لماذا الكتابة عن النظرية القومية في جو عسكري وسياسي ملتهب يلف الوطن العربي؟
حسن خليل غريب
تبادر إلى ذهني هذا السؤال عندما بدأت بتصحيح دراسة قديمة كنت قد أعددتها منذ سنوات تحت عنوان (مقدمات فكرية وتاريخية في تكوين النظريـة القوميـة). وافترضت أن هذا السؤال سوف يطرحه القراء قائلين: كم أنت طويل البال أيها الكاتب، النار تأكل الأخضر واليابس في كل جوانب الحياة المادية والمجتمعية في الوطن العربي، وأنت تتلهى بالمسائل النظرية، فهل ستجد من يقرأ؟
ترددت بالنشر، ولكن صمَّمت عليه بعد أن تذكرت أن مواقفي مما يجري في هذا الوطن، متقاطعاً فيه مع الكثير من المثقفين والكتاب، بأن أسباب هذا الحريق الكبير الذي شبَّ في هشيم هذا الوطن الكبير، كانت اجتثاث الفكر القومي العربي وكل ما يمت إليه بصلة. وقد تشارك بارتكاب هذه الجريمة كل من يرى أن القومية العربية، كمصدر للدعوة إلى الوحدة العربية، تشكل الخطر الأول والأساس على أطماعه في الأرض العربية، وإن المحافظة على مصالح القوى المعادية يتناقض كلياً مع تلك الوحدة.
ولأن أسباب الوحدة العربية نظرية تستند إلى الفكر القومي العربي كان لا بُدَّ أمام كل القوى المعادية، من محو هذا الفكر من خارطة الثقافة الشعبية، سواء أكان ذلك الفكر نظرياً مجرداً، أو عملياً سياسياً. وسواءٌ أكان مزروعاً في ذهن أفراد أم مُبشَّراً به في برامج أحزاب، أصبح هذا الفكر ملاحقاً من تلك القوى المعادية، التي بعضها من العرب القطريين، وبعضها الآخر من الإسلاميين، وبعضها الثالث من التغريبين في ثقافتهم الأممية. ويستفيد من هذا أو ذاك قوى الرأسمالية الغربية، كما تستفيد منها القوى الإقليمية المجاورة للوطن العربي ممن لهم أطماع تاريخية في هذا الوطن، خاصة أن الحريق الهائل في أرجاء الوطن العربي أحيا عندهم مشاريع تقسيم هذا الوطن إلى أجزاء يتقاسمونها حصصاً فيما بينهم.
لكل ذلك، وإثباتاً على أن القومية العربية والدعوة إليها هي الحصانة الكفيلة بمنع اجتثاثها، كان لا بُدَّ أمام اليائسين من نتائج ما يجري، من إعادة التصويب باتجاه الإصرار على أن خلاص العرب لن يكون إلاَّ عبر الفكر القومي العربي.
ومن أجل ذلك، ولكي لا ينسى العرب أهدافهم ووسائل خلاصهم، ولكي لا يغرقوا في متاهات الحريق الدائر، أعيد إحياء ما كتبت سابقاً، وسأكتب عن الفكر القومي حتى ولو أصبح عدد القراء والمهتمين قليلاً، لأن القضية ستموت إذا ما غابت عنها شمس الحقيقة.
مقدمات فكرية وتاريخية في تكوين النظريـة القوميـة
أولاً: مقدمات نظريـة عن المسألـة القوميـة
ثانياً: تعريفـات نظريـة في المسألـة القوميـة.
ثالثاً: الصراعات الدينية-الزمنية، في الغرب، ودورها في تكوين النظريـة القوميـة.
رابعاً: دور اللغات المحلية، وانتشار الثقافة، في تكوين الفكرة القومية في أوروبا.
خامساً: تأثير الفلسفة العربية-الإسلامية في تكوين النظريات السياسية الوضعيـة.
سادساً: تأثير إمبراطوريات الاستيلاء الأوروبية، في تكوين الفكرة القوميـة.
سابعاً: القرن التاسع عشر هو عصر القوميـات.
ثامناً: خاتمـــة
أهداف الدراسة
لماذا ينصبُّ اهتمامنا حول إعادة قراءة المسألة القومية من بعد مرور أكثر من نصف قرن على تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي؟
في تقديري، لا بُدَّ للأحزاب القومية من أن تمتلك دليلاً نظرياً عن المسألة القومية، خاصة وأنَّ هذا الدليل ضروري جداً في مرحلة الصراع الفكري الإيديولوجي، الذي يدور بين أكثر من تيار فكري-سياسي ويأتي على رأسها التياران الأمميان: الأصولي الإسلامي والشيوعي الماركسي.
وإننا بدورنا نرجو من كل من لديه النية في تطوير الجانب النظري حول المسألة القومية أن يبادر إما إلى نقد ما يُكتَب، أو العمل على تقديم إسهامات أخرى. وبهذا العمل نقدِّم خدمة للفكر القومي، وخدمة لأمتنا التي يتمزَّقها السجال الفكري الدائر اليوم على طول الساحة العربية وعرضها؛ والذي يتمحور بين القبول بالحل الفكري-السياسي القومي العربي، أو بين رافض لهذا الفكر.
وللتوضيح نرى أنَّه لا بد من أن نلخِّص مواقف بعض التيارات الرئيسة المناهضة للفكر القومي:
-الأصوليون الإسلاميون: يرون أن القومية العربية ما وُجِدَت إلا لمحاربة الإسلام، وأنه لا توجد رابطة أخرى تجمع الأمة غير الرابطة الإسلامية.
-الماركسيون الشيوعيون: تحسب النظرية الماركسية، أساساً، أن المسألة القومية هي نتاج للفكر البورجوازي، لذا لن تكون في مصلحة الطبقات الكادحة. وعلى الرغم من أن بعض فصائل الأحزاب الشيوعية العربية قد ابتدأت تأخذ بعض المواقف الإيجابية من القومية العربية، إلاَّ أنها لم تتوقف عن توجيه سهامها النقدية إليها.
إن تلك التيارات: الأصولية الإسلامية والماركسية، لها قواعد شعبية عربية واسعة، تتأثر بأفكارها وتناصرها. ومن خلال الصراع الفكري الإيديولوجي الدائر بينها كطرف أول، وبين الأحزاب القومية كطرف ثاني، يمتنع على العرب أن يُحدِّدوا هُوِّيَّة واحدة مُتَّفَقاً حولها. وهنا يأتي تحديد هوية شعب من الشعوب على قَدَرٍ من الأهمية التي لا يمكن له بغيابها أن يحدِّد اتجاهاته الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولأنه ما لم يتم الاتفاق حول المحتوى النظري للقومية العربية سوف يبقى السجال دائراً ومستمرَّاً. وإذا بقيت الأمة تدور في سجال نظري حيناً وسجالات عملية أحياناً أخرى حول المسألة القومية، أو قل مسألة الهوية، لن تقطف غير الفِرقة والتشتت والتفتيت.
