كيمى! كيمى! تين ماو! مصر أمنا!

المصري اليوم: أحمد عبد المعطي حجازيnijazi

نحن لا نعرف اللغة القبطية. لا نتكلمها، ولا نفهمها، وهذا أمر مفهوم لا نلوم أنفسنا فيه، لأن اللغة القبطية ماتت منذ قرون عدة، ونحن لا نستطيع أن نعيد للحياة لغة ميتة، وإن كان اليهود قد اجترحوا هذه المعجزة. فقد تفرقوا فى أرجاء العالم منذ ألفى عام، واتصلوا بمختلف الشعوب، وتعلموا لغاتها، ولم يبق لهم من لغتهم إلا ما يقيمون به شعائرهم الدينية. وظل هذا هو حالهم حتى ظهرت الحركة الصهيونية وقررت إحياء اللغة العبرية لتلم بها شتات اليهود وتدفع بهم إلى فلسطين وهذا ما نجحت فيه إلى حد كبير!

ولست أظن أننا بحاجة إلى إحياء اللغة القبطية. فنحن المصريين لم نتفرق أشتاتاً فى أرجاء الأرض كما تفرق اليهود فتبلبلت ألسنتهم وأصبحوا فى حاجة للسان واحد يجمعهم ويذكرهم بأساطيرهم القديمة التى استطاعوا بها أن يستعمروا فلسطين من جديد، وإنما بقينا فى أرضنا وأخذنا عن العرب الفاتحين لغتهم واندمجنا فى ثقافتهم كما حدث لشعوب شتى، أخذت اللاتينية عن المستعمرين الرومان فى العصور القديمة، وأخذت الإنجليزية عن المستعمرين الإنجليز فى العصور الحديثة. فإن قيل إن اللاتينية ماتت وخلفتها اللهجات الدارجة التى أصبحت فى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وغيرها لغات قومية حية، وعلينا أن نمتثل لهذا القانون فنتخذ العامية المصرية الحية لغة قومية ونستغنى عن العربية الفصحى التى لا نستخدمها إلا فى الكتابة، قلنا إن علاقتنا بالفصحى تختلف عن علاقة الأوروبيين باللاتينية، والذى كان تطوراً حتمياً فى العصور الوسطى التى ماتت فيها اللاتينية وتحولت لهجاتها الدارجة إلى لغات مستقلة لم يعد حتمياً الآن.

علاقتنا بالفصحى تختلف عن علاقة الأوروبيين باللاتينية، لأن الفصحى هو لغة الإسلام الذى لم يعد بالنسبة لنا مجرد دين وإنما هو ثقافة قومية، ينشأ عليها ويتأثر بها المصريون جميعاً مسلمين ومسيحيين. والفصحى التى كتب بها سلامة موسى، ولويس عوض، وألفريد فرج، وإدوار الخراط، ومراد وهبة هى الفصحى التى كتب بها أحمد لطفى السيد، والدكتور هيكل، وطه حسين، ومحمد مندور.

ولا شك فى أن العامية المصرية لغة غنية خصبة قدمت فى الشعر والأغنية والمسرح آثاراً رائعة، ولا شك فى أنها أقرب إلى عامة المصريين وأكثر خصوصية ومحلية، لكن علاقة المصريين بالفصحى أيضاً علاقة حميمة وإن كانت تحتاج إلى سياسة تعليمية جادة مسؤولة. فضلاً عن أن المصريين مصر والفصحى كما مصر والعامية، فاللغة التى كتب بها طه حسين، والحكيم، ويحيى حقى، ونجيب محفوظ وغيرهم من الكتاب والشعراء والمسرحيين والصحفيين المصريين أعمالهم على غير مثال سابق فى التراث العربى- فصحى مصرية تتحاور مع العامية المصرية وتأخذ منها وتعطيها.

نحن لم نعد فى الفصحى ناقلين ولا مقلدين، بل أصبحنا فيها أصلاً آخر، وصار لنا فى ثقافتها مكان وإسهام لا يقل عن إسهام أصحابها الأوائل، وربما تجاوزه فى هذا العصر الحديث، وهذا ما يجب أن نعرفه ونحافظ عليه، وإلا فقد أصبحت لغتنا العربية الفصحى مهددة بالمصير الذى لقيته لغتنا القبطية التى أصبحت بالنسبة لنا لغة غريبة مجهولة لا نعرف عنها القليل أو الكثير، وإذن فنحن لا نعرف أنفسنا لأن اللغة القبطية بكل بساطة هى لغتنا القديمة، أو هى الطور الأخير من لغتنا القديمة التى ظللنا نتفاهم بها ونفكر ونعبر ونصلى ونغنى سبعة آلاف سنة، بنينا فيها حضارة شامخة أصيلة تعلم منها البشر ولايزالون يتعلمون منها ويقفون مذهولين أمامها حتى الآن، فإذا كانت هذه اللغة قد ماتت على ألسنتنا فهى لاتزال حية فى صلوات أخناتون، ووصايا بتاح حوتب، وأشعار بحيرى، وكتاب الموتى، وسواها من النصوص القديمة، وهى حية فى التراث المسيحى المصرى الحى. فى الأناجيل القديمة، والتراتيل، والتواريخ، وسير القديسين والشهداء.

