معظم أصحاب رؤوس الأموال حين يبدؤون التفكير بإقامة أي مشروع اقتصادي يفكرون في جدواه الاقتصادية من حيث الربح والخسارة وفورا أول ما يخطر على بالهم موضوع الأرباح, فيحسبون أرباحهم في الساعة وفي الدقيقة وكم تبلغ في الأسبوع وفي الشهر وفي السنة, ومن المؤكد أن أصحاب المشاريع من المستحيل عليهم أن يبدؤوا في مشروعٍ ليست من ورائه أرباح, فهم يحلمون بالأرباح أولا وأخيرا ولذلك من النادر أن نجد رأسماليا ينشأ مشروعا خدماتيا من أجل المنفعة للناس من دون أن يحصل على أرباح, وهذه إحدى ميزات المجتمع الرأسمالي الحر, ومن ناحية أخرى أيضا المشاريع السياسية فلا يمكن للسياسيين أن يمنحوا الناس بعض الخدمات إلا إذا كانت تلك الخدمات تعود عليهم بالأرباح الطائلة, مثل كسب ثقة الناس وكسب أصواتهم وقت الترشيح للانتخابات, وكما يقول المثل العامي : (ما حدى بقلك كيف حال أبوك,إلا كيف حال أمك؟) ففي مجتمعنا المعاصر من النادر أن يقدم لك أي شخص خدمة إنسانية بدون مقابل من ورائها أو من دون أن تجلب له منفعة شخصية, حتى الذي يخدمك لله, فإنه يكون طمعان بالجنة وبالآخرة وبالثواب من الله , ولن يعطيك أحدٌ من ماله الخاص إلا طمعا بأن يزيده الله أكثر مما أعطاك,ولو توصل إلى قناعة تامة بأن الله غير موجود ولن يجزيه شيئا وليس هنالك ثواب ولا عقاب فإنه حتما لن يقدم لك أي خدمة ولا أي دينار من دنانيره, وبهذه الحالة لا أحد في المجتمع الرأسمالي الحر يخدمك من أجل الإنسانية فقط لا غير.
ولكن بعض الملاحدة الذين يقدمون العون للفقراء وللمحتاجين وهم غير مقتنعين بالثواب هم أفضل من أولئك المتدينين الذين يخدمونك من أجل أن يتقربوا إلى الله, ومن ناحية اقتصادية, تتوقف المشاريع الربحية عند تراجع قيمة أرباحها, وتبقى البضائع في المخازن والمستودعات لحين ارتفاع أسعارها, ويخبئ التجار الكبار المواد الغذائية في مستودعاتهم عند وجود إشاعة تتحدث عن ارتفاع أسعارها في السوق ويخرجونها للناس بعد أن ترتفع أسعارها, وإنه لأول مرة في التاريخ يجوع الإنسان بسبب فائض الإنتاج وليس بسبب نقص في الإنتاج, فأيام زمان كانت الناس تعاني من الجوع بسبب عدم توفر المواد الغذائية بصورة كافية للناس, وكانت الناس لهذا السبب تعاني من الفقر ومن الجوع, ولكن بعد تقدم الصناعة وتحسين أدوات الإنتاج صار من الممكن أن تشبع تلك المصانع غرائز الناس وبطونهم, ولكن خيبة الأمل حدثت بسبب تراجع قيمة الأرباح فعاد الناس إلى الجوع مر ة أخرى بسبب عدم توفر المواد الغذائية في الأسواق, علما أنها موجودة في مخازن التجار أصحاب الأطماع الجشعة جدا ولهذا السبب تعاني الناس من الفقر ومن الجوع ومن نار ارتفاع الأسعار, فنحن اليوم نخرج إلى السوق بمعية أولادنا ونسائنا للتسوق ولكننا نعود وأيادينا فارغة وآذاننا ترط على الأرض أمامنا وبقلوب حزينة ومكسورة نظرا لارتفاع الأسعار, وبما أن الأسواق مليئة بالبضاعة وبالمواد الغذائية فإنه من اللازم والمنطقي أن نحصل منها على كل ما نريده, ولكن للأسف نجد التجار قد فرضوا على البضائع أسعارا كبيرة وبما أن قدرتنا على الشراء ضعيفة وبما أن التجار يحلمون بالأرباح فإننا وللأسف نعود إلى عصر الجوع مرة أخرى بسبب الجشع والطمع وسياسة الاحتكار, لقد كانت الناس في الماضي تعاني بسبب نقص في المردود والبضائع والمواد الغذائية, واليوم كل شيء بفضل الآلة موجود ومتوفر بصورة مكثفة ولكننا نحلم بهبوط الأسعار وهيهات أن تهبط الأسعار مرة أخرى, لذلك نبقى نعاني من الجوع والفقر.
إن بمقدور شركات البناء الضخمة أن تبني في العالم كله مسكنا لكل مواطن دون أن تأثر تلك الإسكانيات على ميزانية تلك الشركات, وبمقدور شركات الأغذية والدواء في العالم أن تلبي حاجات الناس الغذائية بالمجان دون أن يؤثر ذلك على أصحاب تلك الشركات وذلك كله بسبب تطور البناء وتطور صناعة الغذاء والدواء, ولكن المشكلة أنه من النادر جدا أن تجد من يبحث عن تقديم الخدمات للناس بدون أي مقابل, ولكن للأسف الخدمة وتقديم الخدمات ليست من أجل الخدمات نفسها, فالنقاء ليس من أجل النقاء والصفاء ليس من أجل الصفاء والحب ليس من أجل الحب والفداء ليس من أجل الفداء والوطنية ليست من أجل الوطنية وأصبنا بخيبة أمل كبيرة جدا فبدل أن نشبع بسبب فائض الإنتاج صرنا نجوع بسبب فائض الإنتاج لأن التجار يحتكرون البضائع ليرفعوا أسعارها وليحصلوا من ورائها على أرباح طائلة وكل ذلك على حساب شقاء المواطن وتعاسته, لقد أصبنا بخيبة أمل في المدارس وفي الجامعات وفي الشوارع, وبدل أن يكون التعليم مجانيا أصبح التعليم مكلفا جدا وكل ذلك على حساب الآباء والأمهات وتعاسة المواطن ليصاب طالب العلم مرة أخرى بخيبة أمل كبيرة, وحين نلتف حول الوطن نجد أن الأغلبية لا تلتف حول الوطن وإنما حول السلطة, وتوسعت الخدمات لتطال أكبر فئة من الناس ولكن الخدمات لم تعد من أجل الناس ولا من أجل الإنسانية فكل المستثمرين بالدين وبالدنيا كلهم يطمعون بالفائدة من وراء تقديمهم للخدمات, فكما يقول غاندي: كثيرون حول السلطة وقليلون حول الوطن.
إننا نطمع أن يخرج لنا أصحاب رؤوس أموال يقدمون المساعدات من أجل الإنسانية ولا يفرقون بين مسلم ومسيحي ويهودي وزنجي وسيخي وبوذي, إننا نطمح بأن نحصل على خدمات من أناس لا يفكرون بالمنفعة بدلا منها, فمتى سنجد أناسا يخدموننا دون أن يطمعوا بجنة الله أو بصوتنا في الانتخابات, نحن محتاجون إلى العطف بدون مقابل.