لله درك يا دمشق!!.. وما أشبه اليوم بالبارحة!!..

لله درك يا دمشق!!.. وما أشبه اليوم بالبارحة!!..
نجم عبد الكريم

شجرة الحرية لا ترتوي إلا بدماء الأبطال!!..

قاعدةٌ ثابتة انحنى لصدقها التاريخ في كل زمانٍ ومكان.. انحنى لها في بلاد الشام عند تلال بيروت المطلة على البحر.. يوم كان أولئك الأبطال يعتلون منصات المشانق بصلابةٍ وشجاعة.. لا تُرهبهم حبالها المتجاورة.. ولا تُذهب بشجاعتهم عيون أهاليهم الضارعة الباكية!!..

• وتقدّم سعد عقل منشداً:

” نحن أبناء الأُلى.. شادوا مجداً وعُلا..”

• وينشد جورجي حداد:

” نسلُ قحطان الأبي.. جدُّ كل العربِ..”

• ويصيح نايف تللو:

” عجّلوا.. لا لزوم لهذه الرسميات.. نريد أن نخلص من وجوهكم اللعينة يا أعداء الإنسانية!!..”

• ويدعو عمر حمد قائلاً:

” أسأل ربّي أن يكون دمي فداء بلادي وشرفاً لعائلتي!!..”

• ثم يقف عبد الغني العريسي هاتفاً:

” في سبيل المجد.. في سبيل العرب..”

• ويأتي دور الأمير عارف الشهابي:

” اعدمونا في لحظةٍ واحدة أيها الجبناء.. إننا نريد أن نموت معاً كما عشنا معاً..”

• ويتبعه أحمد طبّارة بوجهه الباسم:

” مرحباً يا أرجوحة الشرف.. مرحباً يا أرجوحة الأبطال.. مرحباً بالموت في سبيل الحرية!!..”

• ويصيح سليم الجزائري:

” قولوا لجمال باشا السفّاح الذي جَبُن عن أن يشهد اليوم مصرعنا.. أنه سيلحق بنا قريباً.. ولن ينجو من غضبة الأحرار!!..”

• ثم يقول محمود المحمصاني:

” اعدموني مع أخي محمد في لحظةٍ واحدة.. حتى لا يحزن أحدنا على الآخر..”

• فيجيبه أخوه محمد المحمصاني:

” ستكون جماجمنا أساس استقلال بلادنا!!..”

***

• وقائمة الشرف طويلةٌ.. تضم بأحرفٍ من نارٍ ونور أسماء ثلاثةٍ وعشرين بطلاً من أبطال الحرية والاستشهاد..

“عبد الحميد الزهراوي ـ عبد الكريم الخليل ـ نور الدين القاضي ـ عبد الغني العريسي ـ عبد الوهاب الإنجليزي ـ جورجي حداد ـ رفيق رزق سلوم ـ الأمير عارف الشهابي ـ رشدي الشمعة ـ محمود المحمصاني ـ محمد المحمصاني ـ سامي العظم ـ توفيق بسّاط ـ شكري علي ـ محمود العجم ـ أمين لطفي الحافظ ـ نايف تللوـ عبد القادر الخرسا..”

***

• ثلاثةٌ وعشرون بطلاً.. نفوسٌ مجيدةٌ رائعة صلبة كصلابة أشجار بلاد الشام.. ثلاثةٌ وعشرون شهيداً حصدهم السفاح على دفعتين.. كأنه شيطانٌ باع نفسه إلى الجحيم وتجرّد من كل ما يمتّ إلى البشرية من صفات.. الجزار.. الوحش.. جمال باشا السفّاح!!..

.. الذي أرسلته الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى إلى بلاد الشام ليتسلم دفة الأمور في أعرق منطقةٍ عربية..

وعندما اصطف الوجهاء للترحيب بمقدمه.. وقف فيهم خطيباً:

ـ ” بوصفي وزيراً للبحرية العثمانية وقائداً للجيش الرابع.. ستكون مهمتي هنا في بلاد الشام عسكريةٌ بحتة..

إننا أيها العرب.. في حالة حربٍ.. وإذا تجاسر أي عربيٍ منكم على عرقلة مجهودنا الحربي فليس له عندي غير حبل المشنقة.

ـ يا سعادة الباشا إن كل السياسيين العرب في بلاد الشام يمارسون حقوقهم من خلال الأحزاب المعترف بها من الدولة العلية..

ـ ليس في حالة الحرب!!.. فنحن في ظروفٍ غير طبيعية.. و بالتالي فإن أحكامنا ستصدر بحق المخالفين وفقاً لهذه الظروف!!..