من هنا نحسب أن هناك أسئلة حول المسألة القومية لا بُدَّ من طرحها ومحاولة التفتيش عن أجوبة عنها. ولذلك سنسهم بتقديم بعض الأجوبة التي نحسب أنها تعمل على توضيح تلك المسألة.
-ما هي الأصول التي استندت إليها القومية في نشأتها وتكوينها؟
-هل للمسألة قومية صفات ثابتة ؟ وهل فيها جوانب مُتَغَيِّرة وما هي تلك الجوانب ؟ هل القومية مبدأ ثابت، أم هي جسم حيٌّ متحرِّك ؟
-هل هي مسألة نظرية فكرية، أي هل هي نتيجة فكرية، أم حقيقة موجودة يأتي الفكر لكي يساعد على بنائها؟
-هل للقوميات خصوصيات تساعد على تمييزها وتحدد هويتها، وما هي هذه الخصوصيات؟
-ما هي العوامل التي تساعد على تحديد الهوية القومية؟ وكيف تُسهِم العوامل التالية في تحديدها؟
-القرابـة. -اللغة. -الآمال المشترَكَة، والمصير المشتَرَك. -المصالح المُشْتَرَكَة: الاقتصاد، الأمن …
-التاريـخ: هل يُسْهِم التاريخ المشترك في بناء القومية؟ وهل كل التاريخ المشتَرَك يلعب دوراً في بناء القومية؟ وإذا كان جزءاً من التاريخ المشتَرَك سلبياً في علاقة أفراد المجتمع أو تجمُّعاته، هل يُعَدُّ من عوامل بناء المسألة القومية؟
-الثقافة الواحدة أو الثقافة المُشْتَرَكة: إذا كانت الثقافة مُتَعَدِّدة المشارب، فكيف تلعب دوراً في البناء القومي؟ وإذا لعبت ثقافة ما دوراً ما في تكوين وتأسيس القومية، هل نَعِدُّها ثابتاً أبدياً لا يمكن الخروج عنه حتى ولو أصبحت متخلِّفة عن روح العصور وحضاراتها الجديدة؟
أولاً: مقدمات نظريـة في المسألـة القوميـة
المسألة القومية ذات أصول غريزية ونفسية واجتماعية وسياسية. فالمسألة القومية جسم حي يتطوَّر، ينمو ويكبر وينضج. وهي بذرة غريزية غُرِسَت في نفس الإنسان، منذ ولادته، على قاعدة تأسيس أصغر خلية بشرية اجتماعية: كمثل علاقات (الأم-الأب/مع أطفالهم)؛ وعلاقة الأخوة والأخوات بين بعضهم البعض؛ وهذا ما نسميه بالأسرة، التي هي أصغر خلية اجتماعية.
تقوم علاقة الطفل بالأم والأب والأخ والأخت على قاعدة الحب المُتَبادَل بينهم؛ فهم يشعرون بالانشداد بين بعضهم البعض بعلاقة وجدانية خاصة تميِّزها عن العلاقات الاجتماعية الأخرى التي تربطهم بغيرهم من الأفراد الذين لا يتواصلون معهم برابطة القربى؛ وتنمو تلك العلاقة بشكل سليم بين أفراد الأسرة، فتتعمَّق وتنعكس إيجاباً على المستوى الاجتماعي والنفسي؛ أو أنها تنمو بشكل سلبي لتصل إلى مستوى العلاقات المتوترة؛ لكنها قلَّما تصل إلى القطيعة، لأسباب كثيرة، منها:
-إعتماد كل فرد من أفرادها، في أكثر شؤون الحياة، على الآخرين، مثل: تأمين الحاجة إلى العناية والعطف والتربية الجسدية والروحية.
-حاجة أفراد الأسرة إلى التعاون والتآزر في تأمين متطلبات العيش، مثل تأمين الحاجات المادية كالطعام ووسائل العيش الأخرى.
-تأمين الحماية ضد عوامل الطبيعة، وخطر الحيوانات، وضد أي عدوان يصدر من الخلايا البشرية الأخرى.
-إن وسائل تأمين الحاجات المادية والحصول عليها، تُوَلِّد علاقات نفسية وروحية ووجدانية مُمَيَّزَة بين أفراد الخلية.
-تنشأ علاقة جدلية متبادَلَة بين العوامل المادية والعوامل النفسية/الروحية. فكلما كانت العلاقات بحديها: المادي والروحي/الفكري سليمة بين أفراد الخلية الاجتماعية/الأسرة/العائلة كلما ظهرت حالات التماسك الاجتماعي متينة وثابتة. وكلما أصاب الخلل أحد حدَّيْ تلك العلاقات تُصابُ حالات التماسك بالفتور واللامبالاة والقطيعة.
تظهر العلاقات على صورة غريزة الحب بين أفراد الأسرة الواحدة، وخاصة بين الأم-الأب وأولادهم، حتى ولو كانت الأسرة في أدنى حالاتها البدائية. حتى إن علاقة الحب بين الحيوانات وصغارها، وهم أدنى مرتبة من الإنسان، تُعَدُّ علاقات غريزية تدفع بالثنائي: الأم-الأب، إلى تأمين الطعام والحماية لصغارهما.
إن العلاقات الغريزية بين أفراد أصغر خلية اجتماعية بشرية: الأم-الأب وأطفالهم، أو بين الأخوة والأخوات، تؤسِّس لرابطة فريدة من نوعها تصل إلى الحدود التي يتعصَّب فيها بعضهم لبعض.
إن إنكار حقيقة تلك العلاقات وأهميتها في بناء علاقات بين خلايا أوسع منها هو نوع من التعصب اللاعلمي، أو التعصب الأعمى غير القائم على دليل إثبات. ولكن العلاقات الغريزية، التي تلعب دوراً في تمتين أواصر الأسرة، تتطور إلى علاقات أعلى منها وأوسع تتسم بعلاقات يخف فيها تأثير الغرائز. ومن هنا نرى أن علاقة الأم-الأب مع أطفالهم لا تتساوى مع علاقة الأشقاء-الشقيقات مع بعضهم البعض؛ وهذه العلاقات لا تتساوى مع علاقات العمة أو الخالة أو العم والخال مع أبناء أشقائهم أو شقيقاتهم؛ كما أن علاقات هؤلاء لا تتساوى مع العلاقات مع الجيران، فهي تصبح أقل تماسكاً من العلاقات القرابية القائمة على روابط الدم.
