نقف أمام فكرتين في شأن التسامح الديني والفكري: صاحب الأولى ينفي وجود التسامح في التراث العربي الإسلامي، التاريخ كافة في ذهنه حروب ومَقاتل. الثانية صاحبها ينفي وجود التطرف والتشدد ويحسبُ أن كل التراث الديني والسياسي رحمة في رحمة، وأن النصوص الدينية والممارسات كافة صالحة لكل زمان ومكان، وبالتالي لسنا بحاجة إلى مراجعة وتجديد وتطوير وتأسيس لثقافة تنوير وتسامح. أرى أصحاب الفكرة الأولى عدميين، لا يتركون مجالا للبناء، وأصحاب الثانية إقصائيين بعقيدتهم، فمن وقع عليه حيف التشدد والتطرف لا يأمل بالتجديد المطلوب، ولا بالتسامح المنشود.
عندما نأتي بأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني (ت 440هـ) مثالا على التسامح الديني، تجاه أجداد مواطني بلداننا الآن، من غير المسلمين، لا نعني بذلك أنه الوحيد المنفرد بهذا الفكر والرؤية في شأن حمل عقائد الآخرين على محمل النية الحسنة، إنما هناك تُراث يسند ثقافة التسامح، سواء أكان في المجال الفكري أو الفقهي، مارسه خلفاء وقُضاة وفقهاء وفلاسفة وكُتاب ومؤرخون وشعراء. هذا إذا تفحصنا سير تلك العصور، أما إذا أخذنا الأمر على التعميم، وبنية مسبقة، فلا نجد في التراث غير التطرف والغلو.
إلا أن ما يُميز مثقف عصره البيروني أنه أطلع على أديان الآخرين، فتجده مثلاً «دخل بلاد الهند، وأقام بينهم، وتعلم لغهم، واقتبس علومهم» (الحموي، معجم الأدباء)، فتحدث عنهم بما عَلم، واقترب من الصابئة والمسيحيين، فنظر إليهم نظرة العالم الفاحص، لا نظرة المشكك، حامل فكرة التكفير ضدهم. كان متعدد العلوم فهو الطبيب، والفيلسوف، والفلكي، خالط ابن سينا (ت 428هـ)، وبينهما مراسلات (ابن أبي أُصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء).
نأتي بمثالين مما فسر به البيروني، بحسن نية، وبدافع ما نصطلح عليه بالتسامح، من ديانات أبناء زمانه، وممن اهتم بشأنهم، بغض النظر عن صحة رأيه من خطئه، فنحن أمام معالجة مفكر لعقائد من يختلف معهم في الدِّين، بنية العلم لا الكسب الديني أو المذهبي.
دافع أبو الريحان عن الصابئة المندائيين، ممن يعيشون بالعراق وغيره اليوم، ويختلف فيهم الفقهاء والمؤرخون، بين متشدد ضدهم ومتسامح متفهم. قال فيهم راداً على من جعل ظنه عقيدة ضدهم: «نحن لا نعلم منهم إلا أنهم أناس يوحدون الله وينـزهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب (منـزه من الصفات) لا بالإيجاب، كقولهم: لا يحد، ولا يُرى، ولا يظلم ولا يجور، ويسمونه بالأسماء الحسنى مجازاً. إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة» (البيروني، الآثار الباقية عن القرون الخالية).
وعندما تطرح مسألة دينية أمام البيروني، يجيب بما لا يترك ضغينة أو شكاً بدين الآخر، وتراه يفسر الثالوث المقدس بما يقبله العقل ويرتضيه أهل هذا الدين. فاحتج أبو الريحان للمسيحيين أن قولهم بالأبوة بمعنى السيد لا الأب على الحقيقة. مثل تلك التي دافع عنها جاثليق الكنيسة الشرقية بالعراق طيمثاوس الكبير (ت 823م) أمام الخليفة المهدي (ت 169هـ) وذِكرت في كتاب خاص (البطريرك طيمثاوس الكبير رائد الحوار المسيحي الإسلامي، مجلة بين النهرين 4/ 1976)،
قال: «اسم الأبوة والبنوة فإن الإسلام لا يسمح بهما إذ الولد والابن في العربية متقاربا المعنى؛ وما وراء الولد من الوالدين، والولادة منفية عن معاني الأبوية، وما عدا لغة العرب يتسع لذلك جداً، حتى تكون المخاطبة فيها بالأب قريبة من المخاطبة بالسيد، وقد علم ما عليه النصارى من ذلك حتى إن مَنْ لا يقول بالأب والابن فهو خارج عن جملة مِلتهم، والابن يرجع إلى عيسى بمعنى الاختصاص والأثرة وليس يقصر عليه، بل يعدوه إلى غيره، فهو الذي يأمر تلاميذه في الدُّعاء بأن يقولوا: يا أبانا الذي في السماء، ويخبرهم في نعي نفسه إليهم بأنه ذاهب إلى أبيه وأبيهم. ويفسر ذلك بقوله فـي أكثــر كلامــه عــن نفسه إنه ابــن البشر» (البيروني، تحقيق ما للهند مِن مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة).
هذا، ومن يطلع على كتب البيروني: «تحقيق ما للهند مِن مقولة»، و«الآثار الباقية»، و«القانون المسعودي»، وغيرها سيجد ما يُخالف المصنفات في الملل والنِّحل، مِن قبل الكُتاب الفقهاء، والعِلة أن البيروني ينطلق مِن العِلم والواقع مثلما يراه، بينما مؤرخو الملل والنِّحل فمنطلقهم عقائدي وحكمهم مسبق على أديان ومذاهب الآخرين، وبهذا يؤسس للتسامح بعِلم عالمٍ كالبيروني، غير المتوافق مع مبدأ «الفِرقة النَّاجية».
تقديراً لمنزلة هذا العالم أنشد أحد السلاطين عند لقاء أبي الريحان: «العِلمُ مِن أشرف الولايات/ يأتيه كلُّ الورى ولا يُؤتى» (الحموي، نفسه)، لأن العلم «يعلو ولا يُعلى عليه»، وعلى أساسه يُبنى ما يُنشد مِن تسامح، تسامح التكافؤ بالمواطنة، لا بمعنى عفو القوي عن الضعيف.
* نقلا عن “الاتحاد”
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حر#مسيحيو_المشرق و(الخيارات المرة )!!!:
Published by:مفكر حرهادي العامري واوهام المدمنين
Published by:علي الكاشالكفاءة
Published by:عصمت شاهين دو سكيأفكار شاردة من هنا وهناك/40
Published by:مفكر حرالعهد الجديد و سفر التكوين والخليقة
Published by:صباح ابراهيمحرب #اسرائيل مع #حماس دينية ام سياسية ؟
Published by:صباح ابراهيمأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية