ناس ما عندهاش أخلاق.. ناس لا تخجل .. الناس اتغيروا.. جُمَل تتكرر على مدار اليوم، بتُّ أسمعها على لسان الكثيرين.. ينتقد شخص وضعا ما فتجد كل الحاضرين ينبرون فى سرد القصص مما يقابلهم على مدار اليوم فى الشارع والعمل والسكن وكل مكان ويختمون قولهم بإحدى هذه الجمل.. حوار عادى غير مستغرب وخاصة مع حالة الفوضى والعشوائية التى تنتاب الجميع، ويعانى منها الجميع.
لا أعرف إن كان من الحظ الطيب أو العسر أنى عايشت زمنا كان من سماته الأخلاق الطيبة ثم تابعت سقوطها تدريجيا إلى أن وصلت فى حاضرنا الى ما نحن فيه من فقدان إتزان، لأنى فى حالة مقارنة مستمرة بين أخلاق الناس فى أزمنة مضت وأخلاقهم بعد انتفاضة 25 يناير. حين أبحث لدى علماء الاجتماع عن تعريف للأخلاق فأجد أن السؤال يجب يُطرَح بطريقة صحيحة، إذ أننا يجب أن نحدد فى أى زمن نسأل عن الأخلاق وفى أى مكان تحديدا، لأن الأخلاق تتغير من زمن لزمن ومن مكان لمكان وحسب الظروف، ومخطئ من يتصور أن لها علاقة بدين أو تدين.
يقول كارل ماركس: (( ترتبط العلاقات الاجتماعية وتتعلق بالقوى الانتاجية، ولدي تحقيقنا لقوى انتاجية جديدة يغير الناس نوع الانتاج، وعند تغييرهم لنوع إنتاجهم وعند تغيير طريقة كسبهم لمعيشتهم، فإنهم يغيرون كل العلاقات الاجتماعية)).
حين كنا مجتمعا منتجا فى ستينيات وسبعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضى، كان لدينا فن وثقافة وبناء فوقى راسخ .. أما حين تحولنا لمجتمع طفيلى، ولم نعد ننتج ونعيش على التسول والدعم الحكومى المسروق، سادت أخلاق البلطجة والسرقة والنصب والاحتيال والكذب والانتهازية.
هل وصلنا للقاع بعد ؟ وهل يوجد ما هو أحط من المستوى الذى تدنت اليه الأخلاق فى زمننا هذا أم أن هناك المزيد الذى تخبئه الايام القادمة ؟!
ما أثار حفيظتى مؤخرا وجعل هذا السؤال يتردد كثيرا بذهنى وقائع التحرش بالنساء المدبرة التى حدثت فى ميدان التحرير، ليست الوقائع فى حد ذاتها الذى أثارنى حيث أننا إعتدنا التحرش وتعرضنا له مرارا ، قاومناه وشعرنا بالعار واختبأنا وأخفيناه عن الجميع خوفا من الفضيحة التى تلحق بالضحية وليس بالمتحرش، وتآمر المجتمع ككل وسكت عن الظاهرة الى أن تفاقمت وأصبحت مرضا عضالا منذ أن غزت مصر مظاهر الأفكار الوهابية التى أتى بها المصريون العاملون بالمملكة العربية السعودية بدءً من نهاية سبعينيات القرن الماضى وإلى يومنا هذا، مظاهر مثل الفصل بين الجنسين فى المدارس والجامعات وحجاب ونقاب ولحية وجلباب وتشوه علاقة الرجل بالمرأة وتدنى مكانتها الى أدنى مستوى وحط من قيمة العمل وتقييم البشر بما يملكون وتحولهم تماما الى مجتمع استهلاكى يعبد المال، لكن اللافت للانتباه فى هذه الحوادث أنه قد خُطِط لها ومدبرة وغالبا تم التدريب عليها، لأنها نجحت وحققت الهدف المرجو منها ظاهريا على الأقل تبدى ( ربما فى البداية أى بعد وقوع تلك الحوادث مباشرة ) فى حالة النفور والفزع (المؤقت) من قبل النساء والرجال، لكن هذا النفور فى النهاية لم يترك ضعفا أو تراجعا وإنما على العكس ترك شعورا بالمرارة والعناد والتحدى، فقد خرجن علينا فى برامج التليفزيون والفضائيات من كان لديهن الشجاعة للادلاء بشهادتهن لفضح ما حدث لهن ولغيرهن، وبعضهن اصطحبن أزواجهن الذين تحلـُّوا ـ من وجهة نظرى ـ بشجاعة لا نظير لها، ولم يأبهوا باعتراف زوجاتهم بما حدث وأعلنوا أن هذا الفعل قد زادهم إصرارا.. من المعروف أن هذا الاسلوب غالبا ما كانت تستخدمه الداخلية ومباحث أمن الدولة حين فى زمن مبارك حين يريدون الضغط على شخص ما للادلاء باعترافات معينة، فكانوا يغتصبون أمه أو اخته أو زوجته امامه وعلى مرأى من سكان الشارع او الحارة التى يقطن بها، وهو أسلوب قديم الغرض منه تدمير كرامة الانسان وكسره وإجباره على الخضوع، من الذى فعل ليس موضوعنا لأن هناك أطراف عديدة لديها نفس الهدف، ومن غير المستبعد أن يكون من قام بهذا الفعل رجال من الداخلية أو من الأخوان المسلمين .. ناهينا عمن المدبر وصاحب المصلحة، لكن يبقى السؤال أى أخلاق لدى هذا الشخص مرتكب هذا الفعل الشنيع الذى تم تحريضه وتدريبه وتمويله ، وعلى أى تكوين نفسى مشوه تنطوى طبيعته التى غادرتها كل قيمة من القيم الانسانية ؟ أى جوع دفعه ليقوم بهذا العمل المشين ؟ أن يقبل شخص ما أن يتقاضى مبلغا من المال وأن يُؤجَر ليحاصر ويغتصب ويهتك عرض إمرأة لا يعرف عنها شيئا خرجت من بيتها وتركت أبناءها لتقف جنبا الى جنب مع الرجل فى ميدان الكرامة والحرية تطالب بحق ضاع، غير آبه إن كانت أم أو زوجة أو بنت أو حتى جدة فى الستين، يخلع عنها ملابسها ويمد يده القذرة الى جسدها وأظافره النجسة الى لحمها لينهشها كالذئب الجائع ، دون حتى أن يكون لديه دافع جنسى أو شهوة وإنما بهدف إهانتها وانتهاكها وإرهابها، ولكسب بضعة جنيهات فى المقابل، قد تضيع منه فى ليلة واحدة على شمة هيروين أو حقنة مخدر وبغض النظر عن حجم الايذاء الجسدى والنفسى الذى تسبب فيه لها ولذويها، هو الأمر الذى فاق قدراتى على استيعابه حتى اليوم رغم مرور ما يقرب من شهر على هذه الحوادث والذى اكتشفت أنها جمدت كل رغبة لدى فى الكتابة ومتابعة ما يحدث بل وكل رغبة فى الحياة ذاتها وفاق أقصى كوابيسى غما وحزنا.
خرج علينا بعدها مباشرة بأيام القوادون الذين يُطلــَق عليهم مشايخ الفضائيات بكل ما لديهم من أمراض نفسية وكبت وتشوه إنسانى، يكللون جهود المغتصبين بفتاوى تـُمعـِن فى الاهانة والاحتقار لكل إمراة كانت ضحية لهذه الحوادث، التى إن دلت على شئ فهى تدل على أن المجتمع قد تم تشويهه الى درجة لم يعد ممكنا السكوت عنها.
الخسة والنذالة والخوف والأنانية والانحلال ، أخلاق الطوفان، أخلاق المجتمع الطفيلى أخلاق المقدمون على الغرق.
تتحشرج الكلمات والأفكار فى ذهنى أرفض كل ما نحن فيه اليوم وأجدنى دون مواربة أو مداراة أتامل الماضى الذى لم يكن يعجبنا وكنا ننتقده بشدة وأتوق الى أيامه الجميلة، أتوق لمصر الماضى، مصر السبعينيات والثمانينيات، ماضي بكل تأكيد كانت أيامه أفضل من حاضر كابوسي نعيش فيه اليوم.. أشتاق لمصر أعياد الربيع وحفلات حليم وسهرنا فى ليلة شم النسيم ننتظر الحفل دون ان يخرج علينا وحش مجنون قبيح العقل والخلقة ليحذرنا من الاحتفال ويحرم علينا الفرحة ويخرب عقول أبنائنا بأن الموسيقى ما هى الا مزمار الشيطان .. أتوق لمصر الطيبة النظيفة مصر التى لم يكن الدين فيها مصدرا للارهاب والتخويف والفزع أو عائقا دون التقدم والازدهار.. مصر المتحضرة التى كانت كل البلاد العربية تنظر لها على انها قبلة العلم والفن.
أشتاق الى أستاذى الجليل الى أيام كان فيها إحترامه واجبا، أيام لم يكن يمد يده لأمنحه نقودا نظير جهد بخل به علينا نحن تلاميذ المدرسة ومنحه لمن يدفع ثمنه، أشتاق الى الأمان ، لضابط النجدة البطل، للطبيب الذى يخلص لمهنته والمهندس الأمين الذى كان يوما وراء بناء السد العالى، أتوق الى مروءة الرجال وشهامتهم ، أتوق للايثار والعطاء، كل تلك المعانى السامية ، والتى اختفت بسبب تركيبة مجتمع ينمو عشوائيا ويعانى من الفقر والجهل الى درجة غير آدمية، يمد كل منهم يده بجيب الآخر ينهبه ويعتبرها شطارة، يستحل الملكية العامة ويعتبرها فهلوة .
أتمنى أن أرى علاقة الرجل بالمرأة تعود لتتحلى بالتهذب والأدب والاحترام، أشتاق أن أرى رجلا فى أناقة أبى ورائحته الجميلة وذقنه الحليق ومظهره الراقى، أتوق لمشاهدة فيلم سينما لا يملأه الصراخ والسباب والألفاظ البذيئة والتخلف العقلى، لمسرح يقدم فنا راقيا لشارع نظيف وبيوت جميلة لناس عندها أخلاق ….. نعم أشتاق للأخلاق.
أشتاق للماضى فتقدموا إليه قلدوه حتى لو نعتونا بأننا محلك سر وأننا نتقدم للخلف، توقفوا عند هذا الحد لأن هناك لحظة يكون الرجوع فيها مستحيلا.