وكلما ابتعدت العلاقات عن مركزية (الأم-الأب مع أطفالهم) تبتعد أكثر عن المستوى الغريزي إلى مستويات أخرى، فتصبح علاقات الجيران مع الجيران، ثم علاقات أبناء القرية مع بعضهم البعض، وعلاقات أبناء القرى المتجاورة، وصولاً إلى أكبر تجمعٍ بشري ممكن في بقعة جغرافية ما يسكنها هذا التجمع فيكتسب خصائصه التي تميزه عن التجمعات البشرية الأخرى… وهكذا تتصاعد العلاقات لتصبح لحمتها ذات أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وأمنية تعالج كل متطلبات التجمع البشري المميَّز وتعمل على تأمينها…
وكلما اكتسبت العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد أبعاداً أخرى غير الأبعاد القرابية تبتعد عن المعنى العشائري/العائد لصلة الدم؛ فتؤسِّس لقواعد علائقية قريبة من الثبات، وهي القواعد التي تُبنى عليها المجتمعات، فتميزها عن المجتمعات الأخرى. فما هي قواعد العلاقات الأساسية التي تجعل مجتمعاً ما متميزاً عن غيره؟
ماذا نقصد بالمجتمع المتميز، الذي أسَّس لنفسه قواعد شبه ثابتة من العلاقات على بقعة جغرافية ثابتة، عن المجتمعات الأخرى؟
كان تأسيس الإمبراطوريات في التاريخ يتم على قاعدة إبقاء حدودها مفتوحة. وللدلالة على ذلك يمكننا أن نتذكَّر أهمها:
-الدولة الحثية والكلدانية التي سيطرت على معظم ما يُسمَّى بالهلال الخصيب ثم انكفأت.
-الإمبراطورية الفرعونية، التي انطلقت من أرض مصر، والتي سيطرت على معظم أرجاء الهلال الخصيب ثم انكفأت.
-الإمبراطورية الرومانية التي انطلقت من روما، إيطاليا حالياً، وسيطرت على معظم ما يُسمَّى اليوم بأرض العرب ثم انكفأت.
-إمبراطورية الإسكندر المقدوني، التي انطلقت من اليونان وسيطرت على معظم ما يُسمَّى اليوم بأرض العرب ثم انكفأت.
-الإمبراطورية البيزنطية، والإمبراطورية الساسانية…
– وكان آخرها الإمبراطورية الإسلامية، ولن ننسى الإمبراطورية الإنجليزية التي كانت لا تغيب الشمس عن أراضيها…
ولكن، على الرغم من أن تلك الإمبراطوريات كانت قد بنت قواعد سياسية وعسكرية لها أهميتها في تاريخ البشرية، لا بُدَّ من التساؤل: هل استطاعت أن تبني مجتمعات متميِّزة يصحُّ أن نطلق عليها مصطلح مجتمع وطني أو قومي بالمفهوم الحديث؛ أم أنها، بما ضمَّت إليها من شعوب متنافرة بالروابط الاجتماعية والروحية والمادية… تفسَّخت وتفتَّتت عندما ضعُف المركز السياسي-العسكري لتلك الإمبراطوريات؟
لا بُدَّ من أن تكون كل تلك الأمثلة التي ذكرها التاريخ ماثلة في الذهن. ولا بُدَّ، أيضاً، من أن نتساءل لماذا تأسست كل تلك الإمبراطوريات، ولماذا انكفأت؟
حاولت النظريات السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية – النفسية / الروحية أن تفسِّر أسباب التأسيس ثم الانهيار، وتوصَّلَت إلى نتائج، من خلالها، وُضِعت نظريات ما يُسمَّى بالوطنية والقومية؛ وهذه النظريات توصَّلت إلى أن الدول القائمة على القهر العسكري- السياسي لمجتمعات غير متجانسة لا بد أن تزول بزوال الأسباب والعوامل التي أسهمت في بنيانها. إما إذا استطاعت إمبراطوريات الفتح العسكري-السياسي أن تغرس عوامل الوحدة القائمة على التجانس والتطابق بين المجتمعات التي ضُمَّت إلى الإمبراطورية، وبشتى مظاهرها اللغوية والثقافية والروحية والمادية والاجتماعية والأمنية، فإنها بذلك تؤسَّس لنواة مجتمعات متجانسة يمكن أن نطلق عليها مصطلح (مجتمعات وطنية) أو (مجتمعات قومية).
فالمجتمع المتميِّز الذي نقصده، هنا، هو ذلك المصطلح السياسي الحديث الذي يُطلَق على تلك المجتمعات التي سيَّجت من حولها حدوداً جغرافية ثابتة، واكتسبت عوامل التجانس والتطابق في معظم عوامل البناء الوحدوي للمجتمع، فصحَّ أن يُطلَق عليها تعبير (الحدود الوطنية، أو الحدود القومية).
ثانياً: تعريفـات نظريـة في المسألـة القوميـة
1- تعريف القومية، والوطنية في اللغة العربية؟
-القوم: (قوم) الرجل، أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد…وقد (يقيم) الرجل بين الأجانب فيسميهم (قومه) مجازاً للمجاورة… وقيل: كان مقيماً بينهم، ولم يكن منهم ([1]).
-الوطن: مكان الإنسان ومقرُّه، ومنه قيل لمربض الغنم (وطن). و(الموطِن) مثل الوطن ([2]).
2- تعريف القومية، والوطنية في المعجم الفلسفي؟
جاء حول تعريف القومية
(Nationalite) (Nationality)،
ما يلي:
-القوم في اللغة: الجماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها. والقوم في الاصطلاح: الجماعة من الناس تؤلف بينهم وحدة اللغة، والتقاليد الاجتماعية، وأصول الثقافة، وأسباب المصالح المشتَرَكة. ويرادفه لفظ الأمة (Nation)، وهي مجموع الأفراد الذين يؤلفون وحدة سياسية تقوم على وحدة الوطن، والتاريخ، والآلام، والآمال.
-والقومي
(national)
هو المنسوب إلى القوم، تقول: الأعياد القومية، والتقاليد القومية. ويُطلَق القومي، أيضاً، على الرجل الذي يؤمن بقومه، ويعتزُّ بهم، ويساعدهم على جلب المنفعة ودفع المضرَّة.
-والقومية
(Nationalite)
هي الصفة الحقوقية التي تنشأ عن الاشتراك في الوطن الواحد، ويرادفها الجنسية، تقول: الجنسية اليونانية، والجنسية الفرنسية. ومبدأ القوميات أو الجنسيات
(Principe des Nationalites)
هو القول بوجوب اعتبار كل أمة شخصاً معنوياً له الحق في الوجود والتقدم وفقاً لطبيعته. والقومية، أيضاً، صلة اجتماعية عاطفية تتولَّد من الاشتراك في الوطن، والجنس، واللغة، والثقافة، والحضارة، والآمال، والمصالح.
