يجلس قبالتي كل صباح، كي يحتسي قهوته ويتناول فطوره ويقرأ صحيفته… ابن ثلاث وثمانين ربيعا…. ولو كنت قادرة على أن أحصي أيامه ، دقائقه، أو حتى ثوانيه لكان عدد فصول الربيع التي عاشها أكبرمن ذلك بكثير…. نعم أعرف حق المعرفة أن كل ثانية من حياته كانت زهرة في ربيع، وبغض النظر عن جهلي بالكوارث والمنغصات والتحديات التي واجهته… فالربيع لا يعني أن تعيش حياة خالية من الأشواك، بل يعني أن تكون قادرا على أن تبرعم وتشرأب وتزهر وتفوح عطرا رغم كل الأعشاب الضارة التي تحيط بك….
…..
هكذا هو برووس صديق معظم صباحاتي… دردشت معه أكثر من مرة، وعرفت أنه خسر رفيقة دربه منذ ثلاث سنوات، بعد رحلة استمرت قرابة ستين عاما. تدهورت صحته بسرعة خلال تلك السنوات التي عاشها وحيدا، فانحنت قامته الفارعة وغارت عيناه وصارت يداه ترتجفان، وراح شعره الكثيف يتدلى على منكبيه، لكن عقله لم يهبط قيد شعرة عن مستوى يقظته ووعيه، وذاكرته ظلت متقدة كتنور يشعّ وهجا….. أكثر من مرة ذرف دمعة وهو يحكي لي عن ذكرياته معها، لكنّه وبسرعة البرق يستبدل تلك الدمعة بابتسامة تسربل وجهه، وهو يقول: الحياة قصيرة، وانا أستمد من ذكرياتي تلك ما يساعدني على أن أعيش ما تبقى منها…..
………
يدفع أمامه آلة على شكل كرسي، لا ليجلس عليها بل كي يستند ويوازن خطواته يمارس حياته بسهولة وبصورة طبيعية أكثر من شخص آخر يؤلمه جرح صغير في بنصره….. مرة سألته، لماذا لا يقتني كرسيّا كهربائيّا متحركا، فرد بثقة: أرفض طالما استطيع أن أمشي بنفسي! وتابع: عندي ممرضة تقضي معي معظم ساعات النهار، وبامكاني أن أتصل بها بالليل لو احتجتها هي تعرض علي أن ترافقني في رحلتي إلى المقهى كل صباح، ولكنني أرفض، لا أريد أن أعتمد على أحد طالما استطيع أن أعتمد على نفسي….. لا أريد أن يقيدني أحد، وأشعر بحرية عندما أمارس حياتي بنفسي!
….
الحياة موقف، والإنسان يحدد موقفه منها ومن تفاصيلها بناءا على معطيات الثقافة التي ساهمت في تشكيل جهازه العقائدي، وبلورت قناعاته…. ليس هذا وحسب، لا شك أن المجتمع ـ دولة وأفرادا ـ يساهم إلى حد كبير في تسهيل اتخاذ الإنسان للموقف الذي يناسبه. فالدولة عندما تمارس مسؤولياتها تجاه أفرادها على أكمل وجه، والأفراد عندما يمارسون مسؤولياتهم تجاه الدولة على أكمل وجه، يصبح من السهل على انسان المجتمع أن يتخذ الموقف الذي يراه مناسبا، وأن يلتزم بمواقفه.
….
برووس يريد أن يعتمد على نفسه كي يشعر بحريته، ويريد أيضا أن يستمتع بما تبقى من حياته…. يأتي إلى مقهاه المفضل كي يحتسي قهوته ويتناول فطوره ويقرأ جريدته، وخلال ذلك يدردش مع الداخل والخارج…. تسمع قهقهاته بين الحين والآخر، ويستطيع زبون في آخر زاوية من المقهى أن يصغي إلى طرائفه التي يرويها للجالس جنبه…. هذه السهولة التي يمارس بها حياته في هذا السن سببها قيام دولته بسؤولياتها تجاه، بعد أن قضى خمسين عاما من حياته يشتغل كمدرس لمادة الرياضيات في ثانويات مدينته….. الحكومة اليوم مسؤولة عن صحته وعن ضمان كل ما يؤمن له حياة كريمة مرتاحة وسهلة.. هي مسؤولة عن تنقالاته…عن طبابته…عن ممرضته…عن المراكز الترفيهية التي يؤمها المسنين في عمره، عن كل شاردة وواردة في حياته….
لا يعيش يوما واحدا قلقا على غده، أليس حقه بعد أن قام بواجبه؟
…..
كنت استمع مؤخرا إلى صحفي سوري ينقل خبرا من مكان ما خلال الخبر تحدث عن رجل فقد عائلته في الحرب وصار وحيدا
فقال: لم يعد لهذا العجوز الخمسيني من يعتني به، ثم انتقلت الكاميرا إلى الرجل لتقدمه للمشاهد عجوز خمسيني؟؟؟؟
أنا اليوم في الستين من عمري، وأشعر أنني أقوى جسديا وعقليا مما كنت عليه قبل عشرين عاما، أليست الحياة فعلا هي انعكاس لموقفنا منها؟؟؟ أليس موقفنا منها هو انعكاس لثقافة تشربناها؟؟؟
…..
عندما أبحث من خلال عدسة مجهري عن أدق سبب للفرق بيننا وبينهم، أصل إلى قناعة من أن السبب يكمن في الطريقة التي ننظر من خلالها للحياة… الشعوب التي تعتبر الحياة قيمة مقدسة، تسعى لاحقا ، ليس فقط للحفاظ على الحياة، بل أيضا لتحسين نوعيتها،
أما الشعوب التي تستهتر بالحياة كقيمة، تخسر تلك الحياة نوعا وكما….
…..
لا يمكن لانسان أن يتلو ـ وهو في اللحظة التي يُفترض أن تكون الأنقى روحانيّا ـ أن يتلو “فضرب الرقاب” دون أن تهتز شعرة عنده، أو على الأقل يشعر داخليا بوحشية تلك المهمة، لا يمكن لهذا الانسان أن يعيش حياة سوية لا بعدد سنواتها ولا بنوعية تلك السنوات….
…
عندما يعيش المرء مقتنعا أن الله قد حلل ضرب الرقبة (بغض النظر عن السبب والظرف)، يفقد احساسه مع الزمن بقيمة الحياة، سواءا حياته أو حياة غيره…. عندما لا ترى في الشيء قيمة لا يمكن أن تحافظ عليه ، ناهيك على أن تسعى لتحسينه….
….
منذ سنوات وفي أوج المعركة بين الديمقراطيين والجمهوريين حول قوانين الهجرة، تمخضت امرأة مكسيكية وهي تقفز فوق الحدود، وتعسرت ولادتها. اتصل حرس الحدود بالاسعاف، فنقتلها على الفور طائرة هيليكوبتر إلى أقرب مشفى داخل الحدود الأمريكية. ولدت المرأة توأما ملتصقا يعاني من مشاكل كادت تودي بحياة الطفلين. تمّ نقلهما على الفور بطائرة أخرى من كالفورنيا إلى تكساس حيث يوجد مركز مختص بفصل التوائم الملتصقة أجريت لهما العملية ونجحت بعد أن كلفت مليون دولار…. العام الماضي كنت اراقب برنامجا تلفزيونيا يتابع حياة المرأة وطفليها في المكسيك بعد أن أعادتهم السلطات الأمريكية عندما تحسنت صحة الأم وطفليها طبعا، لاحقا ووفقا للقانون الأمريكي يحق للطفلين أن يعودا إلى أمريكا لأنهم ولدا هناك.
…..
لا تقل لي أن أمريكا تتآمر عليك!لا أحد يتآمر عليك إلا ثقافتك وعقائدك، التي بلورت عقليتك وجلبت لك الحكومة التي تستحقها.. لا يوجد أي فرق، حتى ولو كان مجهريا، بين أي ثورجي في أي بلد اسلامي وبين رئيس ذلك البلد…. ولا يوجد فرق بين الجوقة التي تدعم هذا وتلك التي تدعم ذاك! إن كان هناك فرق، فهو فرق في القوى التي يملكها كل طرف، وليس في المستوى الأخلاقي والانساني الذي يحدد طبيعة استخدام تلك القوة. كلاهما انتاج ثقافي محلي، وكل واحد يستحق الآخر، فالثقافة الواحدة قلما تنتج إلا صورا فتوكوبية…..
……………..
لكي تغير وضعك عليك أن تؤمن بأن الحياة قيمة، وبأن كل انسان ـ بما فيه ألد أعدائك ـ يستحق الحياة….. ليس هذا وحسب، بل أنت مناط بمسؤوليتك لتحمي الحياة….. كل حياة، بما فيها حياة ذلك الحمار الذي حرقته شرذمة من الارهابيين بعد أن لفوه بالعلم الاسرائيلي. لو كانوا يحترمون الحياة في أرقى صورها لحافظوا عليها في أدناها…. نعم، لو كانوا يقدسون حياة أطفالهم لما حروقوا هذا الكائن الذي لا حول له ولا قوة، لكنهم ضحايا عقيدة امتهنت القتل والإرهاب كوسيلة للتقرب من الإله، عقيدة هبطت بالهها إلى مستوى البشر، بدلا من أن ترتقي بالبشر إلى مستوى الإله… تلك الجريمة وأمثالها تشرح وتبرر ـ كونيّا ـ ما يحدث اليوم، فالكون يسجل ولا يستعجل….. قد يمهل لكنه لا يهمل!
………
من السهل تبيان السبب الاساسي ،هو ثمره شجره الشر الشيطانيه التي نمت في الشرق البائس روحيا واخلاقيا وانشبت اظفارها
.اللعينه حولها جغرافيا ، فدمرت ثقافات وحضارات واخلاق وسمو واستبدلتهم بؤسا وموتا ولعنه مدى الدهر.