بل إن مفردات اللغة القبطية وصيغها النحوية لاتزال حية فى اللجهة المصرية الدارجة. البعبع، والمدمس، والبيصارة، والست- السيدة- والكانى والمانى- السمن والعسل- والبرش، والماجور.. كلها مفردات قبطية. ونحن نعرف أن التقويم القبطى المرتبط بالمناخ والنيل والزراعة هو التقويم السائد فى الريف المصرى، توت هو تحوت إله الحكمة عند أجدادنا القدماء، وهاتور هى حتحور إلهة الحب، وأمشير إله العواصف، وبشنس، وبرمودة هى كلها أسماء قبطية وبالأحرى فرعونية. ولاتزال المدن والقرى المصرية تحمل أسماءها القديمة. دمنهور- مدينة الإله حورس- وأبوصير- معبد أوزوريس- والفيوم، وبنها، ولايزال المسيحيون المصريون يحملون أسماء أجدادهم وأجدادنا معهم. رمسيس، وبانوب، وباهور، وبشاى، وشنودة، وباستطاعة من شاء أن يعود إلى الدراسات والأبحاث التى قدمها الدكتور كمال فريد إسحق، والأستاذ محرم كمال عن اللغة القبطية، والتراث الفرعونى ليجد أمثلة لا تحصى.

وأنا لا أقصد فى هذه المقالة أن أعرف القارئ باللغة القبطية لسبب بسيط هو أنى لا أعرفها بكل أسف، ولكنى أعرف مكانها فى ثقافتنا الوطنية وفى تراثنا القديم، وهذا هو موضوع حديثى الذى أشارك به كما فعلت من قبل فى الحوار الدائر الآن حول الدستور وحول المواد التى يسميها بعضهم مواد الهوية، ويختزلون فيها تاريخ مصر ويبترونه بتراً فيبدأونه من الفتح العربى ويختمونه بالفتح التركى!

الحضارة المصرية القديمة التى تعلم منها البشر جميعاً، اليونان، والرومان، واليهود، والعرب، وعرفوا عقيدة التوحيد، وآمنوا بالبعث، واليوم الآخر، والحساب، والعقاب، والثواب- هذه الحضارة منسية وملغاة عند الذين اختزلوا مصر فى العصور العربية الإسلامية.

والثقافة المصرية الحديثة التى نهضت بها الحركة الوطنية وتأسست الدولة المدنية المستقلة، والنظام الديمقراطى، وحققت ما حققته فى الأدب والفن والعلم والفكر- هذه الثقافة منسية أيضاً وملغاة فى دستور الإخوان والسلفيين، لأن الإسلام فى نظر هؤلاء يجب ما قبله وينفى ما بعده، ومن هنا فقدت الدولة المصرية عند هؤلاء وطنيتها ومدنيتها وديمقراطيتها، وتحولت إلى دولة أو بالأحرى إمارة دينية تستمد نظمها من الشريعة لا كما فهمها أمثال محمد عبده، وعلى عبدالرازق، وعبدالرحمن البنا، بل كما فهمها فقهاء العصور الوسطى الذين نشأوا فى البوادى وفى أزمنة ومجتمعات لم تسمع بشىء اسمه الوطن، أو المواطنة، أو الديمقراطية، أو حقوق الإنسان. فإذا كان هذا الدستور الذى يستميت السلفيون اليوم فى الدفاع عنه يتجاهل هذه العصور وهذه المبادئ وهذه الثقافات، فمن الطبيعى أن يتجاهل حقوق المسيحيين، وحقوق النوبيين، وحقوق البهائيين، وأن يختزل هويتنا فى العروبة والإسلام وحقوق المسلمين أيضاً، لأن الحق لا يتجزأ. والذى ينتهك حقوق الفرد ينتهك حقوق الجميع. والذى يميز بين مواطن ومواطن على أساس الدين أو العرق يثير الفتنة ويعرض كل ما فى المجتمع للانهيار.

هذا التعصب وهذه التفرقة ليسا وليدى اليوم، وإنما هما تراث قديم منحدر إلينا من عصور الظلام المملوكية والعثمانية التى ما كدنا نتخلص منها حتى عدنا إليها وإلى ثقافتها المنحطة التى أنتجت ما نحن فيه الآن.

نحن ننظر فى كتبنا المدرسية فلا نجد ذكراً لمصر الهللينية ولا لمصر المسيحية، ولا نقرأ نصاً من الأدب الفرعونى، ولا من الكتابات القبطية والنوبية، ولأننا نجهل هذا التراث فنحن معرضون لمن يحرضنا ضده ويثير فينا الشعور نحوه بالخوف والعداء ويجد من يستمع له ويستجيب فيهاجم دور العبادة، ويدمر الآثار ويطلق النار على الأطفال والرجال والنساء الخارجين من كنيسة الوراق.

لهذا أطالب بنص فى دستور نعترف فيه بكل مكوناتنا ونعتز بها ونستبعد ما يخالفها ويتناقض معها ونعتبرها شرطاً تغتنى به الهوية المصرية وتتكامل وتزدهر وأخيراً لنقف ونغن معاً بالقبطية!

كيمى! كيمى! تين ماو!

مصر! مصر! أمنا!

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.