-والمذهب القومي
(Nationalisme)
مذهب سياسي قوامه إيثار المصالح القومية على كل شيء؛ فأما أن يظهر هذا الإيثار في منازع الأفراد، وأما أن يظهر في منهج حزب سياسي يناضل في سبيل قومه، ويدافع عنهم، ويعتزُّ بهم. والقومية قوميتان: قومية ضيِّقة وقومية واسعة. الأولى تضع نفسها فوق كل شيء، وتتعصب لجنسها، أو دينها، أو لغتها، أو ثقافتها، أو تاريخها تعصباً أعمى. والثانية تمدُّ بصرها إلى العالم للاقتباس منه أو للإسهام في تقدمه الحضاري. وبين هذه القومية الواسعة والإنسانية الكاملة وحدة عميقة، لأن الفرد لا يستطيع أن ينمي ذاته إلا داخل الإطار القومي، كما أنه لا يستطيع أن يكون مخلصاً لقوميته إخلاصاً حقيقياً إلا إذا عمل على توكيد إنسانيته الكاملة ([3]).
3- تعريف القومية، والوطنية في معجم علم الاجتماع؟
-أمــة:
(Nation)
جماعة مستقلة ذات إقليم واحد محدد، يشترك أعضاؤها في الولاء لمؤسسة واحدة، مما يؤدي إلى إحساسهم بالوحدة وبأنهم يكوِّنون مجتمعاً. ولا يلزم لقيام الأمة أن تكون ذات أصل مشترك، أو لغة واحدة، أو دين أو عنصر واحد، وإن كانت الأمم تتكون عادة اعتماداً على التاريخ المشترك ووجود عناصر ثقافية أخرى متشابهة.
-طابع قومي:
(National Character)،
ويأخذ مفهومه من العوامل التالية:
1-بناء الشخصية الذي يُفتَرَض أنه مميز لأعضاء المجتمع الواحد. ويعتمد هذا المفهوم على فكرة أن النماذج الثقافية المختلفة في مجتمع تصنع أنماطاً للشخصية يمكن التفرقة بينها، حيث يسود كل نمط منها في ثقافة معينة أو في مجتمع بالذات.
2-أو أنه مجموعة الخصائص المميزة للشخصية، والخصائص الثقافية، والبناءات الثقافية، والبناءات النظامية التي تكفي لتمييز مجتمع معين عن غيره من المجتمعات… وقد تأثَّر أغلب علماء الأنتربولوجيا الثقافية في تحليلاتهم بتأكيد علم النفس المستمر على أثر الطفولة المبكرة والتنشئة الاجتماعية في تشكيل بناءات الشخصية.
3-لا يمكن القول بأن الطابع القومي يندرج تحت نموذج وحيد، لأن التنوع والاختلاف داخل الأمم نفسها قد يكون أكبر مما هو قائم بينها، وإذن فمن الضروري أن نحدد المرحلة التاريخية التي يظهر فيها الطابع القومي بوضوح. لأنه على الرغم من أن هناك بعض الخصائص المميزة التي تبقى ثابتة نسبياً، إلا أنه من غير المنطقي أن نتصوَّر أنه لا يخضع لتغيرات سريعة تحت وطأة ظروف معينة، كالثورات أو الاحتلال الأجنبي ([4]).
ثالثاً: الصراعات الدينية – الزمنية، في الغرب، ودورها في تكوين النظرية القومية.
بدأ مفهوم القومية بالانتشار، منذ أواخر القرن الثامن عشر، بعد ظهور الحركة الرومنطيقية الألمانية، كردِّ فعلٍ من المثقفين والأدباء والشعراء والمفكرين الألمان على هزيمة وطنهم أمام الفرنسيين.
وامتدَّ تأثير المفهوم وانتشاره إلى أفريقيا وآسيا في القرن العشرين، الذي يُعَدُّ، سياسياً، قرن ظهور القوميات… وأصبحت القومية في العالم الثالث ثورةً من أجل الكرامة والنهضة الحضارية، ومُحرِّكاً تحررياً وعاملاً من عوامل مقاومة الاستعمار…
لكن هل كانت الحركة الرومنطيقية الألمانية أصل وحيد من أصول نشأة النظرية القومية أم أن هناك عوامل لعبت دوراً مؤثِّراً فيها؟
من المعروف، تاريخياً، أن الدولة الدينية المسيحية تأسَّست في روما ومنها امتدَّت سلطتها الروحية والزمنية لتشمل أوروبا بأسرها. وبذلك حكمت السلطات الزمنية في كل أنحاء أوروبا. فخضعت لها تيجان الملوك والأمراء.
1- كيف تطوَّرت سلطة الكنيسة، الدينية والسياسية، عبر مراحلها التاريخية؟([5])
استطاعت الكنيسة في روما – في حدود القرن4م- أن تصبح أقوى من السلطة الزمنية؛ إذ لم يلبث الأساقفة، لا الحكام الرومان، أن صاروا هم مصدر النظام ومركز القوة والسلطان في مدائن الإمبراطورية. وكان المطارنة وكبار الأساقفة أكبر عون لحكام الولايات، إن لم يكونوا قد حلُّوا محلَّهم؛ كما حلَّ مجمع الأساقفة محل جمعيات الولايات.
ففي القرنين 5و6م كانت الكنيسة الكاثوليكية تمثِّل القوة المعنوية الوحيدة التي ظلَّت متماسكة أمام عوامل الاضطراب والفوضى والتخريب، وذلك بعد أن تداعى المجتمع الروماني،فزالت الوطنية الرومانية،وتجمَّع الناس حول الكنيسة، فغدت هي والقومية الرومانية شيئاً واحداً.
وبهذا أصبحت سلطة الكنيسة، الدينية والسياسية، مثالاً لأممية مسيحية مُصَغَّرَة. فاتَّحد الديني والسياسي بين يديْ البابا والأساقفة التابعين لسلطته الروحية والزمنية. وأصبح الملوك والأمراء والنبلاء لا يكتسبون شرعيتهم الزمنية إلا بمباركة كنسية. ولكن، وعلى مساحات تاريخية واسعة وطويلة، بدأت بذور الشقاق تنطلق من النقطة التي أصبحت فيها المصالح متضاربة بين طرفي الاتفاق. لقد تناقضت المصالح فابتدأ الصراع.
2- كيف ابتدأ الصدام بين الكنيسة والملوك؟
حتى العام (1294م=693هـ) كانت البابوية لا تزال أقوى الحكومات الأوروبية. وبه ابتدأت علامات الشقاق بين البابا بنيفاس وفيليب، ملك فرنسا، حول مسألة فرض ضرائب على الكنيسة لاستخدامها في قتاله مع ملك بريطانيا. عارض الرهبان إرادة الملك، وبعثوا يستنجدون بالبابا. وعلى الرغم من أن فرنسا كانت من أهم أعمدة البابوية، إلا أن البابا أحسَّ أن الأساس الاقتصادي للبابوية لن يلبث وينهار إذا ما انتُزِع منها إيرادها؛ فعارض طلب ملك فرنسا، فألحَّ الأخير، فاعترف البابا بحق الملك. لكن سرعان ما اختصم الإثنان، وكان السبب: أن ملك فرنسا حاكم المندوب البابوي في فرنسا في العام (1301م=700هـ). فطلب البابا من الملك أن يُطلِق سراح مندوبه، وإلا فالامتناع عن تسليم الإيرادات الكنسية للدولة. فلم يستجب فيليب، فطلب منه البابا أن يطيعه في كل الشؤون حتى الزمنية منها؛ فردَّ فيليب متَّهماً البابا بالحماقة، رافضاً الخضوع له في الشؤون الزمنية.
