الجاحظ و اللواط في عهد الخلافة العباسية

محمد خليل

تهدف هذه المقاربة المختصرة، إلى إلقاء الضوء على صفحة أخرى، من حياة الجاحظ العريضة والمثيرة، بُغية التعرّف عليها أكثر فأكثر، ألا وهي: الجانب الأخلاقي، وما يُثار، إلى الآن، من شُبهة حول موقفه مما كان منتشراً، على نطاق واسع، من اللواط أو الجنسية المثلية
Homosexuality
كما يسميها علماء النفس في العصر الحديث. ولتحقيق هذه الغاية، كان لا بد من الرجوع إلى الأخبار والمعلومات في مصادرها. وهي، وإن كان بعضها، غير كاف بذاته لأنه يُشكّل أجزاء مبعثرة، لكن يُمكن لها إذا ما جُمعت، أن تساعد على توضيح الصورة !
يعرض معظم الدارسين كشحا، عن الجانب الأخلاقي من حياة الجاحظ، مؤثرين عدم الخوض به، والإبقاء عليه طي الكتمان. وقد يكون مرد ذلك الموقف، كما يبدو، إلى ما في تلك الإشكالية من حساسية مفرطة، أو خشية النيل من مكانة الجاحظ، أو من قيمة أدبه، كما يعتقد بعضهم. في حين لا الجانب الأخلاقي، ولا الديني حتى، يُمكن له أن يرفع أو يضع، يزيد أو يُنقص، من قيمة الأديب أو أدبه مثقال حبة خردل. فتلك معايير لا تدخل في المعايير الحقيقية للحكم على الأدباء أو أدبهم، وهي بالتالي لا تؤثّر في ميزان حسنات أو سيئات الأديب وأدبه بتاتاً. من هذا المنطلق، لا يبدو أن لتلك المحاذر ما يُسوّغها!
وبهذا المعنى، فإن هذه المقاربة لا تبغي، بأي حال من الأحوال، الطعن في الجاحظ، ولا الانتقاص من أدبه، سواء أثبُت بُطلان تلك الشُبهة أم صحتها. فثمة إجماع شبه تام تقريباً، لدى أوساط الدارسين، من العرب وغير العرب، على اختلاف مشاربهم، بأن الجاحظ يُعدّ إمام البيان العربي بلا مُنازع، لما أسداه من أدب وعلم للفكر العربي خاصة، وللفكر الإنساني كافة. لقد بلغت مصنفاته، زهاء
ثلاثمائة وستين مصنفاً أو يزيد (1) في ألوان شتى من العلوم والمعرفة الإنسانية. ومما قيل فيها “فكتب الجاحظ تُعلّم العقل أولاً، والأدب ثانياً” (2). وهذا آخر يبالغ في تقديرها، فيقول: “رضيتُ في الجنة بكتب الجاحظ عوضاً عن نعيمها” (3)! أما أشهر هذه الكتب فهي: البيان والتبيين، والحيوان، والبخلاء، والرسائل.
وإذا كانت هذه المقاربة تسعى إلى إلقاء الضوء على جانب واحد فقط، من جوانب عدة في حياة الجاحظ، فإنها، بالقدر نفسه، تسعى كذلك، إلى إعادة النظر في الموقف من تراثنا العربي، ولاسيما التاريخ منه، لما يُسبغ عليه من صفة الجلال والتقديس، وما توارثناه كمسلمات بديهية مقدسة أو شبه مقدسة، لا تقبل الجدل أو النظر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، هذه الشخصية الفذّة؛ الجاحظ، وما أُحيط بها من هالة فائقة، توسّلاً بالارتقاء إلى قراءة واعية متأنية متأملة وإبداعية! مع الإشارة إلى ضرورة فهم البيئة الاجتماعية، لتلك الحقبة كما هي، وأن نحكم عليها بأحكام تلك الحقبة، ونزن بميزانها، لا بأحكام لا تتلاءم مع طبيعة تلك الحقبة وإن بدا لنا أمر ما، مستغرباً أو مستهجناً أو مستقبحاً!
