لفيف

pizagmanالإسراف في الضغط علي ما هو جاد أسهل طريقة لتحويله إلي هزلي، حتي كتاب الكوميديا انتبهوا إلي هذه الحقيقة واستخدموها بإسراف من أجل استدرار ضحكات الجمهور، إفراط الفنان “جورج سيدهم” في ترديد جملة “تشرب شاي” علي سبيل المثال، وإلحاح “عادل امام” في ترديد جملة “دا انا غلبان”!

وبدوران كلمة “اصطفاف” وانتشارها مؤخرًا في الألسنة بشكل مبالغ فيه صارت مبتذلة ومثيرة للسخرية في آن معًا، لا تقل سخافة وابتذالاً عن كلمة “لفيف” القريبة منها من حيث المدلول ربما، والتي أهانها “فؤاد المهندس” في إحدي مسرحياته أيضًا!

ما هو أسوأ من ابتذال الخيار الأقل كلفة أن الذين سمحوا للحديث عن الاصطفاف بالاستحواذ علي النصيب الأكبر من سجالاتهم العقيمة لا هم أخضعوا هدفه الأساسي للجدل العميق، ولا هم عالجوا أخطاء الماضي التي أسلمت الشركاء إلي استجداء الاصطفاف مجددًا كوسيلة للعبور إلي غاية عسيرة تشخص لها قلوب المصريين جميعًا، ولا هم صمموا حتي الآن خريطة واضحة الملامح لاستعادة مصر عقب استعادة ثورة يناير المحتملة إلي مصر التي كانت مساء 22 يوليو 1952، وليس هذا أمرًا سهلاً إنما قد يستغرق عقدًا كاملاً من العمل الشاق بمشاركة كل ألوان الطيف، تفكيك دولة عبد الناصر منهجيًا فحسب يحتاج فترة رئاسية كاملة، فالثورة ليست فورة طارئة لتغيير قوانين الحياة في مجتمع ما ثم ينسحب الثوار كلٌّ إلي ركنه بمجرد الانتهاء من طقوس الميادين، إنما فعل متصل الحلقات حتي تسقط قوانينها ثورة أخري، أو حتي يصير الشعب علي وعي تام الدوائر لحقوقه بالقدر الذي يكفي ليكون معظم أفراده علي الدوام كالأوتار المشدودة للتمرد علي أي قرار ينبض بشبهة الردة إلي الماضي ..

من اللافت أن عراء أعصاب جميع الفرقاء صار أوضح من أن يستدل عليه بالاتهامات المتبادلة أحياناً، ولا بتعابير الغربة في الوجوه، لقد أصبح الرجم بأي تهمة وكل تهمة دون دليل حاضرًا كفعل لا كرد فعل فحسب، تحفز دائم فيما يصرخ وطن بأكمله من كيس قمامة بكل وضوح، ولغة نحاسية الهدف منها سد فجوات الصمت لا ابتكار عبارات غير مستهلكة، لم تكن قواقع الذات وجدران الجرانيت التي تحاصر كل فصيل بمفرده أكثر صلابة مما هي الآن، حالة تبدو نشازاً إذا ما قورنت بحالة الانسجام بين المصطفين علي الباطل في الجانب الآخر، وما هو أسوأ من العزلة أن يصدق المنطوون علي قناعاتهم حديث مراياها التي لا تعكس إلا بهاء الإيديولوجيا التي ينحازون إليها ويتعصبون لها دون أن يقيموا وزناً لتلك التحولات العنيفة في المنطقة والتجسس علي معطياتها في علاقةٍ ملتهبةٍ مع زحف كل دلالات كلمة الخطر!

كأننا أمام خطباء كخطباء روما قديمًا لا موتورين أو ثوار، وأمام مباهلة لا حوار، كل يدّعي العلم ببواطن الأمور أكثر، وبالتالي، “فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ”، كأن أيًا من الفرقاء لم يجد حتي الآن تفسيرًا لكل ما حدث من هزائم إلا أنه لم يمارس في الماضي إقصاء الفريق الآخر كما ينبغي، لقد بلغ الانفصال عن الواقع والجهل المطبق بأبعاد الصورة ببعض الأصوات المحسوبة علي الثورة حد الاعتقاد المضلل بأنه في موضع يسمح له بالجلوس منفردًا علي حوض الثورة ليشفع أو لا يشفع للآخرين ويوزع عليهم المقاعد في مؤخرة الصفوف أو في مقدمتها ويملي عليهم شروطه أيضًا!