وفي العام (1302م=701هـ) حرق فيليب مرسوم البابا؛ فدعا هذا إلى مجمع كنسي صدر عنه أن «ليس للمسيح إلا جسد واحد ورأس واحد؛ وإن الرأس هو المسيح، وممثله البابا الروماني». فردَّ عليـه فيليب في العام (1303م=702هـ) بإصدار وثيقة اتَّهم فيها بنيفاس رسمياً بأنه ظالم وساحر وكافر. فكانت نتيجة الصراع في هذه المعركة أن أُسقِطَ بنيفاس، وانتصر الملك. فكانت نتائج هذه المعركة انتصاراً للقومية على ما فوق القومية، وللدولة على الكنيسة.
لم يكن هذا الصراع الوجه الأبرز الذي سبَّب سقوط دور الكنيسة، لكن إلى جانبه ظهر كثير من العوامل التي قوَّضت الكرسي البابوبي، فما هي تلك العوامل؟
3- العوامل التي لعبت دوراً أساسياً في تقويض سلطة الكنيسة:
كانت الكنيسة قوية، وفي الوقت ذاته، وبأخطاء ارتكبتها، وبظروف ومتغيرات كانت تحصل في أوروبا، أخذت تتجه نحو الضعف. فمن عوامل الصراع مع السلطة السياسية، إلى عامل الصراع مع العقل والفلسفة، إلى الأخطاء التي كانت ترتكبها، أخذت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تنحدر باتجاه فقدان مواقعها واحداً تلو الآخر. لذا استمرت قوية من العام (814م=198هـ) إلى العام (1303م=702هـ)، أي ما يقرب من الخمسة قرون من الزمن.
تكاثرت آلاف العوامل والمؤثرات الكهنوتية والفكرية والعاطفية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية؛ وأخذت تتجمَّع بعد قرون من التعويق والاضطهاد في دوامة تقذف بأوروبا في أعظم فورة شهدتها منذ غزو البرابرة لروما. ومن هذه العوامل:
– إضعاف البابوية والانقسام في صفوفها، والترف الذي يرفل فيه البطاركة، وبيع صكوك الغفران…
– إنتصار الإسلام على العالم المسيحي في الحروب الصليبية.
– تدفق العِلْمُ العربي والفلسفة العربية-الإسلامية.
– الشك الذي مارسه عدد من الفلاسفة وعلى رأسهم أوكهام.
– إختراع الطباعة وانتشار القراءة والكتابة.
– إدراك التناقض بين فقراء الرسل وبساطتهم وبين ثراء الكنيسة الفاحش.
– ثراء ألمانيا وإنجلترا واستقلالهما الاقتصادي، ونمو طبقة وسطى ترفض التسليم بقيود رجال الدين.
– تدفق الأموال إلى روما من جبايات الدول التابعة للكنيسة.
– التأثير القومي للغات، والآداب، والآداب الشعبية، وبروز المسألة القومية.
كانت الكنيسة في القرن14م=8هـ تعاني من الذل السياسي والانهيار الخلقي-بعـد أن لعبت دوراً إيجابيـاً- فأخذت تنحطُّ حتى لم يعد لها إلا المحافظة على مصالحها الكنسية، والمحافظة على بقائها وأموالها. وتفنَّن الباباوات في وسائل الحصول على الأموال، ومن الأقوال التي جاءت حول ذلك:
-إن كنيسة روما قد ساءت سمعتها في جميع الأقطار حتى أصبح الناس يعلنون في خارجها أن جميع من تضمهم من الرجال: من أكبرهم مقاماً إلى أصغرهم شأناً قد امتلأت قلوبهم بالطمع والجشع…
-إن الذئاب تسيطر على الكنيسة، وتمتص دماء الشعب المسيحي.
-إن خليفة الحواريين قد وُكِّلَ بأن يقود غنم الرب إلى المراعي، لا أن يجزَّ صوفها.
4- بداية الخلاف بين رجال الكنيسة كانت تستند إلى جذور قومية:
إضافة إلى ذلك فقد حصلت خلافات بين الباباوات أنفسهم؛ فلما كانت روما مركزاً للبابوية، تسلل الخلاف إلى المجمع البابوي في العام (1378م=780هـ) حول اختيار البابا، إذ حصل ضغط رسمي وشعبي في سبيل انتخاب بابا من روما، وأقلُّه أن يكون إيطالياً؛ فارتاع المجمع وانتخب إريان السادس، فكان في أثناء ولايته مستبدَّاً ومُتَفرِّداً. وعلى إثر ذلك اجتمع الكرادلة الفرنسيون في العام (1379م=781هـ) وأعلنوا أن انتخاب إربان باطل لأنه تمَّ تحت ضغط غوغاء روما، وانضمَّ إليهم الكرادلة الطليان. فانتُخِبَ كليمنت السابع، واتَّخذ له مقاماً في مدينة أفينيون الفرنسية. كان هذا الانقسام، على صورة النتائج التي أسفر عنها قيام الدولة القومية؛ وكان لفرنسا مأرب سياسي في الاحتفاظ بعون البابوية.
رابعاً: دور اللغات المحلية، وانتشار الثقافة، في تكوين الفكرة القومية في أوروبا:
1- نشر الإنجيـل باللغات القوميـة : كان الحادث الأهم في عصر النهضة هو نشر الإنجيل باللغة القومية، مما أدى إلى وضعه تحت تصرف من يقرأ أومن يسمع . وكان السبَّاق إلى مثل هذا العمل هو مارتن لوثر، الذي ترجم الكتاب المقدَّس إلى اللغة الألمانية ؛فجعل بترجمته هذه لغة مشتركة للشعب الألماني. وكذلك تمَّ نشره باللغة المحلية في إنجلترا.
2- تطـور حركـة التعليم وانتشار الثقافـة : لما ابتدأت الكنيسة تشق طريقها في الإمبراطورية الرومانية، أخذت تُنشِيءُ – منذ القرن6م- مدارس لتعليم المعتنقين الجدد للدين المسيحي، ولقساوسة المستقبل. وحمَّلت مدارس الأديرة وحدها – في أول الأمر- هذا العبء كلَّه تقريباً. واستمرَّ احتكار الكنيسة، في إنشاء المدارس والجامعات والإشراف عليها، حتى بدايات القرن 15م=9هـ. أما قبل هذه البدايات وبعدها فقد حصلت جملة من التطورات والمتغيرات، التي انعكست آثارها بشكل إيجابي على تطور حركة التعليم والثقافة في أوروبا. ومن جملة هذه المتغيرات، ما يلي:
3- الانتقال من أوحدية اللغة اللاتينية إلى اللغات القومية: حافظت الكنيسة -حتى حدود القرن 11م=5هـ- إلى حد ما، على وحدة أوروبا التي حققتها الدولة الرومانية؛ فكان المتعلمون – قبل هذا القرن – من أهل تلك البلاد يستخدمون اللغة اللاتينية في مراسلاتهم على شكل واسع ووحيد، وكذلك في أعمالهم التجارية والدبلوماسية والقانون والعلم والفلسفة. لكنه مع سقوط الدولة الرومانية انفصمت العلاقات بين المناطق الأوروبية؛ فأخذت الاختلافـات في الكـلام تظهر، وما لبثت أن اتَّسعت بسبب عزلة المتحدثين بها بعضهم عن بعض. ومن هنا بدأت اللغات القوميـة تأخذ مكانهـا بـين شعوب دول أوروبا.