لقد ساعد على تطور التأليف وانتشاره آنذاك، ما بلغته الدولة العباسية، في عصرها الذهبي الأول (132هـ-232هـ)، من أوج ازدهارها في مختلف ميادين الحياة: العلمية والثقافية والعمرانية والمادية والفتوحات . حيث كانت العراق ولاسيما بغداد والبصرة والكوفة وسامراء، أشهر حواضر الإمبراطورية العباسية قاطبة، ترفل في سعة من الحياة المادية، والبذخ والرفاهية المفرطة، وتتفنّن في صنوفها(4) . يُضاف إلى ذلك كله ، فقد تلاقحت الثقافات وتلاقت الأعراق والأجناس من عربية وفارسية ويونانية وتركية ، وغيرها كثير .
والذي يعنينا ها هنا تحديداً ، هو طبيعة الحياة المادية وتأثيرها في الناس ، إذ كان من الطبيعي أن تؤدي تلك البيئة المحيطة والمتحررة وما أفرزته ، إلى أنماط حياة مادية فاضحة من المجون والخلاعة والعبث واللواط . وقد تكون من المفارقات العجيبة الغريبة ، أن بعض الخلفاء كانوا على رأس الممارسين لمثل تلك الأنماط الحياتية ، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر : الأمين ومن قبله أبوه هارون الرشيد
الذي كان يتساهل في هذا الأمر(5) . ولا غرو فالناس على دين ملوكهم ، كما يُقال !
وقد يكون ، في حكم المؤكد ، أن الحضارة العربية الإسلامية ، ورثت تلك العادة عن الحضارات التي سبقتها . سيما أنها بدأت على عهد الدولة العباسية . ومنهم من يعزو سبب الانتشار الواسع لظاهرة اللواط ، وتسرب الفاحشة بين الذكران في المجتمع العربي ، منذ منتصف القرن الثاني الهجري ، على عهد الدولة العباسية ذات الطابع الفارسي البارز ، إلى أنه كان عن طريق الفرس أنفسهم (6) . وقد نُسب إلى أبي مسلم الخراساني ، في ألذ العيش ، قوله ” ((طعام أحبر ومدام أصفر وغلام أحور)) . ولما سُئل عن تقديم الغلام على الجارية قال ((لأنه في الطريق رفيق ، وفي الإخوان نديم ، وفي الخلوة أهل)) ” (7) !
كذلك أطلق الخلفاء الحبل على الغارب للحريات وللعواطف ، دون رقيب من دين أو سلطان ، فانغمس كثير من الشعراء والكتاب في الترف واللهو والمجون !
في مثل تلك البيئة نشأ وعاش الجاحظ . ولا ريب فللمجتمع تأثيره على نوع استجابة الفرد لأي سلوكيات تصدر عنه ، مما يُؤكد على العلاقة الوثيقة ، والربط ما بين الفرد والمجتمع . يقول الجاحظ (8) ” الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم ” ! من هذا المنطلق ، لا نستطيع فهم الرجل إلا إذا فهمنا عصره . يُضاف إلى ذلك ، كان الجاحظ تتلمذ على أستاذه في النحو ، أبي الحسن الأخفش ، المعروف بأنه كان متهكماً قدرياً . وقد عاصر الجاحظ ما يُقارب عشرة من الخلفاء العباسيين ، بالنظر إلى تاريخ ولادته (159هـ) في خلافة المهدي ؛ ثالث الخلفاء العباسيين ، ووفاته (255هـ) في خلافة المهتدي . ويبدو أن علاقته كانت أقرب ما تكون إلى أربعة منهم ، وهم على الترتيب : المأمون ، والمعتصم ، والواثق ، والمتوكل .
