للبيع: سياسيون في لبنان

بقلم حسين عبد الحسين/
في لبنان رواية رسمية مفادها أن دولة سيدة ومستقرة تعمل بموجب قوانينها ودستورها، تحكمها سلطة تنفيذية (رئيسا جمهورية وحكومة) منبثقة عن برلمان منتخب. ولأن لجارة لبنان الجنوبية إسرائيل أطماعا في أرض لبنان ومائه وغازه البحري، يحافظ اللبنانيون على “مقاومة” يفترض أنها عفوية منبثقة عن “الأهالي وصمودهم”، وهو ما حول “الصيغة اللبنانية” من دولة لطوائفها إلى دولة شعارها “الشعب والجيش والمقاومة”. هذا في الخيال.
أما الحقيقة، فمفادها أن من يعيشون في بقعة الأرض المسماة لبنان ينحدرون من حضارة دفعتها طبيعة أرضها التي تفتقر إلى أنهار كبيرة ومحاصيل زراعية كافية، إلى استخدام مواردها الطبيعية، أي الأشجار، لبناء سفن ولإحراق الخشب لاستخراج معادن، ولتأسيس شبكة تجارية امتدت من حمص في سورية إلى شواطئ الأطلسي في البرتغال والمغرب.
لم يبق أمام الحريري إلا كتلته النيابية الضخمة، فباعها لـ”حزب الله” مقابل عودته رئيسا للحكومة
على أنها على براعتها، لم تتحول الشبكة الفينيقية يوما إلى هوية جامعة، بل حافظت على هوية أفرادها كتجار شنطة، ينقلون بضائع الآشوريين إلى المصريين، ويوالون الغرب ضد الشرق، أو العكس، سعيا لمكاسب شخصية لزعمائهم، الذين يخطؤون بين الحين والآخر، فيفرون في سفنهم، مثل ملك صور “لولي”، الذي فرّ وفينيقيوه إلى منفاهم في قبرص في القرن السابع قبل الميلاد، بعدما أغضب أسياده الآشوريين. وهكذا، لم يؤسس الفينيقيون يوما، على براعتهم، شعبا متجانسا أو أمة أو حضارة ذات نفوذ.

لبنانيو اليوم مثل فينيقيي الأمس، تجار مواقف سياسية للطرف الإقليمي الذي يدفع أكثر. في ليلة واحدة، انقلب مؤيدو جمال عبد الناصر والوحدة العربية إلى أزلام عدوته اللدودة السعودية، وشذب شيوعيو لبنان لحاهم حتى تصبح إسلامية تتناسب مع الثورة الإيرانية، وانقلب بعثيو صدام حسين العراقي إلى بعثيي حافظ الأسد السوري.
الانتهازية بين السياسيين مفهومة، فهؤلاء بطبيعتهم ينافقون. المشكلة هي في سرعة ورشاقة الانقلاب في صفوف محازبيهم.
في سني منفاه الباريسي، زار رئيس لبنان الحالي ميشال عون الكونغرس الأميركي، وأخبره أنه خلال عمله ضابطا، لم تكن مزارع شبعا لبنانية، بل كان فيها مركز شرطة سوري طرد عون ودوريته العسكرية من المنطقة.
قال عون يومذاك إن لا مشكلة للبنان مع إسرائيل، وإن حكام سورية من آل الأسد يستغلون لبنان لتصفية حساباتهم مع الإسرائيليين، وإن آل الأسد يفعلون ذلك عبر أداتهم “حزب الله”، الذي وصفه عون يومذاك بالتنظيم الإرهابي.
منذ عودته من باريس إلى لبنان، قبل أكثر من عقد، انقلب عون ومناصروه على أنفسهم: صار الأسد، الذي طرد عون من قصره في لبنان إلى منفاه في فرنسا، حامي مسيحيي الشرق، وصار “حزب الله” حامي لبنان في وجه “العدو الإسرائيلي”.
ومثل عون، انقلب رئيس حكومته سعد الحريري، الذي بكى أثناء خطابه المباشر الذي أعلن فيه قيام محكمة دولية لمحاسبة قتلة والده، وهي محكمة أصدرت قرارا اتهاميا بحق خمسة قياديين في “حزب الله”. أوعز أسياد الحريري إليه إنهاء الخصومة مع الرئيس السوري بشار الأسد، فزار سعد الحريري دمشق وأمضى ليلة في ضيافة الأسد، قبل أن يغضب أسياد الحريري، ويغضب هو على الأسد، على إثر اندلاع الثورة السورية في العام 2011. ثم غضب أسياد الحريري عليه، وانتزعوا منه شركة والده، وسمحوا للمحاكم بإذاعة اسمه كمدعى عليه بالتخلف عن التزاماته المالية.
لبنان دولة ذات سيادة خيالية. أما في الواقع، فلبنان مشاع يحكم فيه القوي الضعيف، ويصفق الضعيف لأسياده
لم يبق أمام الحريري إلا كتلته النيابية الضخمة، فباعها لـ”حزب الله” مقابل عودته رئيسا للحكومة، بشكل يعوض عنه خسارة إمبراطوريته المالية في بلد كلبنان يحل في مراتب متقدمة في الفساد العالمي، بحسب ترتيب “الشفافية الدولية”.
إقرأ للكاتب أيضا: مرشد المرشدين والاستعمار الإيراني للعرب
لبنان يستعد لانتخابات نيابية في غضون أشهر قليلة. لن تغير نتائج الانتخابات الكثير، بل ستعيد رسم حجم الكتل الانتخابية بشكل طفيف. “حزب الله” يمسك بقرارات لبنان السيادية، خصوصا السياسات الخارجية والدفاعية والأمنية، فيما “تجار الشنطة” من السياسيين اللبنانيين يتسابقون في انتخابات نيابية يسعى كل منهم فيها لنيل أكبر عدد من المقاعد النيابية للحفاظ على حصصه المالية والإدارية في الدولة.
في صدارة هؤلاء السياسيين اللبنانيين وزير الخارجية جبران باسيل، الذي يعتقد أن “مجلس النواب” المتوقع انتخابه هو الذي سينتخب خلفا لحماه عون، وباسيل طبعا يعوّل على أن يكون هو رئيس لبنان المقبل بعد عون. وهو لهذا السبب، يطلق التصاريح وعكسها، من أنه يختلف و”حزب الله”، إلى دعوته دول العالم إلى مقاطعة الولايات المتحدة، بل فرض حصار عليها. الوزير العتيد مستعد لقول ما يلزم لانتزاع أكبر حصة في الثروة النفطية المزمع استخراجها بالشراكة مع الحريري والسياسيين الآخرين، وليصل للرئاسة.
لبنان دولة ذات سيادة خيالية. أما في الواقع، فلبنان مشاع يحكم فيه القوي الضعيف، ويصفق الضعيف لأسياده.
ثم يصطف اللبنانيون جميعهم أقوياء وضعفاء، من معارضي “حزب الله” أو من مؤيديه، على أبواب سفارات أميركا وكندا وأوروبا. يتسللون بعيدا عن الأنظار لتلد نساؤهم في دول متقدمة يحوز فيها أولادهم على جوازات سفر محترمة. ثم يعودون إلى لبنان ويستأنفون صراخهم ضد الإمبريالية ومطامع إسرائيل وإلى ما هناك من تفاهات.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.