بين المقالات الثلاثة الأخيرة التي كتبها قبل اغتياله، سأل سمير قصير، وهو أحد ألمع الكتاب اللبنانيين، المسيحيين «تريدون تمثيلاً؟».
كانت مناسبة السؤال يومها، مايو (أيار) 2005، كما هي اليوم، البحث في قانون انتخاب عادل. للمفارقة، كان الخطاب المسيحي آنذاك وفي مقدمه موقف الكنيسة المارونية بقيادة البطريرك التاريخي مار نصر الله بطرس صفير هو «الاستماتة» في الدفاع عما يعرف بقانون انتخابات 1960. سقط الستون عامًا 2005. وحين أحياه التيار الوطني الحر في اتفاق الدوحة بعد جريمة السابع من مايو 2008، واجتياح «حزب الله» بيروت وجبل لبنان، عاد الجنرال ميشال عون إلى بيروت مبشرًا المسيحيين بأن الحقوق عادت. جرت الانتخابات ولم يحصد عون ما توقعه، فأعلنت الحرب على قانون الستين بعد سنوات من الدفاع عنه. واليوم تتجدد الحكاية، ويرمى قانون الستين بما رمي به غيره.
ما أشار إليه قصير عام 2005 تصح الإشارة إليه اليوم، ولا سيما حين وجه نقده للتمترس المذهبي المسيحي تحديدًا، سائلاً ما لا يريد أحد أن يسأله. قال: كيف يردّون غدًا إذا استغل أحد هذا الخطأ وقال لهم: تريدون تمثيلاً حقيقيًا، تعالوا نبحث في الأرقام؟
فعلاً. تعالوا نبحث في الأرقام.
من أصل 34 نائبًا مارونيًا في البرلمان الحالي خمسة نواب فقط منتخبون خارج بيئاتهم المذهبية، رغم أن واحدًا من هؤلاء منتخب عن حزب تمثيلي مسيحي بأصوات غير مسيحية صافية، هو النائب سامر سعادة عن حزب الكتائب في طرابلس.
في حين أنه من أصل 27 نائبًا شيعيًا، تجد أن أربعة نواب شيعة منتخبون خارج كياناتهم المذهبية، أو بأصوات غير شيعية. الأهم أن ثلاثة منهم، هم في خياراتهم السياسية على تضاد مع «قضية» كتلة شيعية وازنة تعتبر خطابهم معاديًا، وهو ما ليس له وجود بين النواب الخمسة الموارنة الذين أسلفت الإشارة إليهم. فليست هناك «قضية مسيحية وجودية» يقف ضدها أي من النواب المسيحيين المنتخبين بأصوات غير مسيحية. في المقابل، وعلى المستوى الشيعي، فإن ثلاثة من النواب الأربعة، هم على تضاد مباشر مع ما تعتبره كتلة شيعية كبيرة «قضية وجودية»، ولا سيما المواجهة التي يقودها «حزب الله» في سوريا.
وتتساوى الكتلة السنية مع الكتلة الشيعية في وجود 3 نواب سنة في البرلمان جرى انتخابهم خارج كياناتهم المذهبية أو بأصوات غير سنية في غالبها، اثنان منهم، أيضًا معاديان لقضية يعتبرها السنة وجودية لهم، وهي المشروع الإيراني في عموم المشرق العربي.
وإذا أمعنا النظر أكثر في الكتلة النيابية السنية سنجد أنه، بالإضافة إلى النواب الثلاثة المشار إليهم، ثمة خمسة نواب لا يدخلون نظاميًا ضمن كيان تيار المستقبل، بل هي حالات مستقلة أو حزبية متحالفة مع المستقبل وقائمة بذاتها من دونه، وهم عماد الحوت، تمام سلام، خالد الضاهر، محمد الصفدي، نجيب ميقاتي وأحمد كرامي. أي أن 30% من النواب السنة هم من خارج تيار المستقبل في مقابل 7.14% فقط من النواب الموارنة ممن هم خارج الأحزاب المارونية الرئيسية. أما شيعيًا، فإن 11% فقط من النواب الشيعة هم خارج الحزب الحاكم للطائفة.
ومفاد ذلك، أن التعدد هو الأعلى بين النواب السنة، يليه بين النواب الموارنة، يليه بين النواب الشيعة. ولئن كان التعدد يحسب في الخطاب المذهبي الراهن مرادفًا للغبن، فإن الغبن التمثيلي هو الأعلى عند السنة وليس عند الموارنة كما يشاع. ويبتدئ الغبن أصلاً من فكرة التفوق العددي الماروني على العدد النيابي السني والشيعي. 34 مارونيًا مقابل 27 لكل من السنة والشيعة!
فعلى عكس الدعاية الضحوية للثنائي الماروني، تبين الأرقام أن الموارنة يستحوذون على 56.26% من مجمل عدد النواب اللبنانيين، في حين أن حصة كل من الشيعة والسنة هي 21%.
وإذا ما قيست الأمور من منظور إجمالي عدد الناخبين المسلمين في مقابل الناخبين المسيحيين، يظهر أن أكثر بقليل من مليون ناخب مسيحيي ينتخبون 64 نائبًا، في حين أن أكثر من مليوني ناخب مسلم بقليل ينتخبون العدد نفسه من النواب. أي أن المسيحيين يتمثلون في البرلمان بضعف الممثلين المسلمين. فلكل 15 ألف ناخب مسيحي نائب، في حين أنه لكل 31 ألف ناخب مسلم نائب.
يجدر القول، إن المعركة التي يقودها الثنائي الماروني اليوم بانتحال صفة الضحية هدفها ليس التحرر من الصوت المسلم، بل الاستحواذ على الصوت المسيحي غير الماروني، وعلى الصفة التمثيلية لعموم المسيحيين. ويظهر هذا جليًا في قانون اللقاء الأرثوذوكسي الذي يقسّم المسلمين إلى مذاهب ويكتفي بالإشارة إلى المسيحيين بالصفة المسيحية العامة، وليس الصفة التفصيلة المذهبية (موارنة، أرثوذكس… الخ).
المسيحيون هم لبنان. هم حكايته وهم روحه وهم المكان الذي يجب أن تلتقي عنده أكثريات لبنانية. لكن أحدًا لن يجد ملاذًا له بينهم إن كان المدخل إلى تعريف السياسة هو الطائفة وليس فكرة الحداثة التي حملها المسيحيون عنهم وعن الآخرين.
محمد رعد الماروني ليس جذابًا لأحد. ومحمد رعد الماروني يحتاج إلى سلاح لإنتاجه وليس قانون انتخاب.
أوقفوا حفلة الجنون.
* نقلاً عن “الشرق الأوسط”