تلك الدعوة إلي رأي معلب، وتلك المباهلة التي لا تسعى إلا إلى تسفيه الرأي الآخر، وبنفس القدر، محاولات البعض البائسة للبحث عن دور ليكون حجرًا يبني عليه مجدًا شخصيًا وإن كان التلميح إلي كيانات وهمية تعزز من نصيبه في تشكيل ملامح الخريطة السياسية مستقبلاً، قطعة من كعكة افتراضية باعتبار ما “مش بعيد علي ربنا” سيكون، هذه كلها مؤشرات علي أن معظم الفرقاء لا يحملون رؤية نقدية ضد الماضي ولا رؤية موضوعية للانتقال إلي المستقبل بأقل الخسائر، بل يتعاطون معه وفقاً لمواقف نفسية وهزائم شخصية وأحقاد خاصة وأطماع في الوقت الخطأ، بالإضافة إلي أن ما في هذه المحاولات من خطورة يتجاوز خطوط المبالغة السياسية والتنكرالمشين للواقع إلي الاعتداء علي مبادئ العمل الثوري ذاته، يتحدث بعضهم في كل الأحوال بلا مبالاة وكأن الثورة لا تخصه، بينما يتحدث البعض الآخر عن الشأن المصري بنفس الحماس الذى يتحدث به عما يدور في اليمن أو سوريا أو الأحواز، منطق يعمق من غرابته أنين الوطن بين أنياب لحظة تاريخية كأن الفيلسوفة “آين راند” قد ادخرت التنظير للأنانية العقلانية لمثلها، لا يكون التعاطي مع الأمور الجلل رشيدًا إلا إذا كان يعظم مصلحة الفرد الذاتية فقط، ساعد نفسك أولاً لتتمكن من مساعدة الآخرين كما ينبغي، فنزعة الإيثار في المعارك المفصلية ضارة جدًا، ليس غريبًا والأمر هكذا أن تكون النتيجة تسطيح المشهد وكسر أخلاقياته فالإنحراف به، بقصد أو بدون قصد، إلى متاهات التسطيح والجدل والمغالطة!

عامين وبعض العام ولا نسمع إلا جعجعة ولا طحن، ومحاولات لا يمكن وصفها إلا بمحاولات لتشفير الواقع وتزييفه، وبناء أوهام حول مستقبل الثورة لا تقل بؤسًا عن أوهام النظام حول المستقبل، كأنها ثورة ذهنية، فلا ثورة، ولا نذر ثورة، إنما حناجر وضعتها حزمة من الظروف الاعتباطية في حنجرة المعركة فاحترفت الإفراط في الصراخ عن انهيار اقتصادي وشيك سوف يقتلع الانقلاب من جذوره، وعن مبادرات خارجية يتم صياغتها ستعيد الأمور إلي نصابها، وعن تململ داخل المؤسسة العسكرية، وعن العمر المتداول للانقلابات في كل مكان، هذا من جهة، ومن جهة أخري، ذلك الإسراف في استجداء المنظمات الحقوقية للتدخل وتهدئة سعار النظام المصري دون أن يفهموا اللغة التي تطرب لها صدور هؤلاء وتحرك أعماقهم، وهذا دليل رعونة، فالغرب يعرف ما يدور خلف الكواليس المصرية أكثر مما يعرف المصريون أنفسهم، غير أن الغرب لا يكترث للأخلاقي إلا إذا شعر بالخطر الحقيقي يقترب من مصالحه، ولا يقيم لإنسان الشرق وزناً إلا عندما يحتاج للحديث عن إرهابيين أو لصوص أو متخلفين، النقطة الأكثر أهمية في هذا الإطار هي أن الغربيين لا يستوعبون إطلاقاً تسول المساعدة علي التحرر مع امتلاك الشعوب لأدواته، لقد نالوا حريتهم بمخالبهم الخاصة دون مساعدة من أحد، واكتسبوا يقيناً بأنه عندما تنتهي السياسة تبدأ الثورات أو تبدأ الحروب الأهلية، لذلك يجب التقليل من الهواجس المضللة حول أي رهانات داخلية على روافع خارجية لتحريف الإتجاه حتي خلق الذريعة المناسبة، وذكري يناير توقيت ملائم لخلقها، وإن كنت أظن أنها ستمر دون أن تترك ورائها 1 علي 1000 من توقعات النظام المذعورة بشأنها فلأن ذلك علي الأرجح هو الأقرب إلي سخافة منطق المشهد الحالي، ومنطق الأصوات الضارة أيضًا!