4- إنتشار الجامعـات : يُعَدُّ القرن13م=7هـ في الغرب قرن تأسيس الجامعات، الواحدة بعد الأخرى، في شتى مدن أوروبا. وعلى الرغم من سيطرة اللاهوت المسيحي على مناهج التعليم في تلك الجامعات، إلا أنها كانت تُخرِّج أقلية من الرجال المتعلمين الذين لم تكن آراؤهم مما يرضي الكنيسة على الدوام. فها هو القديس برناردينو يقول في العـام (1420م=823هـ): «إن كثيراً من الناس،إذا نظروا إلى ما يرتكبه الرهبان والإخوان والراهبات، وغير هؤلاء من رجال الدين لتشمئزُّ نفوسهم، بل إنهم كثيراً ما يتزعزع إيمانهم…ولا يرون أن ما ورد في الكتب عن الدين صادق وصحيح…».
فهذه جامعة بولونيا، مثلاً، قد انطبعت – في القرن13م=7هـ – بروح علمانية تكاد تكون معادية للكنيسة. لقد انهارت كثير من أعمال العصور الوسطى أمام عجلة الزمن التي تُدمِّر كل شيء في سبيلها. أما الجامعات التي خلَّفها لنا عصر الإيمان، بكل ما فيها من عناصر التنظيم، فها هي تُكيِّف نفسها حسب التطورات التي لا مفر منها.
خامساً: تأثير الفلسفة العربية – الإسلامية في تكوين النظريات السياسية الوضعية:
كان القرنان 13و14م=7و8هـ – بشكل خاص – بحاجة إلى الوقوف في وجه هيمنة الفكر اللاهوتي، الذي ساد كل القرون الوسطى، وحين عُثِر على شروح ابن رشد أيقن أنه وجد ضالَّتَه؛ فاستخدم الرشدية من أجل التعبير عن الإنسان المتحرر من هيمنة فكرة الخطيئة، وتأكيد قدرة العقل الإنساني وعظمته.
ولذلك أخذت الرشدية السياسية مداها مع مارسيليو البادوي
marsile de padoue (1273-1343م= 671-743هـ) الذي جاء بمفهوم جديد للقانون حين أسَّس شرعية كل قانون، لا على
إقامة المصلحة العامة فحسب، بل على رضا الشعب وقبوله لمثل هذا القانون. وأهميته أنه جعل من العودة للشعب مصدراً للتحرك السياسي في سبيل التخلص من السلطة التي تحكم بقوانين لا يرضاها الشعب لنفسه. وفي هذا يخالف فكر العصر الوسيط المتمثل بالأكويني الذي يعتقد أن القانون نظام العقل غايته المصلحة العامة. فبدل العقل المجرَّد –حسب مارسيليو- أصبحت هناك إرادة شعبية تنتج قانوناً له صفة الإلزام والقهر. وهكذا يصبح مارسيليو رائداً في إبراز القانون الوضعي الذي لا يصدر عن عقل عام يرى الخير والشر، بل عن مجموعة من الناس ارتأت لنفسها أن تعيش في ظل قانون اشترعته هي، وأرادته ملزماً لها.
قاد مارسيليو معركة استقلالية الفلسفة عن اللاهوت آخذاً البعد الاجتماعي، من حيث أنه جاء بمفهوم جديد للقانون، وكان رائداً من روَّاد الديموقراطية. وأصبح كل همِّه نزع الصلاحيات من رجال الأكليروس عدا السلطة الروحية. لذا يقول بأنه لو ارتكب إنسان هرطقة دينية فسيحاكم الله صاحبها في الآخرة. أما إذا كان للهراطقة تأثير اجتماعي سلبي، فليس على الكنيسة أن تتحرك، بل على السلطة المدنية أن تتحرك وتطبِّق قوانينها الوضعية.
فتح مارسيليو آفاق الحداثة، وكسر المفهوم المونوليتيكي
monolithique
للأمة؛ وآمن بأن في العالم قوميات متعددة مختلفة متباينة من حقها أن تؤسِّس دولاً عديدة تختلف عن بعضها البعض حسب اختلاف عاداتهـا وتقاليدها ولغاتها.
سادساً: تأثير بناء إمبراطوريات الاستيلاء الأوروبية في تكوين الفكرة القوميـة:
من بعد أن انتهى الصراع بين سلطة الكنيسة وسلطة الملوك، وبه انتهى عصر سيطرة الكنيسة على السياسة منذ أوائل القرن الثامن عشر تقريباً، ابتدأ عصر الصراع السياسي- العسكري بين الإمبراطوريات الأوروبية، فابتدأ عصر جديد في نشأة الفكر القومي.
دارت حروب الاستيلاء بين أكبر إمبراطوريات أوروبا، ومن أهمها: إنكلترا، فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، السويد، روسيا… وبقيت حدود الدول/الإمبراطوريات في ذلك العصر مفتوحة. كانت تكبر حيناً بعد أن تستطيع الاستيلاء على ممالك أخرى وتضمَّها إليها، وعندما تخسر تلك الممالك وحدها أو مع جزء من أراضيها تنحسر رقعتها الجغرافية ويضعًف تأثيرها السياسي.
مرَّت أوروبا في مراحل حروب داخلية طويلة ومريرة، إلى أن استكانت أخيراً بفعل الاتفاقيات الكثيرة والعديدة التي كانت تقلِّل من فرص الاستيلاء من جديد، وهذا السبب الذي أخذت فيه حدود الدول تصبح أكثر ثباتاً من السابق. ولم تستقر حدود الدول ،بشكل نهائي وثابت، إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945م. وأصبحت تلك الحدود محميَّة بالاتفاقات الثنائية من جهة، والمعاهدات والمواثيق الدولية من جهة أخرى.
سابعاً: القرن التاسع عشر هو عصر القوميات([6]):
وبالإجمال فقد اتَّفق الباحثون على تسمية القرن التاسع عشر الميلادي باسم «عصر القوميات»، لأن الأحداث السياسية والعسكرية المهمة التي غيَّرت معالم خارطة أوروبا السياسية في خلال القرن المذكور، إنما حدثت من جرَّاء تغلغل الفكرة القومية في نفوس الأمم الأوروبية.