2
انتشر اللواط في المجتمع العباسي كانتشار الداء ، إلى أن أصبح ظاهرة فاشية ومستشرية بشكل مقلق ، فجاهر به الشعراء الماجنون ، أمثال : بشار بن برد وأبو نواس ومطيع بن إياس ويحيي بن زياد وحماد عجرد وسلم الخاسر ووالبة بن الحباب وإبان اللاحقي وآخرون . ولم يقتصر التهتك واللواط على الشعراء وحدهم ، إنما تجاوزه إلى غيرهم من العلماء والأدباء والكتّاب ، وقد عُرف منهم أبو عبيدة النحوي البصري المعروف ، والكسائي النحوي المشهور (9) . كذلك ، هو واقع الأمر لدى بعض القضاة ، ومنهم يحيي بن أكثم قاضي البصرة إذ كان معروفاً بكثرة لواطه ، حتى ضجّ الناس به ، ورفعوا أمره إلى الخليفة المأمون ” قال أهل الأخبار إن القاضي يحيي بن أكثم كان مشتهراً بحب الغلمان ، وأن أهل البصرة رفعوا بأمره إلى المأمون قبل اتصاله به وقالوا فيه : إنه قد أفسد أولادهم وظهرت منه الفواحش فاستعظمها المأمون وعزله عنهم ” (10) . وقد قيل في ذلك شعر ، يصف ما آل إليه هذا الواقع (11) :
أميرنا يرتشي وحاكمنا يلوطُ والشر بيننا راس
قاض يرى الحدّ في الزناة ولا يرى على من يلوط باس
وكذلك :
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها إذا كان قاضي المسلمين يلوط
ومنهم أيضاً القاضي الجرجاني ، مصنّف كتاب ((الوساطة بين المتنبي وخصومه)) . فقد اشتهر بحبه للغلمان ومزاولته لتلك العادة السيئة ، وفي ذلك ، يقول أحد الباحثين ” وكان القضاة والفقهاء والمحدثون ، يشاركون عصرهم استساغة لهذه العادة “(12)! وكان الجرجاني صديقاً للوزير الأديب الصاحب بن عباد ومقرّباً منه ، الذي اشتهر هو الآخر بتلك العادة ” والصاحب بن عباد يفتنه أحد غلمانه الكثيرين بغنجه ولثغته فيقول فيه :
وشادن قلت له : ما اسمك ؟ فقال لي بالغنج عباث
فصرت من لثغته ألثغا فقلت : أين الكاث والطاث ” (13)
ولكثرة ما شاع خبر اللواط واشتهر ، وكثُر الميل نحو تفضيل الغلمان على الجواري ، في مختلف طبقات المجتمع العباسي ، جعل حتى الجواري يتشبّهن بالغلمان في الملبس والمظهر ، فأطلق عليهن لقب ((غُلاميات)) تشبهاً بالغلمان ، هذا بدل أن يكون العكس ، هو الصحيح ! يقول الجاحظ في ذلك ” إن من فضل الغلام على الجارية ، أن الجارية إذا وُصفت بكمال الحسن قيل : كأنها غلام ، ووصيفة
غُلامية ” (14) !
ولعل في الفقرة الآتية ، ما يقوم بتوصيف دقيق ، لظاهرة اللواط في واقع المجتمع
آنذاك ” ومن مظاهر طغيان الجنس ، انتشار الشذوذ الجنسي حتى أصبح اللواط (أو كاد يصبح) ظاهرة طبيعية لا غرابة فيها ، ولا تختص بفئة من الفئات الاجتماعية . قد اشترك فيها العوام والخواص من الخلفاء ، إلى الأمراء والوزراء ، إلى القضاة …إلى السوقة والرعاع…ظاهرة لم تعد تُنكر أو تُستفظع ، وإنما أصبح يتجاهر بها أصحابها ، وينوّهون بها في أشعارهم ، معتزّين بها ، يرون فيها عنوان امتياز في الذوق ، ودليلاً على البصر بفن الحياة ، وعلى مستوى رفيع في الحضارة ” (15) .
بالنسبة للجاحظ ، ينفي بعض الدارسين شبهة اللواط عنه ، ويُنزهونه عنها ، دون أي توسّع يذكر ، أو خوض في التفاصيل ، أو التحليل المعمّق ، وهم في ذلك لا يستندون إلا على جزء واحد من أقوال الجاحظ نفسه ، ومكتفين بالإحالة إليها . ونعني بها تلك الجزئية التي تذم اللواط ، مما ورد في بعض رسائله ، ومن بينها ((مفاخرة الجواري والغلمان)) و((المعلمين)) و((تفضيل البطن على الظهر)) . لكن الحقائق ، قد توحي بخلاف ذلك ! إذ من الواضح أن الجاحظ عرض لظاهرة اللواط كرد فعل ليس أكثر ، فراح يذمها ، لاسيما بعد أن راجت وانتشرت في المجتمع وضجّ بها الناس . يُضاف إلى ذلك كله ، أن الجاحظ كان يعمل في حقل التربية ويُدرّس الفتيان ، فخشي ، كما يبدو ، على سمعته !