يجب أن نصدق، قبل الخوض في المضي قدمًا نحو ثورة أخري، أن الزمن قد اختل فى عقول المصريين، قواعد الإسلاميين بشكل أكثر عمقاً، واسترجع كثير منهم مذاقات الماضى تعقيبًا علي امتداد عمر الانقلاب محاطاً بالتوقعات المسرفة في التفاؤل التي أدت، بمرور الوقت، إلي نتائج ضارة طورت في نفوس البسطاء إحساس عميق بما يشبه الخداع، وأعطتهم ما يشبه الانطباع بالوحدة في خوض هذا الليل، وبأن قضية القصاص كما الحرية قد وضعت في الظل وفي مرتبة دنيا من اهتمامات الذين وضعوا مفاتيحهم كلها تحت تصرفهم!

قد أتفهم فتور الاسلاميين نحو العمل الجماعي، وإن نفوا عنهم هذه التهمة، فالمستقبل في أدبيات السماء مستقبل فردي، تدور كل طقوسه في مدار الفرد لا الجماعة، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، هذا يفسر ربما لماذا كان موقف غالبية الإسلاميين من ثورة يناير عندما اكتسبت زخمًا ولاحت نذر نجاحها بمثابة حجر كريم، ويفسر أيضًا، لماذا عندما آثروا العمل بمفردهم قد انكمشت هوامش مناورات الثورة والثوار إلي درجة صادمة، والثابت أن الاستقلالية والحرية الفردية قيم لا تولد أبدًا في العزلة، إنما من خلال اندماج الجماعات أو التحامها علي أقل تقدير، حرية الفرد لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال حرية النوع، مع ذلك، أتفهم أيضًا أن المسلم الحق من السهل أن تحرك الضربات أوجاعه لكنها أبدًا لا تحطمه، من السهل أن يستخفه النصر لكنه لا يستكين أبدًا للهزيمة ويخرج منها عادة أكثر صلابة، بل يمتاز بأكثر من صلابة، لا يقبل أبدًا أن يكون مكسر عصا للآخرين، أو هكذا أظن..

ولا يخفي علي أحد أن الاصطفاف هو مجرد مظلة اجتماعية لكيانات تنظر إلي أمور الحياة بعيون متضاربة تريد أن تتحد لتنمية إحساس عام بالقوة والقدرة علي قيادة الحرية إلي اكتشاف مصر مجددًا، فالحرية هي القيمة والبداية والغاية والراية، من هذه الجهة يصبح الاصطفاف مشروعاً سياسيًا بامتياز، لذلك، لا يضره ترجَّلَ الفرقاء عن ايدولوجياتهم أم لم يترجلوا، فكل فرد يستطيع حتي من خلال القطيعة أن يحتفظ بعقله وبخرزته التي اختارها من العقد دون وصاية من أحد، ولا يعرقله، إن خلصت النوايا، تمسك الإخوان المسلمين بعودة “د.مرسي” أو التحلي بالمقامرة والتخلي عنها، وإن كان التمسك بها أكثر سلامة، وهذه رمزية سهلة الإدراك، فهو بوصفه آخر ما تبقي من أشياء يناير صارت ملامح مستقبله علامة علي استعادة الثورة أو عدم استعادتها، ثمة بعد ذلك آليات حول بقائه أو انسحابه إلي صفوف الشعب يمكن أن يتوافق عليها الجميع قاب “كوب شاي” أو أدني، لقد اقتربت يناير فاقتربت لحظة حاسمة مشوبة حتمًا بقلق الأسئلة في مجتمعات الإخوان المسلمين:

ماذا لو تنازلوا عن عودة “د.مرسي” وفشلت الثورة في اكتشاف دروبها؟

ما هو ذلك المبرر وما هي تلك الضمانة لاستئناف الثورة وبقائها معلقة بين الماضي والمستقبل وأوقات مفتوحة لمحاولات قادمة؟