كان في أوروبا عدة أمم موزَّعَة بين دول مختلفة، وبالعكس من ذلك، كانت عدة دول مسيطرة على أمم مختلفة. فكانت حدود الدول تتقرَّر – في أغلب الأحيان – بنصوص المعاهدات التي تُعقَد بعد الحروب؛ وفي أحيان أخرى من دون قتال أو حرب، من جرَّاء زواج الملوك أو وفاتهم في ظروف خاصة، فكانت الممالك تنتقل من حكم دولة إلى أخرى حسب أحكام قوانين وراثة العرش. ولذلك كثيراً ما كانت تنتقل بعض البلاد من حكم مملكة إلى حكم مملكة أخرى من طريق الغُنْم أو الصِداق أو الميراث من دون أن تلتفت إلى طبيعة سكانها، وعلاقتهم بسكان المملكة التي تنفصل عنها، أو التي تضمُّ إليها. وقلَّما كانت الدول تنطبق على حدود القوميات. وعلى سبيل المثال، كانت السلطة العثمانية تضمُّ – في أوروبا وحدها – ست قوميات مختلفة: يونان، بلغار، ألبان، يوغوسلاف، رومان، أتراك. وبعد تلك الصراعات الطويلة، لم تعرف القوميات استقراراً في داخل دولة قومية.
1- الأنظمة السياسية الأوروبية بين مؤيد للفكرة القومية وبين معارض:
لا بُدَّ من الإشارة إلى أن أخصب البيئات الأوروبية لنشوء الفكرة القومية كانت البلاد الألمانية. فهم برعوا في ميادين العلم والأدب، وظلُّوا ضعفاء في ميدان السياسة لانقسامهم إلى دول ودويلات كثيرة. فكان من الطبيعي أن تنشأ الفكرة القومية وتترعرع بسرعة كبيرة في البلاد الألمانية بعد النكبات التي توالت عليها في خلال سلسلة طويلة من الحروب، كان من أبرزها حروب نابوليون بونابرت. ولذا انتشر «الإيمان بوحدة الأمة الألمانية».
إن معظم دعاة القومية وزعمائها، في مختلف الدول الأوروبية، تلقوُّا أول دروس القومية من مفكري الأمة الألمانية وكُتَّابها. وكانت إيطاليا – أيضاً – من أخصب البيئات لنشوء الفكرة القومية.
وعلى العكس من ألمانيا وإيطاليا، كانت النمسا وروسيا من أشدِّ الدول مقاومة للفكرة القومية، وذلك لأن كل واحدة منهما كانت تحكم عدَّة أمم مختلفة. فلو انتشرت الفكرة القومية بين رعاياها لزعزعت أسس تكوينها، ولعرَّضت كيان السلطة إلى أشدِّ الأخطار.
أما فرنسا، فسارت – تجاه القضايا القومية – على سياسة تتأرجح بين «المعارضة» و«المساعدة»، لماذا؟
كانت فرنسا تخشى قيام دولة ألمانية قوية على حدودها الشمالية من جهة، وكانت تطمح إلى أن توسِّع حدودها إلى نهر الراين الألماني من جهة أخرى، فتصبح حينئذٍ مُحاطَة بحدود طبيعية من جميع الجهات. لكن رغباتها كانت تصطدم بمبدأ «حقوق القوميات» لأن سكان البلاد التي تمتد بين حدود فرنسا ونهر الراين كانوا ألماناً. فكان من الطبيعي أن تكره فرنسا «الفكرة القومية» تحت تأثير هذا الواقع الذي يمنعها من تحقيق أحلامها.
وبعد انتصار الثورة الفرنسية في العام 1789م، أصدر مجلس الثورة تصريحه المشهور في حقوق الإنسان». وغنيٌّ عن البيان أن هذه المبادئ كانت تستلزم، بطبيعتها، إقرار «حقوق القوميات». فكان من الطبيعي أن يتبنىَّ هذا المبدأ المذكور كثيرون من رجال الفكر والسياسة الفرنسيين.
2- المفكرون الأوروبيون بين مؤيد للفكرة القومية وبين معارض:
إن واقع نشأة الفكر القومي في أوروبا لا يعني أن كل السياسيين والمفكرين كانوا يؤيدونه، وقد تصدَّى له عدد منهم، مثل:
– مترنيخ – النمساوي – الذي هزأ بفكرة الوحدة الإيطالية، بقوله: «لا رابطة تربط مختلف الأقطار في إيطاليا غير التسمية الجغرافية».
– ديزرائيلي – الإنكليزي – وصف الفكرة القومية، بقوله: «قد خلقها جماعة من الطلاب المحرومين من المخ، ومن الأساتذة الموغلين في التعصُّب».
– تيير – الفرنسي- قال: «لا أعرف مبدأً أشد سخافة من هذا المبدأ، وأقدر منه على الهدم والتخريب».
– جماعة من رجال الدين الكاثوليك، الذين عقدوا مجمعاً كنسياً في فيينا في العام 1849م، وصفوا فيه القومية بالكفر والضلال.
أما بعض الذين أيَّدوا الفكر القومي، فمنهم:
– فيختـه – الألماني – شبَّه، في العام 1808م، الفكرة القومية بصور «إسرافيل»: إنها تحيي الأموات.
– هنري مارتن – الفرنسي- قال في العام 1847م : إن «مسألة القوميات -بجانب المسائل الاجتماعية – ستتغلب على كل المسائل الأخرى في كل القارة الأوروبية؛ وعلى أن الدول التي لا تستقي حكمة وجودها من هذا المبدأ، ستتغيَّر تغيراً جذرياً، أو ستتجزَّأ أو تنحلُّ تماماً».
– ماكس نورداو – الألماني – قال: «إن الذين فقدوا البصيرة، هم رجال يزعمون أن الفكرة القومية هي من الآراء الطارئة، التي لا تلبث أن تندثر مثل اندثار الموضات، إنها من الظواهر والحوادث الطبيعية التي لا يمكن تأخيرها ولا منعها».
والجدير بالملاحظة أن الأبحاث التي نُشِرَت في «الفكرة القومية»، في خلال القرن التاسع عشر، كانت تنحصر بالشعوب الأوروبية وفروعها، ولم تشمل الشعوب الآسيوية والأفريقية. وكان جميع المفكرين الأوروبيين يزعمون أن تلك الشعوب ليست «متأخرة» فحسب، بل هي «محرومة من قابلية التقدم والتمدن»، أيضاً.
ثامناً: خاتمـــة
تسير الطبيعة، على مستوى البشر والحيوان والجماد، على خطى مجموعة من المبادئ العامة / القوانين؛ والتي بدونها وبدون الثبات في بعض جوانبها العامة لما كان بالإمكان أن تُوضع قواعد خاصة لكل تجمُّعٍ من التجمعات التي تنظِّم مختلف شؤون حياتها. وتأتي تلك المبادئ العامة / القوانين لتعمل على تنظيم تلك القواعد الخاصة على أساس علاقات تستطيع أن تُنظِّم شؤون التجمعات المختلفة.