– – – – – –
وقد تجدر الإشارة إلى موقف الباحث الفرنسي شارل بلات ، الذي لم يتوقف عند تلك الناحية إلا عرضاً ، مكتفياً بالقول ” ويجدر بنا أن نذكر لمحة عن اللواط الذي انتشر عند العرب ، حتى أصبح موضوع الشعراء الماجنين المفضل ، كأبي نواس وغيره ” (16) . ولم يتوسع أكثر ، في ما يخص الجاحظ موضوع دراسته ، وإذا به ينتقل إلى الكلام على البخل والكذب !!
أما الباحث إبراهيم جريس فيقول (17) ” موقف الجاحظ من اللواط – كما يظهر من خلال رسالتيه مفاخرة الجواري والغلمان ، وتفضيل البطن على الظهر ، موقف سلبي للغاية…وها هو في كتاب المعلمين يعود ليؤكد احتقاره لهذه العادة…فيخصّص لذلك عدة أسطر يشير فيها إلى قبحها في ذاتها ، وإلى موقف الإسلام السلبي منها “! وهذا حكم أقل ما يُمكن أن يُقال فيه ، إن غايته الدفاع عن الجاحظ ، على الرغم من أنه يعوزه الدليل ويفتقر إلى أي تمحيص ، وإن كان المعوَّل عليه هو الجاحظ نفسه ! فهل يختلف اثنان بقبح تلك العادة في ذاتها ؟! وشيء آخر ، منذ متى كانت تُقبل شهادة من هو في موضع الشُبهة والاتهام ؟! هذا لا يجوز !
في حين تخلص وديعة طه النجم إلى ” أن الرسالة [مفاخرة الجواري والغلمان] تبدو في مناقشتها ، وكأن المتناقشين لا يُعيران اهتماماً لأي عرف اجتماعي وخُلقي ” (18) فكل واحد فيهما ، كأنه يريد أن يروّج لسلعته . بمعنى ما ، أن هذا الواقع لم يكن شاذاً ، بل كان فاشياً في المجتمع العباسي !
تُرى ، إن كان الجاحظ يذم اللواط حقاً فيما كتب أو نُقل عنه من رواية ، فهل هذا يعني أنه يقول الصدق والحقيقة ؟! تلك أقوال تحتمل التصديق ، تماماً مثلما تحتمل التكذيب ! إذ لربما كلامه هذا حق يُراد به باطل ؟! بمعنى ، قد يريد أن يدفع عنه شُبهة الانغماس بها ! في الوقت نفسه ، أفلا يحق للقارئ أن يعتقد ، بأن الجاحظ كان يذم اللواط ويكرهه ، على الرغم من أنه كان يمارسه ؟! أفلا يوجد في المجتمع أناس يأتون الخطأ ويرتكبون الخطيئة ، على الرغم من إقرارهم واعترافهم جهاراً ونهاراً بما تقترفه يداهم ، بل ويذمونه كذلك في قرارة أنفسهم حيناً ، وعلى الملأ أمام الناس أحياناً ؟! كما يجب أن لا يغيب عن الأذهان ، أن الجاحظ لا يقيم وزناً لبعض فروض الإسلام ، يقول أحدهم ” حضرتُ وليمة حضرها الجاحظ ، وحضرتْ صلاة الظهر ، فصلينا وما صلّى الجاحظ ، وحضرتْ صلاة العصر ، فصلينا وما صلّى الجاحظ . فلما عزمنا على الانصراف قال الجاحظ لرب المنزل : إني ما صليت لمذهب ، أو لسبب ، أخبرك به . فقال له أو فقيل له : ما أظن أن لك مذهباً في الصلاة إلا تركها ” (19) ! وفيه يقول ابن قتيبة (20) ” وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك العبث ، يريد بذلك ، استمالة الأحداث ، وشُرّاب النبيذ…وهو ـ مع هذا ـ من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث ، وأنصرهم لباطل ” ! فكيف للقارئ أن يثق ، بمن هو في مثل تلك الصفات أو بأقواله التي تذم اللواط وترفضه ، حتى وإن
بدت ، أحياناً ، أنها تتوافق مع روح الإسلام وتعاليمه ؟!