أسئلة مشروعة تنكمش عند وضوح الرؤية إلي أبسط أنواع الحجج وأكثرها بدائية وسخافة، فما من شك أن اعتبار العقبة في طريق استئناف الثورة هي عودة “د.مرسي”، أو ولادته من جديد بصيغة أخري علي الأرجح، وبالقدر نفسه، اعتبار عدم عودته هو العقبة، ليس سوي ملاذ شديد العراء للخائفين من اختبارات النزول إلي الميادين في ظل هذا السعار الأمني لا أكثر ولا أقل، علة تشتعل كفضيحة لارتكاب النكوص بذريعة لا أكثر ولا أقل، ذلك أن الثورة وهي القضية فعلٌ شعبي يولد علي الدوام تعقيبًا علي لحظة تاريخية محتقنة بكل توازنات القوى فيها لا تعقيبًا علي الخلاف حول كراهية أشخاص أو حبهم، لم يثر المصريون نقمة علي “مبارك” كشخص، بل ثاروا لأن طاقتهم علي تحمل بشاعة الأفق الذي صنعه نظام “مبارك” قد خرجت عن إطارها، وليس معقولاً أو مقبولاً أن يكون غياب “د.مرسي” عن المستقبل أو ضلوعه فيه هو العائق أمام المصريين للخلاص من بشاعة الأفق الذي صنعه الانقلاب علي الرغم من ارتفاعها عن بشاعة أفق ما قبل يناير 2011 بآلاف الأميال، ومن الإنصاف أن أعترف أن في ملامح “د.مرسي” كإنسان وقوة روحة شيئاً من معظم المصريين، كما أن الثورة فعل غير مخطط له غالبًا، لا يستعد الثوار قبل الثورة للخروج من المنطلقات نفسها، ولا يناقشون كيفية تجميل الهواء بأقواس قزح، فالثورة محض احتمال، الثائر شئ والسياسي شئ آخر، وثورة يناير مثالاً، حفنة من الشباب الفرادي في الزحام نزلوا التحرير عقب دعوات الكترونية بمطالب منخفضة السقف جدًا، عندما تجمع حولهم المصريون بكل ظلالهم اقتلعوا رمزًا لنظام يضرب بجذوره في كل ملليمتر من التربة المصرية ويلتحم بأدق تفاصيل جزئياتها، وكانوا جديرين باستعادة لافتة “شارع الحرية سابقاً” وإلقاء لافتة “شارع جمال عبد الناصر” في سلة المهملات لولا رغبة بعض كبار السن في إيقاظ أحلامهم العفنة، إن لم يكن الأمر كذلك، فما حدث كان أسوأ!

لا شك أن المنفصل عن الواقع فقط هو من يتخيل إمكانية استنساخ ذلك السيناريو نفسه والحصول علي النهاية السعيدة نفسها، لقد حفظت دولة عبد الناصر الأساليب وتجاوزت إمكانية الوقوع في شراك كشراك يناير 2011، لذلك، ما أتوقعه ويغرد لي به البوم ألا ثائر أعزل يستطيع بعد الآن وحتي إشعار آخر صناعة ثورة مصرية أخري تامة الدوائر!

لا أحد يريد لهذا البلد أن يدمر من كل جانب ويسكنه البوم، لكن السؤال المتطلب:

– ما هو الحل إذا كان البديل عن تدميره هو العبودية إلي أبد الآبدين؟

– ما هو الحل وأقصي ما يمكن أن تتركه الذكري الخامسة ورائها حدث إن لم يكن صالحًا للبناء عليه، فلا أقل من أن يمتص عيون العالم التي توقفت عن التحديق في ما يحدث في مصر بعد انحسار مظاهر الثورة وانسحاب معظم الثائرين إلي الأركان أو المعتقلات، أو لا أقل من أن يخلق ذريعة يمكن أن ينفذ منها قادمون بحلول وسطي؟

أقول هذا الكلام لأن “نصف الحقيقة أكثر خطورة من الباطل”، هذا قول مأثور، يسلمني بالضرورة إلي التأكيد علي أن النصر الناقص هو أسوأ أنواع الانتصارات، وأن الهزيمة الناقصة هي أرق أنواع الهزائم لأنها تؤسس دائمًا لوعي جديد يعلِّم المهزوم ألا يسمح بتكرارها، ولقد تعلمت دولة عبد الناصر من هزيمة يناير 2011 المؤلمة ما يكفي لإجهاض أي محاولة لاستنساخها مرة أخري، بالإضافة إلي أنها استفادت جدًا من ماضي داخلية “حبيب العادلي” السيئ السمعة الذي استعاد لياقته كاملة في الذاكرة الكلية للمصريين!

