعي الحرية الحديث، الذي تبناه لأول مرة في تاريخه، وإعادته بالقوة إلى تبني وعي مذهبي تفتيتي، يتخلى عن الحرية كمطلب جامع لكل السوريين، يوحد الشعب ويحفظ الدولة. وضع النظام هذه الخطة، لما لوحدة المجتمع ومطلب الحرية من تأثير يمكن أن يقوض قاعدته ما قبل المجتمعية المستندة إلى ولاءات دنيا، ما قبل وطنية، طائفية وجهوية، استخدم العنف لمنعها من مغادرة موقع وضعها فيه ضد بقية مجتمعها، وللحؤول دون تكون مؤسسات وطنية جامعة معادية للاستبداد والنظام العائلي/ الفئوي الضيق، لها فيها مكان ودور. لتحقيق حساباته، كان من الضروري أن يُكرِهَ النظامُ الحراك على التخلي عن السلمية وأن يتعسكر كجهد مفتت مرتبط ببؤر محلية ومناطقية، تفتته، وتجعل من السهل سيطرة قوى متدنية الوعي، «زاروبية» العقل والمصالح، عليه، يرجح أن تصير فريسة سهلة إما للنظام وأجهزته أو لقوى مذهبية مناوئة بدورها لمبدأي الحرية والشعب الواحد، يعني بروزها وتقدمها إلى الواجهة نجاح النظام في قلب ثورة الحرية إلى اقتتال طائفي أو جهوي، يغير هويتها وطابعها الوطني.

بدل أن تعي القوى التي نادت باسقاط النظام هذا الرهان السلطوي، سارعت إلى ملاقاته في منتصف الطريق، وعملت من جانبها على تطييف ومذهبة الحراك وتحمست لعسكرته، وراهنت على تقليدية المجتمع الأهلي وفوات وعيه، بدعم من قوى عربية وإقليمية. بذلك، نجح النظام في أخذ الصراع إلى حيث أراد، وحقق جزئيا خطته التي قامت على حد أعلى هو سحق الحراك واستعادة الوضع الذي كان قائما قبل انطلاقه، وحد أدنى هو التكيف مع ثورة شعبية شاملة عبر تفتيتها وإنزال خسائر فادحة بها وتمزيق المجتمع وتفكيكه وإلحاق قدر من الدمار به يصعب عليه الخروج منه لعقود كثيرة، في حال سقط النظام، يغير هوية الثورة تغييرا بنيويا عميقا ويبدل علاقات الأطراف السياسية بها بما يتنافى مع هدف الحرية الذي خرج الحراك من أجله. عندئذ سيجد نفسه مجبرا على تغيير مواقفه وبنائها على تفتيت وتطييف صراع يسهم في قلبه إلى عراك دموي بين المواطنين، بدل أن يكون بينهم كجماعة وطنية وبين نظامهم الاستبدادي.

بدل العمل بمبدأ الوحدة الوطنية الذي يضم المجتمعين المدني والأهلي، والقوى السياسية المعارضة للنظام، ويقوم على خطة سياسية ذات بعد مقاوم، لم تنتبه قيادات المعارضة المتحكمة إلى معنى وحدة المجتمعين المدني والأهلي، ولم تأبه كثيرا لسعي النظام إلى فك لحمتهما، وإنما أسهمت فيها لاعتقادها أن تعبئة المجتمع الأهلي ستكون أكثر سهولة ويسرا من خلال شعاراتها وخطبها المذهبية، التي خالت أنها تتفق ونمط وعيه وتستطيع تعبئته وتحريكه في الاتجاه المطلوب. بالإضافة إلى هذا، دخلت هذه القيادة في صراع مع بقية أطراف المعارضة، مزق لحمتها السياسية وما كان قد تراكم في حقبة النضال ضد النظام من مشتركات بين طرفيها الديموقراطي والإسلامي. بذلك تم تفتيت قاع الثورة المجتمعي، وأزيحت قيادة الحراك الشبابية عن القيادة وقضي على برنامجها، وتفتت المجال السياسي المعارض، الذي غدت وظيفته الرئيسة إنزال خلافاته إلى الشارع، بينما كان النظام يوحد مجاله السياسي ويتحصن بولاءات أتباعه، الطائفية وغير الطائفية، وينظم هؤلاء في تشكيلات شبه عسكرية ما لبث أن حولها إلى «جيش دفاع وطني». في ظل تردي أحوال المعارضة السياسية وتدهور أدائها، وتردي علاقاتها وقيامها أكثر فأكثر على الإقصاء والتخوين المتبادل، نشأت أجواء أتاحت للنظام الوقت الكافي لتدقيق خططه، والبحث عن نقاط ضعف الحراك والمعارضة والعمل على الإفادة منها. ليست المعارضة هي التي أقامت التوازن الذي حال بين النظام وبين إخراج الشعب من الشارع، رغم أن الأخير لم ينجح في إجبار السلطة على تغيير سياساتها وإخراج جيشها من مدنه وقراه وبلداته وانتهاج سياسة حلول وسط غير عنيفة ضده. إن من أقام هذا التوازن، المستمر إلى اليوم، هو الشعب، الذي كان حراكه سلميا أول الأمر ثم تحول إلى المقاومة المسلحة حين يئس من وقوع أي تبدل في مواقف النظام وخياراته، ووجد نفسه مهددا بالهزيمة وربما بالفناء، إن هو لم يقاتل دفاعا عن نفسه ويخلق بصموده شروطا تقنع أهل السلطة بعبثية ما يسعون إليه من انتصار واستعادة لحقبة ما قبل آذار 2011. أكل تفوق الحراك الاستراتيجي تفوق النظام التكتيكي، وصحح عيوب سياسات المعارضة، التي افتقرت ولا تزال إلى خطة استراتيجية. لو أردت تلخيص ما حدث لقلت باختصار: كان هناك النظام من جانب والحراك من جانب آخر، وكانت المعارضة عبئا على الثاني أكثر مما كانت نقيض الأول، فلا عجب أن النظام لم يسقط، وأنه تم تقويض انجازات حراكية عديدة، وأن الشعب الذي سار أول الأمر وراء المجلس والائتلاف لاعتقاده أنهما سلطة بديلة ستسهل سقوط النظام، انفض عنهما، حين اكتشف بتجربته العملية أنهما ليسا ما اعتقده، وتكيف، في ظل عدم وجود بديل متاح لهما، مع أمر قائم اتسم بالبلبلة والفوضى، أسهم في إيصالنا إلى ما نحن عليه اليوم.

هل صرنا في مرحلة سقوط متبادل حل عمليا محل إسقاط النظام، لأن القيادة التي تصدرت المجلس الوطني والائتلاف عجــزت عن تحقيــق شروطـه، وحققـت عكسها؟ ما العمـل لتغيير هذه المعــادلة الكارثية؟.

 

About ميشيل كيلو

كاتب ومحلل سياسي سوري معارض لنظام حكم عائلة الأسد الاستبدادي تم سجنه من قبل الطاغية بشار الاسد من ابرز وجوه الثورة السورية المسيحية
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.