ومن عجيب موقف بعضهم ، القبول بشهادة الجاحظ حين انبرى للّواط قدحاً وتجاهلها حين انبرى له مدحاً ! فهذا حكم مردود ، إذ ثمة تساؤل مشروع ، يطرح نفسه : كيف يستقيم هذا الحكم ؟!
من الواضح ، أن هؤلاء لم يُنصفوا حين استشهدوا بنصف أقوال الجاحظ (تلك التي تذمّ اللواط) وتجاهلوا نصفها الثاني (تلك التي تمدح اللواط) وخلصوا إلى نتيجة مفادها ، أن الجاحظ يذم اللواط ويكرهه ! وفي الحق : إن في أقواله تلك ، حجة له مثلما فيها حجة عليه أيضاً !
من الواضح أن استنتاجهم هذا غير مؤكّد ، ولو أنصفوا لعرضوا لموقف الجاحظ كاملاً لا مجتزءاً ، ذلك بأنه حين يذم اللواط ويقبحه ، ما يلبث أن يمدحه ويحسّنه ! فهو تارة يمدحه وأخرى يذمه (يمدح الجواري ، ويفضّل البطن على الظهر ، وفي المقابل يمدح الغلمان ، ويفضّل الظهر على البطن) إذاً : كيف للقارئ أن يتسرّع باستخلاص مثل تلك الأحكام ؟! يقول الجاحظ على لسان صاحب الغلمان (21) ” لو نظر كثيّر وجميل وعروة ، ومَن سميتَ من نُظرائهم ، إلى بعض خدم عصرنا ممن قد اشتُري بالمال العظيم ، فَراهةً وشِطاطاً [حسن القوام] ونقاء لون ، وحُسن اعتدال
وجودة قدٍ وقَوام ، لنبذوا بثينة وعزة وعفراء من حالق وتركوهن بمزجر الكلاب ” !
واضح أن مثل ذلك الكلام يشي ، للوهلة الأولى ، بأن الجاحظ يميل إلى اللواط ويؤيده ، وهذا حكم أشبه ما يكون ، بحكم مَن قال إن موقف الجاحظ من اللواط سلبي وهو يعارضه لأنه يذمه ، وذلك حين اعتمد على أقوال الجاحظ التي تذم اللواط ، وتجاهل تلك التي تمدحه !
وحتى لو قبلنا جدلاً ، بأن موقف الجاحظ من اللواط كان سلبياً ، وأنه كان يذمه ويكرهه ، أفلا يجوز أنه تراجع عنه وكفّ بعد حين ؟! ولم يكن الجاحظ يرى في تراجعه أي حرج ، لاسيما أن طبيعة تركيب الجاحظ كانت متناقضة ، إذ طالما كان يتحدث في موضوعة ما ، سرعان ما يقلب لها ظهر المجن بكلام متناقض ، ولا يُفصح عن موقفه ، الذي يطغى عليه الاستطراد ، مُبقياً القارئ في حيرة من أمره ! ومعروف ، كذلك ، أن الجاحظ كان يتمتع بقابلية فذّة في عرض الفكرة الواحدة وعرض نقيضها ، والدفاع عن كلتهما ، في الوقت نفسه ، دون أن ينحاز إلى واحدة منهما . وكتبه في مدح الشيء وقدحه ، وبناء الشيء ونقضه ، واضحة وصريحة فالتناقض لدى الجاحظ في التفكير والتعبير موجود !
3
ويحسب المرء ، أن في بعض الوقائع والحقائق الآتية ، وإن كانت ، توجب النظر إليها بحذر ، ما يجعله يميل أكثر إلى قبول الرأي : بأن الجاحظ بالفعل كان منغمساً في اللواط ، ومنها على سبيل التمثيل :
أولاً ـ انحراف الجاحظ : يقول المسعودي (22) في الجاحظ ” ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتباً منه… وكتب الجاحظ – مع انحرافه المشهور – تجلو صدأ الأذهان ، وتكشف واضح البرهان ، لأنه نظمها أحسن نظم ، ورصفها أحسن رصف… ” .