ولولا أن الجنرال “كولن باول” خرج من التجربة المهينة في حرب فيتنام مزدحمًا بالندوب النفسية العميقة وفقد الكثير من رفقاء السلاح لما فكَّر أن يؤسس لعقيدة الولايات المتحدة العسكرية المتبعة منذ عقدين وأكثر، تنص هذه العقيدة على:

– عدم ارسال القوات الامريكية للقتال إلا إذا ضمنت تفوقاً ساحقاً في القوة العسكرية يمكنها من القضاء على العدو قضاءًا مبرمًا

– عدم إشراك الجنود الأمريكيين في أية عمليات عسكرية ما لم تكن للولايات المتحدة مصلحة وطنية واضحة في ذلك!

هذه العقيدة هي التفسير الأكثر عدالة لنشأة العديد من التنظيمات التي أساءت إلي الإسلام جدًا مثل القاعدة وطالبان والصحوات ومؤخرًا داعش!

لا وصول الإسلاميين إلي الحكم كان ضدي، ولا كنت يومًا مع سفك دمائهم، ولأننّى أعرف أنهم القوة الوحيدة التي يمكنها انتشال مصر، وأنهم أقوي ألف مرة عما يقدرون هم في أنفسهم، أقول لهم، وأنا باب مفتوح علي مصراعيه للرجم بالعمالة:

1 – الضغط علي وصف النظام بالمختل حماقة، لأن مجرد التسليم بأنه نظام ينفي عنه قبليًا تهمة الاختلال، ويعرف جيدًا أين يضع مواطئ قدميه، لكن المختلين هم الذين يروجون لهذا المصطلح الفاشل، ولا يخيب النظام عادة أملهم، فيمدهم بين الحين والحين بنصر صغير يهدئ قلوبهم ويعمق هذا الشعور في مخيلاتهم، ولا تمر سوي أيام حتي يكتشف سعداء الأمس ألا نجمة قد فقدت وضوحها وألا شيئاً قد تغير، وأن الكابوس ما زال قائمًا، بل كبر أيامًا، ويهرب الوقت كحبات الشعير من قبضة مرتعشة، علي سبيل المثال، ضرب “أحمد موسي”، وهذا مدبر ومحسوب بعناية بالغة، قطعة اسفنج لامتصاص الغضب، والإسفنج من الثدييات، وعقب كل هجوم يتوعد “أحمد موسي” بالثأر، وتضغط جوقة نظام الدين مهيب الركن في المساء علي الحدث وتضخمه، يصل الأمر أحياناً إلي إعلان بعضهم تشفيه علي الهواء مباشرة، ويضحك الممسك بخيوط الماريونيت خلف الستار، فهو يعرف وهم يعرفون و “أحمد موسي” يعرف أنه ما يؤدي إلا دور كرة الضغط التي تمتص بعض الغضب لا أكثر ولا أقل، تفريغ العصبية لا أكثر ولا أقل، وهو يقبل بتجسيد هذا الدور عن طيب خاطر، ومثله لمثل هذا خلق، فأي مبرر لسقوط الضوء علي اسم كاسم “أحمد موسي” إلا في صفحات الحوادث أو الوفيات أو معارك الباعة الجائلين وشجارات ماسحي الأحذية علي أسبقية الفوز بحذاء أحدهم، وإلا لضاعت قواعد الضوء أصلاً..

من الغريب أنهم يكررون الحدث نفسه والسيناريو نفسه والأبطال أنفسهم بالتفاصيل نفسها أحياناً، مع ذلك، لا يمل الجمهور نفسه مشاهدة تلك المسرحية المستهلكة والتفاعل مع الحكايات المستهلكة لأبطالها المستهلكين، وهم عادة حسب الظهور: كرة الغضب أعلاه، وفار السبتية، وتوفيق عكاشة، ومرتضي منصور، وقطط النادي الأهلي، وسما المصري، وريهام سعيد، وانتصار!

