منذ سنوات قرأت كتابا وتعلمت منه أن أحاول اسعاد ثلاثة أشخاص كل يوم… والسعادة قد تكون بشكلها الأبسط والأسهل… في اليوم الثاني من تواجدي في فيرجينيا، قررت أن أعود إلى نفس المطعم في الطابق السفلي للفندق، وأنا على قناعة أن السنجاب ـ صديقي اللدود ـ قد ملّ انتظاري!
…..
تقدمت مني النادلة، تسالني عما أريد أن أشرب وابتسامتها تضيء قاعة الفطور… ابتسمتُ كردة فعل وقلتُ: يجب أن أعترف لكِ بأنني لا أحب القهوة في الفنادق، ولا استطيع أن أنقذ نفسي من براثن النوم إلا بفنجان قهوة على مذاقي…
ردت: أعدك بأنني سأحاول جهدي لأصنع قهوة على مزاجك، فما هي قهوتك؟
قلت: أحبها ساخنة كنار جهنم تحرقني كي أشعر بطعمها، وتابعتُ: كل قهوة الفنادق تأتي فاترة كمشاعر اللئيم!
لذلك، لا أريدك أن تأتيني بفنجان ملوكي فأنا فلاحة ولست ملكة… أعشق الأشياء بأبسط أشكالها، أريد قهوة بفنجان من الورق وعليه غطائه كي أحتفظ بقهوتي ساخنة حتى آخر رشفة! أومأت رأسها موافقة ثم غادرت لتعود أليّ بهدية السماء! تبادلنا الحديث لمدة عشرة دقائق، وأصبحنا خلالها صديقين حميمين .. ناولتني ورقة من دفتر الفواتير بيدها عليها عنوانها ورقم تلفونها، ووعدت أن تزورني في كالفورنيا وأنا بدوري وعدت أن أستقبلها في بيتي، ثم تركت لها على الطاولة هدية أخرى من السماء!
…
قررت أن استمتع بالساعة المتبقة من وقتي الحر… فأقضيها متنقلة بين قاعات الفندق التي تعكس بفنها وأثاثها الحقبة الأولى في التاريخ الأمريكي… غريب كم يتعلق الأمريكان باحياء تاريخهم!! يبجلون كل قطعة أثاث تروي قصة من التاريخ، الذي أعرف اليوم عنه أكثر بكثير مما أعرف عن شوارع دمشق التي زرتها أقل من عدد أصابع الكف الواحد، وفي كل زيارة لها قطعت شريانا في قلبي! يا إلهي هل شعر أحد منكم مرة عمق الألم الذي يشعر به عندما ترفضه مدنه؟؟ هكذا رفضتني دمشق، ولم أشعر يوما بالانتماء اليها… رحت أتنقل وأعيش جمال اللحظة، محاولة أن أكبح جماح الآلام التي تسربل كياني… تلك الآلام التي تمتد جذورها إلى مدن تغتال عشاقها!
….
سحرتني إحدى شجرات عيد الميلاد وسحرني أكثر لونها الذهبي الباهت… فلمحت سيدة تمسح الغبار من على الأثاث في تلك القاعة الجميلة، تذكرت على الفور أنني لم أساهم حتى الآن إلا في اسعاد النادلة، وبقي لدي مهمة اسعاد شخصين آخرين… وجدت فرصة لإسعاد امرأة أخرى.. نبشت من حقيبتي ورقة العشر دولارات واقتربت منها: صباح الخير! بالكاد سمعتها ترد التحية.. وبمنتهى اللطف، قلت: من فضلك هل لك أن تأخذي لي صورة مع هذه الشجرة؟
وبصوت أجفلني كصوت مدفع: لا! أعدت الورقة إلى محفظتي وعدت أدراجي…
……
هكذا هم البشر، وهكذا هو واقعهم. هم يعيشون افرازاتهم العقلية والطاقوية…. النادلة وعاملة التنظيفات في الفندق كلاهما من العرق الأسود.. الأولى من شدة لذتها تستطيع أن تقرطها مع حبات العنب التي في صحنك، والثانية تفر منها كما تفر من الجذام….. قد يحتج أحد بقوله: لكل ظرفه، ولا نستطيع أن نحكم على شخص بدون أن نعرف ظرفه! وأنا بدوري أحتج على هذا الإحتجاج.. لا يوجد ظرف على سطح الأرض ـ مهما كان قاسيا ـ يمنعك من أن تكون لطيفا ومشرقا كشمس الصباح!