وقد عقّب عبد السلام هارون (23) في الهامش على ذلك الانحراف مُكتفياً بالقول :
” يريد ما كان عليه من الاعتزال وعداوة الشيعة ، وكان المسعودي شيعياً ” دون أي
توسع أو دليل أو تعليل مُسعف ! وهذا رأي تنفيه حقائق الأمور ومنطقها .
لو تتبعنا كتابات المسعودي في غير شخصية معتزلية أخرى ، لما عثرنا ولو على مثال آخر ، يذم فيه أحداً ممن اعتنق مذهب الاعتزال ، مثال ذلك : الخليفة المأمون فإننا نجد المسعودي ، ليس أنه لا يذمه فقط ، بل على العكس يُكثر من إطرائه ! يقول في وصفه للمأمون ” وأظهر القول بالتوحيد والوعد والوعيد وجالس المتكلمين وقرّب إليه كثيراً من الجدليين [المبرزين] والمناظرين… وكان أكثر الناس عفواً وأشدهم احتمالاً وأحسنهم مقدرة ، وأجودهم بالمال الرغيب ، وأبذلهم للعطايا “(24) !
ومثال آخر هو أحمد بن دؤاد ، الذي يُعدّ أحد أشهر رؤوس المعتزلة ، وقد عينه المأمون مستشاراً له ، وأبقاه المعتصم ، الذي اعتنق مذهب الاعتزال هو الآخر ، في منصبه وقرّبه منه ، وأجلسه في سدة حكومته . ما يشي بأن المسعودي ربما يكون قد قصد بانحراف الجاحظ ، انغماسه باللواط ولا شيء سواه !
ثانياً ـ المأمون يطرد الجاحظ : من غير المستبعد أن يكون ، ما لاحظه الخليفة
المأمون من أمر الجاحظ ، يبدو أن سلوكياته لم تعجبه ، هو ما دفعه إلى طرده وذلك بعد ثلاثة أيام فقط من توليه لمنصب رئاسة ديوان الرسائل ، فقد ” صُدّر الجاحظ في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة أيام ثم إنه استعفى فأعفي ، وكان سهل بن هارون يقول : إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أفل نجم الكتّاب ” (25) ! وإن كان بعضهم لم يجد من تبرير للجاحظ ، سوى القول : إنه قد يكون سبب إعفائه من المنصب ، رفضه الخضوع لنُظمه وتقاليده ، ومؤثراً الحرية على القيود . لذلك استعفى فأعفي !
ثالثاً ـ المتوكل يطرد الجاحظ : ما نُقل عن الجاحظ قوله ” ذُكرت للمتوكل لتأديب
بعض ولده فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني “(26) ! هل للقارئ أن يقبل هذا الكلام على علاته ، ومن طرف واحد ؟! تُرى هل يُعقل بأن المتوكل سليل الخلافة ، لم يعلم بمنظر الجاحظ ، ولم يره أو يسمع به ، أو يعرف عن منظره ، وقد كان ((أشهر من نار على علم)) سيما أنه كان عاصر ما يربو على عشرة من الخلفاء العباسيين ، بضمنهم المتوكل ، قبل أن يستقدمه لتربية أبنائه ؟! يقول ياقوت الحموي في الجاحظ (27) إن ” الخلفاء تعرفه ، والأمراء تصافيه وتنادمه ” ! لكن للقارئ أن يزعم بأن المتوكل ، قد خشي ، كما يبدو ، على أولاده منه فطرده من بلاطه ، وإن كنا لا نقطع بذلك ! وهذا يوسف بكار يقول (28) ” لتلك العادة السيئة [اللواط] خاف الخلفاء والأمراء على أبنائهم ، من أن يدب إليهم الفساد عن طريق مؤدبيهم وندمائهم ، ممن عُرفوا بها ، فسارعوا إلى إخراجهم وإبعادهم عنهم ” . وقد تكرر مثل ذلك مع غير خليفة !