ـ وهل لديك يا جمال باشا موافقة من الباب العالي فيما تقول؟!!

ـ فليسمع الجميع!!.. إنني رجلٌ عسكري.. لم أعتد الحصول على موافقةٍ مسبقة على التكتيك!!.. أما الاستراتيجية.. فهي معروفة.. الإبقاء على كل البلاد المفتوحة تحت سلطان الباب العالي.. إنني لم أخالف الاستراتيجية السلطانية!!..

ـ الواضح من حديثك أن تكتيكك هو العنف يا جمال باشا؟!!

ـ بل قُل هو العنف العنيف!!.. الذي سأواجه به تلك الجمعيات السرية التي أخذت في الانتشار بهذه البلاد مثل (الجمعية القحطانية) و(جمعية الإصلاح) و(جمعية الجامعة العربية) و(جمعية الإخاء العربي) و(جمعية المنتدى).. فكل هذه أوكار يجب هدمها على الفور، وقتل أعضائها من الخفافيش.. لأنهم أعداء للباب العالي!!..

ـ أليس من المناسب أن يفتح جمال باشا حواراً مع أعضاء هذه الجمعيات؟!!

ـ نحن في زمن حرب.. والغاية تبرر الوسيلة!!.. ثم أن رجالي قد عثروا على أدلةٍ قاطعة تدين هذه الجمعيات!!.. فهذه رسالةٌ سرية وصلت من رجال الأزهر في القاهرة تدعو أعضاء هذه الجمعيات للثورة على سلطة الباب العالي.. كما أن رجالي قد حضروا سراً بعض اجتماعات هذه الجمعيات فوجدوها تدعو إلى العصيان في كلٍ من سورية وفلسطين ولبنان!!.. ولن أسكت عن هذه المهزلة أبداً!!.

***

• وانتشرت زبانية السفاح جمال باشا تهدم كل بيتٍ تفوح منه رائحة الحرية.. تهدمه على رؤوس أهله من الرجال والنساء والأطفال.. ففي مدينة عالية تحركت آلة السفاح الجهنمية لتصدر حكمها بإعدام إثني عشر بطلاً على رأسهم الشهيد عبد الكريم الجليل..

• وثارت الأمة العربية كلها لما يجري على يد السفّاح، مما استثار حفيظة الآستانة، فاستُدعيَ السفّاح إلى اسطنبول ليحضر اجتماعاً يتعلق بمهمته في بلاد الشام يرأسه الوزير طلعت باشا الذي بادر السفّاح بالقول:

ـ يا جمال باشا.. إنك تضعنا في موقف بالغ الحرج، وإن حضورك إلى الآستانة اليوم لبحث هذا الأمر في شيءٍ من التساهل قد يساعد على تخفيف الهجوم الذي تشنّه علينا صحافة الأعداء.. خفف من قسوتك يا جمال باشا!!..

ـ يا طلعت باشا.. إنني مسؤولٌ عن بلاد الشام.. ولا أناقش مع أحد أسلوبي في العمل!!.. هل ناقشتم أنور باشا فيما فعل بالأرمن؟!!.. هل ناقشك أحدٌ يا أنور باشا؟!!..

ـ كلا.. ولكن.. هؤلاء عرب يا جمال باشا.. ومسلّحون أيضاً!!..

ـ الكل عندي سواء.. كلهم في قاموسي متمردون!!

ـ يا باشا.. كم عدد المساجين عندك الآن؟!!

ـ لم أقم بإحصائهم.. ولكنني ألقيت القبض في يوم 20 أبريل على ثلاثين متمرداً..

ـ ولكن يا جمال باشا.. أمامي كشفٌ بأسماء من قبضت عليهم.. وكلهم من الشخصيات المرموقة.. مثلاً: عبد الحميد الزهراوي: عضو مجلس أعيان!!.. شفيق المؤيد: عضو مجلس نواب!!.. عبد الغني العريسي: صحفي مرموق!!.. رفيق رزق سلّوم: من شعراء سورية اللامعين!!.. عمر حمد: من…

ـ (مقاطعاً بعصبية).. كيفما كانت مناصبهم أو مراكزهم في البلاد فهم متمردون!!.. يكفي أنهم تجمّعوا في حزبٍ واحد ضد الدولة العلية!!..

ـ لكن الباب العالي تكرّم ووافق على قانونية هذا الحزب.. وصدر عفوٌ عام في شأن ما سبق!!..

ـ كانت موافقة الباب العالي في ظروفٍ حرجةٍ معينة.. أما الآن وبعد زوال تلك الظروف.. فمن حقنا أن نعدل عن ذلك وأن ننتقم من هؤلاء!!..