تُنظِّم الغرائز علاقة الوالدين بأولادهم، بحيث لا يمكن أن يتخلَّى الوالدان عن أبنائهم منذ ولادتهم حتى آخر نسمة من الحياة، مما يؤكِّد على أهمية تلك الغرائز في حفظ الجنس البشري.
وكلما ابتعدت علاقات الخلايا البشرية عن رابطة الدم/رابطة القربى يعني أنها أخذت تبتعد عن الدائرة الغريزية. وتسلك مستوى آخر من الروابط بين الخلايا الاجتماعية/الأُسَر المتباعدة عن رابطة الدم، وتكتسب ضرورتها من مبدأ التعاون، كقيمة من القيم الإنسانية المُطلَقة؛ فتتحوَّل رابطة الدم إلى رابطة اجتماعية تتعاون على أساسها الخلايا البشرية المختلفة في سبيل تأمين نفعها العام والمشتَرَك.
كانت القومية تكتسب معناها من واقع الانتساب إلى قوم تربطهم وثيقة الدم الواحد، القائمة على قاعدة الغريزة. ولما تعدَّدت وثائق الارتباط بالدم في داخل مجموعة من البشر تربطهم مصالح إنسانية لا بد من التعاون الشامل لتأمينها، ارتقى معنى العلاقات التي تنظم مصالح هذا «القوم» الجديد إلى مستوى العلاقات الاجتماعية، القائمة على قاعدة التعاون الاجتماعي. وهكذا تأخذ العلاقات بين التجمعات البشرية معناها من مستوى التعاون المطلوب لتنظيم شؤون حياتها.
تكون العلاقات بين أفراد أي مجتمع من المجتمعات ضرورية لبنائه بشكل سليم، وتشعر المجتمعات بأهمية هذه العلاقات وأهمية اتساعها وشموليتها كلما ازدادت وسائل الاتصال بينها، وكلما تشابكت مصالحها. وهذا ما يفسِّر بشكل أوضح لماذا ارتقت المجتمعات من العصر العشائري القائم على صلات القربى، إلى المستوى القائم على قواعد وقوانين ومواثيق بين العشائر التي يجمعها إقليم جغرافي واحد يحتِّم عليها أن تخضع جميعاً بولائها لها. ويفسِّر، أيضاً، السبب الذي من أجله قامت عدة مجتمعات/دول بتوقيع معاهدات ومواثيق بينها تُنظِّم مختلف شؤون المسائل التي تحتاج إلى تنظيمها بشكل لا تطغى فيه مصالح الواحدة منها على مصالح الأخرى.
وبهذا الواقع ارتقى محتوى المفهوم القومي، منذ اللحظة التي ابتعد فيها عن المعنى العشائري، إلى محتوى اجتماعي وسياسي واقتصادي لا يمكن لأي عشيرة فيها أن تقوم بأودها منفردة. وتوسَّع نطاق العشيرة القائم على رابطة الدم، بواسطة الغزو والاستيلاء، إلى نطاق أوسع أخذت فيه صِلات القربى تخف وتضعف، أو لأسباب أخرى كالاتفاق على التعاون بدلاً من الاقتتال والاحتراب فيما بينها.
كانت القومية، بهذا المعنى، حقيقة إنسانية وغريزية وأصبحت حقيقة اجتماعية وسياسية واقتصادية. وتأخر ظهورها، كمبدأ نظري، إلى حيِّز الوجود إلى أن تطورت حياة المجتمعات ومرَّت بأطوار كانت فيها الدول التي تحكمها تتوسَّع أو تتقوقع، إلى أن أخذ الفكر البشري يفسِّر ويعلِّل ظواهر ووقائع واتجاهات ونتائج الصراعات الدامية في داخل تلك الدول تارة ومع الخارج تارة أخرى، على قاعدة الدفاع عن النفس أو العمل على الاستيلاء للتوسع على حساب الآخرين.
ومنذ أن أخذ الفكر الغربي، كجزء من الفكر الإنساني، يحلل واقع العلاقات بين الدول الأوروبية، وحالة الصراع المستمرة: تارة بين الكنيسة المسيحية وبين ملوك وأمراء الدويلات الأوروبية، وتارة أخرى بين تلك الدويلات، وجد أن هناك حقوقاً للأفراد والمجتمعات والتجمعات القومية، ووجد أنه يحق لكل تجمع يتميَّز عن الآخر الحق في بناء دولة مستقلة بحيث تكون الصراعات بين أفراده قليلة ونادرة ولكنها على كل الأحوال لن تكون صراعات وجود بل هي صراعات على تأمين الحقوق للمواطنين بالعدل والمساواة. فنبتت الفكرة القومية في أوروبا، ليس على أساس أن القومية هي ابتكار أوروبي، ولكنها كانت حقيقة من حقائق بناء الأسرة البشرية والمجتمع البشري، فجاء الفكر الأوروبي ليضع بعض قوانينها التي تنظم حياتها. وهذا شبيه باكتشاف كروية الأرض: فالأرض كانت منذ الأزل تدور حول نفسها وحول الشمس، على الرغم من أن الفكرة التي كانت سائدة كانت قائمة على قاعدة الإيمان الديني الذي أنكر أن تكون الأرض كروية؛ ولما جاء غاليليه برهن أنها كروية، ولكنه لم يصنع كرويتها. وهكذا عندما اكتشف الفكر الأوروبي قوانين المسألة القومية برهن على أنها كانت حقيقة، لكنه لم يصنعها.
ومنذ القرن التاسع عشر أخذت نظريات الفكر القومي الوافدة من الغرب تبهر أنظار المفكرين والسياسيين العرب، فكيف تأثَّروا بهذا الفكر؟ وكيف تكوَّن الفكر القومي العربي؟
نأمل أن نعالج هذه المسألة في بحث آخر.
([1]) أحمـد بن محمد المقريء: المصباح المنـير: المكتبة العصرية: صيدا-لبنان: 1997م: ط 2: ص 269.
([2]) م . ن : ص 342.
([3]) د. جميل صليبـا: المعجم الفلسفي (ج2): دار الكتاب اللبناني: بيروت: 1982م: ص 205.
([4]) د. محمد عاطف غيث: قاموس علم الاجتماع: الهيئة المصرية العامة للكتاب: مصر: 1979م: ص 299.
([5]) على القارئ الذي يريد أن يطَّلع على تفصيلات أكثر في هذا الجانب أن يعود إلى المرجع التالي:
-ول ديورانت: قصـة الحضارة: المجلَّدات، ذات الأرقام التالية: 16 و 17 و 20 و 22 و 23.
([6]) على القارئ الذي يريد أن يطَّلع على تفصيلات أكثر في هذا الجانب أن يعود إلى المرجع التالي:
ساطع الحصري: ما هي القومية؟: مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت: 1985.