رابعاً ـ اللواط صفة ملازمة للكتّاب ! ومما أورده الجاحظ (29) نفسه ، على لسان أحد الشعراء ، قوله في الكتّاب ، والجاحظ يعدّ أحدهم :
وعلى الّلواط فلا تلومنْ كاتباً إن الّلواط سجية في الكاتب
من الواضح ، أن الكلام هنا يدور بإطلاق ، يُثبت ذلك ، أن الجاحظ لم يكلّف نفسه عناء الرد ، ولم يتعرّض لهذا الكلام ، أو يتوقف عنده أبداً ، بل مرّ عليه دون أن يناقشه . تُرى هل يقرّ ويقبل انغماس الكتّاب في اللواط ويستثني نفسه ، دون أن يُدافع عنها ؟!
خامساً ـ ترغيب الجاحظ باقتناء الغلمان : تكرّر ميل الجاحظ إلى اللواط ، في غير مصدر ، من مؤلفاته هو (هذه المرة أيضاً في الحيوان)إذ يعمد إلى الترهيب من حب النساء ، والترغيب باقتناء الغلمان ، يقول على لسان ((صاحب الكلب)) ” إياكم إياكم وحبّ النساء…وعليكم باتخاذ الغلمان ، فإن غلامك هذا أنفع لك من أخيك وأعون لك من ابن عمك ” (30) !
سادساً ـ إشارة الخطيب البغدادي : حين يذكر البغدادي بعض كتب الجاحظ فإنه ينسب إليه كتاباً في اللاطة وينعته بمعاني تلك الكتب ، إذ قال ” ومنها كتبه في القحاب والكلاب واللاطة…ومعاني هذه الكتب لائقة به وبصفته وأسرته ” (31) ! والإشارة كما توحي العبارة واضحة ، اتهام الجاحظ صراحة باللواط ، ناهيك بما فيها من تعريض !
سابعاً ـ الجاحظ لم يتزوج : معروف أن الجاحظ لم يتزوج بتاتاً ، وهذا سبب آخر يزيد في احتمال أن يكون الجاحظ حقاً لواطياً ، يقول شارل بلات ” لم يكن للجاحظ زوجة شرعية ، وأنه لم يرد ذكرها عنده مطلقاً ” (32) ! وإن كانت ثمة رواية عن زواجه ، لا تحتمل التصديق ، فهي أقرب ما تكون إلى الخيال منها إلى الحقيقة ! وهي أيضاً مما نُسب إلى الجاحظ : تقول الرواية أنه تزوج ، لدمامة خلقه من امرأة حسناء لكنها حمقاء ، آملاً أن يحظى بمولود بجمالها هي ، وبرجاحة عقله هو ، فماذا كانت النتيجة ؟ على العكس تماماً مما قدّر ، فقد جاء المولود في دمامة خلقه هو ، وفي حماقتها هي (33) !
ثامناً ـ رواية التيفاشي : يقول شهاب الدين أحمد التيفاشي (34) مما نسبه إلى الجاحظ نفسه ، ونقله على لسانه ما يأتي ” نزل بي ضيف فنومته في الدار ، فوجدته في بعض الليالي معي على السرير ينـ…[يواقعني] فقلت : ويحك ، ما هذا ؟ ولمَ دخلت هنا ؟ فقال : وجدت البرد ! فقلت : فلمَ طلعت على السرير ؟ فقال : من البراغيث ! فقلت: فلمَ تنـ…؟ [تواقعني] فقال : ليس هذا موضع المسألة ” !
وإن كنا لا نقطع برواية التيفاشي هذه ، على وجه التحقيق والتأكيد ، سيما أنه يُعدّ من المتأخرين (580هـ ـ 651هـ) لكن من حق القارئ أن يتساءل : تُرى لو لم يكن لهذه الشُبهة من أساس يُعتمد ، كيف يُرمى بها الجاحظ دون سواه ، وعلى يد مَن ولي منصب القضاء في بلده ؟! هل هذا محض صدفة ؟!
