لا شيء يولد عفويا أو يأتي من فراغ

criticalplanesinkingفي حياة كل إنسان لحظات حرجة جدا وحاسمة جدا…
كل لحظة من تلك اللحظات هي نقطة انعطاف، قد تنعطف به نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، الأمر يتوقف على تصرفه وردة فعله خلال تلك اللحظة..
ربما يخطر ببالنا أن الحياة غير عادلة عندما تقرر لحظة واحدة نوعية حياتك بعد تلك اللحظة…
نعم، الحياة غير عادلة، ولكن ليس لهذه الحقيقة علاقة بعدم عدالة الحياة، بل بالعكس هذه الحقيقة إن أكدت شيئا إنما تؤكد عدالة الحياة!
…….
هل تذكرون قصة هبوط الطائرة التي صارت تُعرف بأمريكا بعبارة
Mircle on the Hudson،
أي: “المعجزة فوق نهر الهدسون”؟؟
في الشهر الأول من عام ٢٠٠٩ لم يكد الطيار الأمريكي
Chesley Sullenbrger
يحلق بطائرته التي تحوي ١٥٥ راكبا فوق مدينة نيويورك حتى دخل سرب من الطيور في محرك الطائرة، وأجبر الطيار على الهبوط المفاجئ…
لقد استغرق الوقت ثلاثة دقائق، ضبط الطيار خلالها أعصابه والتزم بقدرته على التركيز حتى استطاع أن يهبط بها فوق مياه نهر الهدسون، وقبل أن تغوص كليا في الماء تمكن من إخراج آخر راكب ليلحق بهم في الآخر!
……
ظلت تلك القصة حديث الساعة لمدة شهور…
قرأت واستمعت إلى كثير من المقابلات التي أجرتها الميديا الأمريكية مع الطيار، تلك الميديا التي كانت تتساءل: هل يجب اعتباره بطلا، أم مجرد طيار ذي خبرة ومهارة؟!
رفض هو شخصيا أن يعتبر نفسه بطلا، وقال بكل تواضع: أي طيار آخر ماهر ولديه خبرتي سينجح كما نجحت!
ألف فيما بعد كتابا بعنوان:
Highest Duty
(الواجب الأقدس)
قرأت له عبارة لفتت نظري بطريقة صارخة، لم أعد أذكر إن كانت قد وردت في الكتاب أم في إحدى المقابلات، جاء فيها حرفيّا:
My entire life led me safely to that river”
“حياتي كلها (من أولها إلى آخرها) قادتني بأمان إلى ذلك النهر”
……..
لو فكرنا مليا في عبارته، لتوصلنا إلى حقيقة وهي أنه فريد من نوعه وفرديته جعلته طيارا متميزا!
حياته “كلها”، بما فيها مهاراته وخبراته التي اكتسبها، وتجاربه التي عاشها، وقناعاته التي توصل إليها، والقيم التي تربى عليها، كلها مجتمعة جعلت منه ذلك الطيار الذي كان مؤهلا لخوض تلك التجربة القاسية!
كل تجربة نعيشها، لا بدّ وأننا نخوضها بالإمكانيات والقناعات التي اكتسبناها خلال حياتنا التي سبقت تلك التجربة!
كلّ صغيرة وكبيرة تمر في حياتنا تترك بصماتها على جدران شخصيتنا، وتؤهلنا بشكل أو بآخر ـ أو تفشل في تأهيلنا ـ لخوض تجربة ما!
القرار الذي نتخذه في لحظة حرجة وحاسمة هو خُلاصة القناعات التي جمعناها في الحياة حتى تاريخ تلك اللحظة!
لا شيء يولد عفويا أو يأتي من فراغ…
لذلك، أعتبره شخصا فريدا من نوعه، وفرديته أهلته لضبط نفسه وأعصابه والتركيز على الهبوط في لحظة يُفترض أن يفقد
عندها الإنسان العادي كل قدراته!
إذن، ليس شرطا أن يتمكن طيار آخر، حتى ولو كان ماهرا ومدربا، من أن يقوم بالمهمة الصعبة التي قام بها ذلك الرجل!
ألم يقولوا: المواقف محك الرجال!
……….
التقيت مؤخرا برجل سوري في سبيعينياته….
وعادةً، الرجال الشرق أوسطيون من ذلك الجيل يملكون عقلية “عثملية” غير مرنة وصعبة المراس…
على كل حال، التفت إليّ وأنا أقف مع مجموعة من عشاق قلمي، وقال: ليس لديك مقالة إلا وقرأتها، ولا مقابلة إلا وشاهدتها!
فأردفت: آمل أن تكون قد نالت إعجابك!
فرد على الفور: لا!
توقعت أنه سيخوض في موضوع ما، كعادة الذين يختلفون معي، ولكن صعقني جوابه ردا على سؤالي: لماذا؟
ـ كل ماقلتيه معروف لديّ ولم تأتِ بجديد!
(بسيطة إذا هيك) قلتها مع ابتسامة باهتة، ولسان حالي يقول: ولماذا لم تقل ما كنت تعرفه؟!
قد يكون ماقلته معروفا لدى الجميع، ولكن ألا أستحق قصب السباق عندما يتعلق الأمر بالزمن الذي قلته فيه، وبالطريقة التي قلته فيها؟؟
ألا يحق لي أن أستعير عبارة ذلك الطيار: حياتي كلها قادتني بأمان إلى تلك المهمة؟
أليست حياتي بكل مواهبي وتجاربي وخبراتي واستنتاجاتي هي التي أهلتني لخوض تلك المهمة الصعبة بنجاح؟!!
أليست حياة ذلك الرجل قد افشلته في أن يقول ما يؤمن به ويدافع عنه؟؟
…….
نحن خلاصة التجربة، وتلك الخلاصة هي التي تحدد موقفنا في اللحظات الحرجة، تلك اللحظات التي تشكل المنعطفات في حياتنا، وتغير خط سيرنا نحو الأفضل أو نحو الأسوأ!
فكن جاهزا لمواجهة تلك اللحظات….
……
أعزائي القرّاء:
المقطع مأخوذ من كتابي القادم “دليلك إلى حياة مقدسة”!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

One Response to لا شيء يولد عفويا أو يأتي من فراغ

  1. خير الكلام … بعد التحية والسلام ؟

    ١: نعم أنا أتفق معك يا صاحبة أجرأ قلم أن لأ شيء يولد بالصدفة ؟

    ٢: قد لا تكون الحياة عادلة مع الكثيرين ، ولكنها لاتستطيع أن تكون كذالك مع الذين يتحدونها والشجعان المتميزين ؟

    ٣: الفرق بينك وبين الرجل السبعيني هو ، أنك لازلت تمتلكين الشجاعة في قول الحقيقة ، بينما هو قد فقدها ومعها حتى بريق الحياة ؟

    ٤: حقيقة حياتية تقول ( أن الشجعان والمتميزون هم دائما محسودين من العاجزين والمفلسون ) ؟

    ٥: وأخيرا …؟
    قد تصنع الصدفة أبطالا ، ولكنها لا تستطيع أن تصنع دوما أقداراً ، سلام ؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.