النموذج الأحدث والأكثر حضورًا في هذا السياق هو نقل الضباط المتسببين في قتل ضحية “الأقصر” إلي أماكن أخري لإبداع المزيد من التعذيب في آفاق بكر بالنسبة إليهم أو سجنهم حتي يسقط الحدث من لهجات المصريين وبالتالي ترقيتهم والإغداق عليهم برتب أعلي، ومن قرأ رواية “الزيني بركات” يعرف أن “جمال الغيطاني” فضح هذا الأسلوب المصري المتبع منذ مئات السنين وأكثر، وفي نفس السياق، قبول النقض علي أحكام سابقة وإعادة المحاكمات مع بقاء الرهائن من بين أوراق اللعبة محفوظة للاستخدام عند الحاجة، حيلة تمت صياغتها فى زمن غير الزمن مع ذلك ما زالت تنجح، لا تلمسوا شيئاً، والذين يديرون النظام من خارج الحدود يتركون له مساحة لا بأس بها لإبداع مثل هذه الحيل الصغيرة، غير أنهم يتدخلون سريعًا عندما يسقط في حفرة حقيقية أكبر من قدرته علي ترميم عظامه ومغادرتها سالمًا، كما حدث في حالة الطائرة الروسية، وما زال الإسلاميون يتسائلون عن سبب تأخير النصر دون أن يدور ببالهم أنهم يصارعون رزمة خصوم مدججين بكل أدوات النصر في نفس الوقت، وثمة سبب آخر لتأخير النصر، أعني ذلك الرجل الذي يكتب شعارات أسابيع التحالف الجامدة مثل “بدمائنا نحمي نيلنا”، نسأل الله له الهداية واستيعاب تلك اللغة التي يفهمها عوام المصريين!

2 – الغرب يريد ما يريد المصريين تمامًا لكن بآلية مختلفة وتيار أكثر عنفاً قد يجرف مصر إلي الخلف عقودًا، وهو لا يخون تاريخه إذا كان يخطط علي الأرجح لإغراق الجيش المصري في أكثر من مستنقع قريبًا جدًا، ذلك أن ما يحدث في المنطقة ليست حربًا علي ما يقولون داعش، إنما المضي قدمًا بدماء عربية نحو “سايكس بيكو” جديدة بمفردات أخري ووعود “بلفور” أخري، حتي الثورة، إذا افترضنا نجاحها في العصف بدولة الجنرالات، لم يعد بإمكانها بعد الآن كبح هذا المستقبل، وسوف يكون أي رئيس مصري قادم مضطرًا إلي مخاصرة الركب ومسايرته، لقد اقتربوا إلي حد لا يسمح لهم بمغادرة الشرق مع بقائه علي ما كان عليه قبل زياراتهم الأخيرة!

3 – ثمة ما يمكن أن نسميه في أوقات الأزمات الكبيرة بالأخلاق الطارئة، تحديد الزمان المناسب للتحلي بالأخلاق الطارئة موهبة كبري، فإبراز المبادئ وتقديمها علي المنافع في مثل هذه الأوقات شديدة التوتر بمثابة اعوجاج فكري، ما يشبه التهافت علي رجم “البرادعي” بالتورط في إراقة دماء الإسلاميين ضار جدًا وغير صحيح إطلاقاً، فالإمساك بمشهد ما بعد 3 يوليو مختزلاً أو التنكر للروابط بين ذاك اليوم المشئوم وبين ما قبله من أيام خطيئة كبري، تعميم الإحساس بالتربص ينسف الفوارق بين حيوانات الغابة والإنسان، حتي إذا كان “البرادعي” من بين المتورطين في الدم فعلاً فلكل وقت خاص عدوه الخاص، ما الذي يمنع أن يتحلي الإسلاميون بالميكافيلية ويتجاوزوا أفكارهم السابقة عنه أو يجمدوها علي الأقل حتي اكتمال خروجهم من مفترق الهزائم ثم يقتلونه بدم بارد إن شاءوا بمجرد العبور إلي الساحل، “وائل غنيم” أيضًا، إنهما بالإضافة إلي “باسم يوسف” الأكثر امتلاء بالعالم وبالساسة وبالنشطاء الفاعلين، كل رموز يناير ما عدا “حمدين صباحي” مفيدون جدًا في الزحف المقدس نحو استعادة الحرية، وانضمامهم إلي الثورة من شأنه أن يرفع تلالاً من الحرج عن الإسلاميين، النقطة الدالة في هذا السياق أن كل من شهد بدرًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، إلا “حمدين صباحي” فهو المعادل الموضوعي لـ “أحمد موسي” شاء من شاء وأبي من أبي، أو كما ترون!