لكن الذي يبدو ، أنه لم يلهج كثر بهذه ((القضية)) على عهد الجاحظ ، خشية منه ! فقد كان يُخشى من الجاحظ ويُعمل له ألف حساب ، فأعرضوا ، كما يبدو ، عن التعريض به ، أو التعرّض له . وما ذلك إلا خشية من قوة شخصيته وسلاطة لسانه وما كان يُعرف به من تهكم لاذع ومقذع ، ونقد ساخر وسرعة خاطر ، في الرد والنيل من الآخر ، وكدليل على ذلك نورد الحادثة الآتية ” قيل لأبي هِفّان لمَ لا تهجو الجاحظ وقد ندّد بك وأخذ بمُخَنّقك ؟ فقال : أمثلي يُخدع عن عقله ، والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شُهرةً ، ولو قلت فيه ألف بيت لما طنّ منها بيت في ألف سنة ” (35) . وهذا مما يُثبت إلى أي مدى كان يُخشى جانب الجاحظ !
لكن من الواضح ، أن الجاحظ آثر التحلل من كل شيء ، فقد عاش الحرية على هواه ، ووفق مزاجه ، فكانت له حرية في العلم والبحث ، وحرية في الدين والمعتقد وكانت له حرية في اللغة والأدب ، والكتابة والتصنيف ، وحرية في المخالطة والسلوك !
وبعد ، فلو أخذنا الرأيين بمبدأ التقسيم والاحتمال ، وعلى ضوء الحقائق التاريخية وقراءتها قراءة استقرائية ، لظهر لنا رُجحان كفة الإدانة على كفة البراءة !
مهما يكن من شيء ، فإن هذه المقاربة لا تدعي الإحاطة بتلك الإشكالية من جوانبها كافة ، ما يبقي على الباب مفتوحاً ، أمام المزيد من البحث والتنقيب والتمحيص . كذلك ، ربما يكون في العثور ، مستقبلاً ، على مخطوط اللاطة تأليف الجاحظ بحسب أقوال البغدادي ، ما يُلقي المزيد من الضوء ، على هذا الجانب الأخلاقي من حياة الجاحظ ، الأمر الذي قد يساعد على الكشف عن موقفه الحقيقي من اللواط !

هوامش
(21) الجاحظ : رسائل الجاحظ ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ، ج2 ، ص105 ، دار الجيل ، بيروت ، 1991 .
(22) المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر ، ط5 ، ج4 ، ص195 ، دار الفكر ، بيروت ، 1973 .
(23) عبد السلام هارون : كتاب الحيوان ، ج1 ، ص9 ، المقدمة ، دار الجيل ، بيروت ، 1992 .
(24) المسعودي : مروج الذهب ، ط5 ، ج4 ، ص318-319 . انظر كذلك وصفه للمعتصم والواثق ، ص319 فإنه لا يتعرّض لهما إطلاقاً !
(25) ياقوت الحموي : معجم الأدباء ، ج16 ، ص78-79 ، دار المستشرق ،
بيروت .
(26) ابن خلكان : وفيات الأعيان ، تحقيق محيي الدين عبد الحميد ، ج3 ، ص141 ، القاهرة ، 1948 .
(27) ياقوت الحموي : معجم الأدباء ، ج16، ص98 .
(28) يوسف بكار : اتجاهات الغزل في القرن لثاني الهجري ، ص193 .
(29) الجاحظ : رسائل الجاحظ ، ج2 ، ص112 .
(30) الجاحظ : الحيوان ، ج2 ، ص366 ، تحقيق عبد السلام هارون ، دار الجيل ، بيروت ، 1992 .
(31) عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق ، ص177، دار المعرفة ، بيروت.
(32) شارل بلات : الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء ، ص339 .
المصدر نفسه : ص339-.
(33) المصدر نفسه: ص 339-340 عن الكتبي: عيون التواريخ، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1980، دون الاشارة الى رقم الصفحة.
(34) شهاب الدين احمد التيفاشي: نزهة الالباب فيما لا يوجد في كتاب، تحقيق جمال جمعة، ص 214، رياض الريس للكتب والنشر، لندن – قبرص، 1992.
(35) ياقوت الحموي: معجم الادباء، ج 16، ص99.

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.