ـ إذن أنت يا باشا تريد الانتقام وليس الدفاع عن حقوق الدولة العلية؟!!..

ـ (في ضيقٍ وعصبية).. يا طلعت باشا.. أيها الباشاوات.. إن لم تدعوني أعدم هؤلاء المتمردين فإني أحمّلكم ضياع سورية وفلسطين ولبنان من أيدينا.. فماذا تقولون؟!!..

***

• وانتهى الاجتماع بالخضوع لرأي السفّاح.. وعاد جمال باشا ولعابه يسيل إلى دماء الأبطال العرب!!..

ـ أمرنا بتأليف (ديوان حربٍ عرفيٍ خاص) في عاليه للنظر في محاكمة المتهمين بخيانة الدولة العلية في زمن الحرب.. على أن يعرض علينا الديوان نتيجة التحقيق والأحكام المقترحة..

• وفي الثالث من مايو جاء إلى مقرّ أركان الجيش في فندق فيكتوريا بدمشق المقدّم شكري بك، رئيس ديوان الحرب العرفي – بعد أن تمت محاكمة المتهمين الأبطال – جاء يحمل أوراقاً قدّمها لسيّده السفّاح..

ـ لقد انتهت محاكمة المتهمين وكوّنت هيئة الديوان فكرةً واضحة وصريحة عن حقيقة القضية..

ـ والأحكام؟!!..

ـ في هذه الأوراق وضعتُ أفكاراً عن الأحكام التي سنصدرها..

ـ هل لي أن أعرف مضمونها إجمالاً؟!!

ـ المحكمة عموماً مقتنعة بأن عدد الذين يمكن الحكم عليهم بالإعدام لا يتجاوز الثلاثة على أكثر تقدير!!..

ـ إلقي بأوراقك هذه.. فلستُ بحاجةٍ إلى قراءة تحقيقاتك يا شكري بك!!..

ـ من المستحسن يا باشا أن تلقي نظرة على التقرير.. فهو يُسلّط الضوء على الأحداث ويبرر الأحكام التي اقترحتها الهيئة..

ـ تحقيقكم هذا يا شكري بك لم يتم بالدقة الواجبة.. وأخباره كانت تصلني أول بأول!!..

ـ أتعني يا جمال باشا أنك وضعتَ جواسيساً على القضاة؟!

ـ قضاة؟!!.. (ساخراً).. ومن قال أنك ترأس هيئةً قضائية يا شكري بك؟!!.. إنك رئيس هيئة عسكرية.. ومهمّتك محددة..

ـ مهمّتي قضائية يا باشا.. وأُلحّ على ضرورة قراءة التحقيقات لأنها تبرر الأحكام التي نقترحها!!..

ـ أرني قائمة الأحكام!!..

ـ ها هي..

ـ (ببرود).. ماذا؟!!.. براءة؟!!.. براءة؟!!.. براءة؟!!.. شهرين سجن؟!!.. براءة؟!! ثلاثة شهور سجن؟!!.. نفي إلى الأناضول؟!!..

.. ما هذه الأحكام يا شكري بك؟!!.. هل كانت التهم الموجهة إلى هؤلاء الأوغاد هي مخالفة تسعيرة الخبز؟!!.. هات القلم الأحمر يا فؤاد..

ـ يا باشا.. أتمنى لو…

ـ لو ماذا؟!.. إكتب يا فؤاد: الأول: إعدام.. الثاني: إعدام.. الثالث: إعدام.. الرابع: إعدام..

ـ (مقاطعاً).. يا باشا.. أرجوك أن تفكر في التاريخ.. ماذا سيقول عنا؟!!

ـ يا شكري بك.. فليتحطم التاريخ على رؤوسكم جميعاً!!..

***

• لكن التاريخ قال كلمته في جمال باشا السفّاح.. بل في السلطنة العثمانية كلها.. وظلّ هو (الباشا) يحمل لقب السفّاح كلما جاء ذكره.. بينما ترنّم أمير الشعراء أحمد شوقي بالأبطال الذين رووا حرية أوطانهم بدمائهم:

إذا سأَلتهُمُ الأوطانُ أعطوا

دمـاً و أبنـاءً و مـالا

تعلّق في ضَمائرهم صليباً

وحلّقَ في سرائِرهم هِلالا

كأنَّ أسامي الأبطالِ فيهِ

حواميـمٌ على رقٍّ تَتَـالى

بَني سوريةَ التئِموا كَيومٍ

خَرجتُم تطلُبونَ بهِ النِزالا..

***

المصدر ايلاف

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.