….
الظرف هو إفراز عقلي، وليس العقل افراز ظرفي…. هذا المكان الذي يغص بجماله هوإفراز للإبداع الأمريكي…. لم أر قطعة أثاث إلا ولمستها بيدي، كي أتبارك بطاقتها التراكمية… تلك الطاقة التي اُستجمعت من طاقات كل الزبائن الذين حطوا رحالهم هنا، وعلى مدى مائتي عام… حدثني المكان عن تاريخه، وحدثته عن تاريخي… رقص فرحا أمام ناظري وبكيت حزنا على كتفيه!
…..
نعم “القط يحب خناقه”… نتألم على من خنقنا…. لكنني في الوقت نفسه أحاول أن أعيش اللحظة… فاللحظة الآنية لا تقبلك إلا مطهرا من حقائب اللحظات التي فاتت…
….
استغرق في صحن الشوربا أمامي… وأعرف أن لحبيبات الفلفل المرشوشة على سطحه مذاقا شهيا…
أنسى ولو لثوان حجم الكوارث التي نقلتها صحيفة الصباح، لاستمتع بمذاق “الآن”….
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- #سورية الثورة وتحديات المرحلة.. وخطر #ملالي_طهرانبقلم مفكر حر
- #خامنئي يتخبط في مستنقع الهزيمة الفاضحة في #سوريابقلم مفكر حر
- العد التنازلي والمصير المتوقع لنظام الكهنة في #إيران؛ رأس الأفعى في إيران؟بقلم مفكر حر
- #ملالي_طهران وحُلم إمبراطورية #ولاية_الفقيه في المنطقة؟بقلم مفكر حر
- بصيص ضوء على كتاب موجز تاريخ الأدب الآشوري الحديثبقلم آدم دانيال هومه
- آشور بانيبال يوقد جذوة الشمسبقلم آدم دانيال هومه
- المرأة العراقية لا يختزل دورها بثلة من الفاشينيستاتبقلم مفكر حر
- أفكار شاردة من هنا هناك/60بقلم مفكر حر
- اصل الحياةبقلم صباح ابراهيم
- سوء الظّن و كارثة الحكم على المظاهر…بقلم مفكر حر
- مشاعل الطهارة والخلاصبقلم آدم دانيال هومه
- كلمة #السفير_البابوي خلال اللقاء الذي جمع #رؤوساء_الطوائف_المسيحية مع #المبعوث_الأممي.بقلم مفكر حر
- #تركيا تُسقِط #الأسد؛ وتقطع أذرع #الملالي في #سوريا و #لبنان…!!! وماذا بعدك يا سوريا؟بقلم مفكر حر
- نشاط #الموساد_الإسرائيلي في #إيرانبقلم صباح ابراهيم
- #الثورة_السورية وضرورات المرحلةبقلم مفكر حر
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟بقلم مفكر حر
- تلغراف: تأثير #الدومينو علی #ملالي_إيران وتحولات السياسة الغربيةبقلم حسن محمودي
- الميلاد آتٍبقلم مفكر حر
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #سورية الثورة وتحديات المرحلة.. وخطر #ملالي_طهران
أحدث التعليقات
- عبد يهوه on اسم الله الأعظم في القرآن بالسريانية יהוה\ܝܗܘܗ سنابات لؤي الشريف
- عبد يهوه on اسم الله الأعظم في القرآن بالسريانية יהוה\ܝܗܘܗ سنابات لؤي الشريف
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر