يملك روبرت مزرعة للأبقار في ولاية مونتانا. أخذه صديقه بيل في رحلة استطلاعية إلى
Great Canyon
الوادي الجبلي الذي يُعتبر واحدا من عجائب الدنيا في ولاية اريزونا، والذي يعمّه الناس من كافة أنحاء العالم مندهشين أمام عظمته.
لاحظ بيل أن صديقه روبرت قد غرق في تفكير عميق وهو يبحلق مليا في الوادي، فسأله: بماذا تفكر يا روبرت؟
فردّ روبرت: أفكر لو ضيّعت إحدى بقراتي في هذا الوادي، كيف سأجدها!
…………..
جسيكا سيدة تملك محلا لتنظيف الملابس على البخار. أخذتها أختها في رحلة ترفيهية إلى ايطاليا، دخلوا هناك متحفا للتاريخ الروماني، وقفت جسيكا أمام تمثال يرتدي سترة وهي عبارة عن درع حديدي كان جنود الرومان يلبسونه، ليحموا انفسهم من السهام والرماح أثناء الحروب. وقفت جسيكا أمام التمثال وغرقت في تفكير عميق، سألتها اختها بماذا تفكرين يا جسيكا؟
فردت: أفكر كيف سأنظف هذه السترة لو جلبها زبون إلى محلي!
……
خديجة سيدة حلبية لم تُجِد يوما إلا تقريص الكبة. ذهبت في رحلة ترفيهية إلى بحر اللاذقية وراحت تتأمله بعمق، مرّ بجانبها شاعر كان يستلهم شعره من صفاء البحر ذلك اليوم، فظنها شاعرة مثله، سألها: بماذا تفكرين يا سيدتي؟
فردت: أتساءل إذا كان هذا البحر لبنا، كم قرصا من الكبة يحتاج؟
…………..
كلنا روبروت وجسيكا وخديجة…. لقد نشأنا لنؤمن بأنه لا جديد تحت الشمس, تلك القناعة التي أسقطتنا رهائنا في قبضة روتيننا اليومي، فصار لكل منا مع الوقت نظارتان خاصتان به، لا يرى العالم إلا من خلالهما! يقطع السند والهند بحجة أنه راح ليستطلع ويفرفش عن نفسه، دون أن يدرى أنه آخذ معه بقراته، أو دفتر مبيعاته، أو صحن كبته، ودون أن يدري أن حقائبه تلك تقف بينه وبين أن يرى الكون على حقيقته!
تلك الحقيقة المطلقة والتي تؤكد: (لا قديم تحت الشمس)! الكون يجدد نفسه كل لحظة، وعندما نغرق في اللحظة الآنية بعيدا عن اللحظة التي سبقتها وعن اللحظة التي ستلحق بها سنرى ذلك الجديد، وستدهشنا عظمته حتى في أبسط الأمور، وستحررنا من قبضة الروتين!
……….
قرأت مرّة كتابا بعنوان: ماذا تعلمت من الحياة؟ طرح الكاتب هذا السؤال على مئات من الناس تتراوح أعمارهم بين الخامسة والخامسة والتسعين، وجمع الاجابات في كتاب. أعجبني جواب لأحدهم، جاء فيه: (لقد تعلمت من الحياة أنه وعندما تسافر في رحلة استطلاع أو استجمام إلى بلد آخر ليس من المفروض أن تشكو من مذاق الطعام، هل سافرت من القطب إلى القطب لتأكل قطعة من اللحم المشوي على طريقة أمك؟؟) ليس شرطا أن تسافر من القطب إلى القطب لتعبر عن استياءك من شيء ما، فقد تدخل بيت جارك ولأ يعجبك فنجان القهوة، هل توقعت أن تكون أم محمد نسخة عن زوجتك عندما يتعلق الأمر بتحضير فنجان من القهوة؟؟
لا تجعل طعم القهوة الذي لم تستصغه يقف بينك وبين حتوتة جديدة من “حتوتات” ابي محمد التي قد تعطي واقعك المؤلم بعدا مفرحا!!
……….
يقول بيكاسو: (قبل أن أدخل إلى مرسمي أخلع نفسي كما يخلع المسلم حذائه على عتبة مسجده) نعم، لا تستطيع أن تُبدع إلا عندما تخلع نظارتي البارحة كلّما استيقظت،
فلكل صباح نظارتان جديدتان…..
ولا تستطيع أن تستمتع بالابداع الكوني إلا عندما تخلع نفسك المهترئة، وتلبسها حلة جديدة كل يوم… لو فعلت ستكتشف أن لطفل الحارة عينين خضراوتين كسهل معشب، وستنسى مخاطه
الذي اعتاد أن يمتد على مساحة وجهه….
ستستمتع بالظلال الوارفة التي ترميها شجرة الجيران على شرفتك ناسيا اوارقها التي تتساقط وتزبل أمام بيتك…..
ستعرف أن لابنك موهبة أخرى لا علاقة لها بضعفه في مادة القراءة والذي يُسقمك…. سترى لابنتك وجها سمحا وجميلا يطغى على جسدها النحيل والمريض…. وستكتشف أن لشبكة العنكبوت المترنحة على إحدى شجيراتك بعدا جماليا لم تلحظه من قبل….
وبأن لأزهارك براعما جديدة…..
وبأن للعصفور الذي يسكن ياسمينتك هذا الربيع شدوا أكثر عذوبة….
وبأن قوس قزح يختبئ خلف أكثر الغيوم كثافة، وينتظر هناك
كي تلقطه متورطا في جريمة قتله للروتين….
…..
سافر كل صباح…..
سافر! ليس شرطا من مونتانا إلى اريزونا…..
سافر! ليس شرطا إلى متحف في ايطاليا….
سافر! ليس شرطا إلى شاطئ البحر في اللادقية….
سافر، ولو من عتبتك إلى عتبة جارك….
أو من نافذة في بيتك إلى نافذة أخرى… المهم أن تسافر،
والاهم أن تسافر مجردا من بقراتك ومن زبائن محلك ومن طعم الكبة تحت لسانك….
سافر،
مخلّفا وراءك قهرك وخوفك وحقدك
وروتينك…..
ومنفتحا لكل سحر يشهقك،
ولكل متعة تدهشك،
ولكل مذاق جديد يُبهرك….
فالحياة لا تقاس بعدد مرات التنفس ، بل تقاس بعدد اللحظات التي
تستحق شهقتنا،
والتي تدهشنا وتبهرنا…..
وما أكثرها،
لو لم نسمح للروتين أن يمتصنا ويسحقنا!!
…..
ابحرْ كل صباح نحو افق جديد،
تاركا وراءك المرساة التي تشدك إلى القاع
وتبسمرك في الحضيض…..
افرد جناحيك كي يحلقا بك إلى بعد لم تصله من قبل….
حرر نفسك من كل مظلة تتوهم أن فيها نجاتك،
واسبح حرا في هذا الفضاء الكوني الرحب…
ثم انظر من علياك،
كي ترى عالمك أجمل مما عهدته…
والأهم،
الأهم…
الأهم….
قد يُريك هذا البعد من فوق عدوك على حقيقته
بشريّا حتى العظم،
بشريّا في ضعفه….
في قهره….
وفي هزيمته….
بل أصغر وأقل شراسة مما ظننت بكثير!
عندها قد تستخف بعداوتك له، وستدرك وهمية تلك العداوة…
عندها وعندها فقط ستتوحد فيه، وستصبحان
معا امتدادا لهذا الكون العظيم……