4 – القضية المصرية معقدة جدًا إلي درجة أنه من الصعب علي الوسطاء حلها، معركة حقيقية لا تنتهي إلا بنصر أو هزيمة، بالإضافة إلي أن السعودية، وأي من دول الخليج، لا تريد في قرارة نفسها انكسار العسكر، فالمزاج واحد والرحم واحد، كما أن تلك المخاوف من وثبات الربيع العربي وأوانيه المستطرقة ما زالت قائمة في أعماق دول القبيلة لولا أن الظروف التي وضعت فيها تلك الدول قد أخرست نبرتها لصالح ما هو أخطر، ومما هو في حكم المؤكد أن ما يبدو فوق السطح من فتور في العلاقات بين السعودية والنظام المصري لا يعكس حقيقة الأيدي المتشابكة تحت السطح، ففي القاع دائمًا يرقد كل الثقل وكل الكوارث، كل ما في الأمر أن السعودية أدركت أنها في مأزق حقيقي وأن تركيا هي مظنة الخلاص المستعدة – لا أدري كيف – إلي الإنزلاق بكل سهولة في مستنقعات لا تخصها، يجب أيضًا أن نضع في الحسبان حاجة “آل سعود” الماسة إلي تدخل الجيش المصري وانتشال العائلة من مأزقها الباهظ في اليمن بأبسط الخسائر، ومما هو في حكم المؤكد أيضًا أن الفارق بين الشقيقين “عبد الله” و “سلمان” هو الفارق بين كلمة “أسبوع” و كلمة “7 أيام”، يبقي بعد ذلك أن الذي يفصح عن مشاعره أقل خبثاً من الذي يزيف مشاعره تحت ضغط الإحساس بالخوف حتي يعبر إلي الوضع الآمن، ولو كان لدي السعودية نية حقيقية لكسر المشهد المصري الراهن لما انتظرت كل هذه المدة، حتي إذا نشطت للقيام بدور ما في الأيام القادمة سوف لا يحدث هذا قبل أن تتأكد من انتماء البديل إلي المؤسسة العسكرية أيضًا، غير أني، ربما لأني ما زلت خاضعًا لتأثير إعلان يُعرض علي شاشة إحدي قنوات “mbc” ويتخذ من أغنية “بشرة خير” جوهرًا لفكرته، أعتقد أن مساحة الضيق بالنظام المصري والتنكر له في الأروقة السعودية تزداد اتساعًا، وربما في إسرائيل أيضًا بالنظر إلي تلك العلاقة المريبة بين الأخيرة وبين “الوليد الإبراهيم”، مالك القناة..

5 – القتل، قبل أن يكون شريعة سماوية، وسيلة تعارفت عليها الإنسانية بهدف الحفاظ علي إنسانيتها، قد تختلف الوسائل لكن لا خلاف أبدًا علي أن شخصًا ما صار وجوده يشكل خطرًا علي الجماعة يجب إزاحته من طريق القافلة وتغييبه بلا رحمة، أمر لا يحتاج إلي أدلة أو استنباطات أو قراءة نوايا..

6 – الاقتصاد مهما كان مُدمَّرًا بكل وضوح لا يمكن أن يسقط نظامًا مستبدًا علي المدي القصير، فالخوف العارم من شأنه أن يسد علي الفور تلك الثغرات التي يمكن أن يحدثها الضيق، كما أن الرضا بالكفاف والتماشي مع الواقع أيًا كانت مرارته وخشونته عادة مصرية تضرب بجذورها في التربة منذ نشأة أول مجتمع بشري علي هذه الأرض المنكوبة، بالإضافة إلي أن النظام سوف لا يكف عن إبقاء الأوضاع في مصر ملتهبة دائمًا، ولا عن تشجيع العنف المصغر، ولا عن توظيف كل موارد الدولة ومقدرات المصريين في خدمة الترويج لأوهام يزخرفها الإعلام الموجه وما هو أخطر من الإعلام الموجه مع ذلك الحديث عن دوره الخطير مهجور، أقصد بالضبط، منابر المساجد والكنائس، تلك المنصات الإعلامية الموجهة التي تغطي مساحة مصر من أقصاها إلي أقصاها، لا يخلو منها شارع أو حارة أو زقاق أو نجع أو كفر أو قرية، لقد ترك إعلاميو هذه المنصات الموجهة شئون السماء تمامًا وتفرغوا تمامًا لحراسة النظام من أي ريح حبلي بتغيير مؤجل، من الجدير بالذكر أن تصاعد لهجة هؤلاء مؤخرًا وتهافتهم العصبي علي تحريم الخروج في ذكري يناير مؤشر لا يقبل القسمة علي اثنين علي رعب النظام من تداعيات هذه الذكري تحديدًا، وإذا كانت تداعياتها أقل من توقعاته، فكل هذا من شأنه أن يطيل عمره لعقود طويلة!

7 – المعركة في مصر صفرية، ببساطة، حياة النظام تعني موت المصريين وبالعكس، وهو يدرك هذا جيدًا، وهذه هي المشكلة، وهو سيحاول مهما كانت فداحة التنازلات أن ينحِّي القوي القارية تمامًا ليستخدم، بمأمن من العقاب ولو إلي حين، جوهر عقيدة “كولن باول” الخالي من أي رحمة وأي اعتبارات انسانية تسمح للضعيف أن يوضح وجهة نظره قبل إزهاق روحه، وهو: (اعزل العدو واقتله)!

8 – يجب علي الناس أحياناً ألا ينظروا بعيدًا ليدركوا أن حولنا منحطين بالفطرة لا يمكن تقويم اعوجاجهم وكسر غرورهم ودفعهم علي التخلي عن إبداع الشر إلا باستخدام ما يمكن استخدامه من وسائل الردع، التوازنات الدائمة والحلول المرضية أشياءٌ لا تولد إلا من رحم الإحساس بالندية والإيمان المشوب بالذعر من إمكانية تبادل المواضع، اليابانيون علي سبيل المثال، كانوا قبل أن يلقنهم الأمريكيون الدرس الشهير ممتلئين توحشاً بشكل يصعب تصديقه، كانوا يتصرفون كالذين يعانون الوحدة، من ذا الذي يتصور أن الذين ينحنون الآن لكل من هب ودب عند تبادل التحية دفنوا الصينيين ذات يوم أحياءًا، وأقاموا كرنفالاً للموت الردئ علي شرف الروس بلا رحمة، ووضعوا النساء الكوريات في الحرب العالمية الثانية علي خط النار للترفيه عن الجنود، كي يجدوا الكثير من العورات المكشوفة لمتعتهم عندما يعودون من المهام القتالية، بعض الكوريات لقين مصرعهن تعقيبًا علي العنف الجنسي الذي مورس عليهن، ما هو أسوأ من تلك النهاية البائسة أن معظم هاتيك النسوة بعد انطفاء الحرب قد انزوين عن الناس من جراء الشعور بالخجل، القليلات منهن فقط، اللواتي امتلكن المشاعر الأكثر سُمكاً تجاوزن الأزمة وانخرطن في الحياة مجددًا، لم يفكر الكوريون في التمرد علي ذلك الوضع المهين لأنهم كانوا آخر الشعوب التي الآن مثقفة وكانت حتي ذلك الوقت تأخذ أسطورة انتماء امبراطور اليابان إلي سلالة آلهة حقيقيين علي محمل الجد، عندما سمعوا نشيجه وهو يلقي بيان استسلام بلاده عبر الإذاعة تبخرت أوهام أجدادهم وتغير كل شئ!

9 – اندماج الثوار، والاندماج بين الثوار وواقعهم، هما أسهل الأدوات الضرورية لضبط إيقاع الثورة وتحديد اتجاهاتها، غير أن هذا صار صعبًا، لكنه ليس مستحيلاً، فالوثبات العنيفة التى تلت ثورة يناير 2011 كانت لها حواف مهلكة وحفر عميقة، كما أن الاشتباك الحاد واليومي كان أعنف من أن يتيح لأحد فرصة لالتقاط الأنفاس فضلاً عن التحلي بالمرونة والتسامح ومراجعة المشهد في أضواء غير الأضواء ومن زوايا أخري، ما جعل شركاء الميدان يسقطون أحياناً في الإفراط في تمجيد الذات بتسفيه الخصوم في المنهج ورجمهم بالضآلة، حدث ذلك بفعل فاعل نعرفه الآن طبعًا!

10 – لم تكن ثورة يناير شاهقة العبقرية حين عرفت كيف تختار موضعها في تاريخ الثورات، لذلك، احشد، انزل، شارك، لكن، لا تنسي أبدًا أن تضع في بالك كوردة في البال أن الثورة درجات وسجال، وأن التصالح علي الدماء بمثابة انتحار وتمزيق متعمد للنسخة الشعبية من رواية التاريخ، وأن “آين راند” قالت ذات يوم:

– دائما ما يبحث الاشرار عن الموافقة من ضحاياهم!

محمد رفعت الدومي

About محمد رفعت الدومي

كاتب وشاعر مصري ليبرالي
This entry was posted in الأدب والفن, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.