تقوم التعاليم الـ “زينية”
ـ Zen Philosophy –
باختصار على مبدأ “يقظة الوعي والقدرة على التركيز”!
وتتبنى قناعة أنه كلما تعمّقت في التأمل كلما شعرت بالسكينة!
…………
اُقيم مرّة مؤتمر للمعلمين المستنيرين ـ
Gurus
ـ من أتباع تلك الفلسفة في أمريكا، أَمّه حضور من كافلة أنحاء العالم…
أثناء تناول وجبة الغداء صادف أن جلس رجل أمريكي على يمين أحد هؤلاء المعلمين المستنيرين، فأراد أن يطرح عليه سؤالا.
نكزه بيده معتذرا وسائلا: هل لك أن تشرح لي الـ “زينية” بكلمة؟
فرد المعلم المتستنير ببعض الحدّة: كُل!
خجل الرجل الأمريكي وعاد إلى صحنه وملعقته…
بعد انتهاء الطعام وفي الطريق إلى القاعة، عاد الرجل للحديث مع المعلم: آسف إن كنت قد أزعجتك بسؤالي!
فرد المعلم بابتسامة عريضة: لا أبدا، لقد أجبتك على سؤالك!
….
فعلا، لقد أجاب المعلم المستنير ذلك الرجل على سؤاله!
فتلك الفلسفة تعني أن تركز على اللحظة التي تعيش فيها، وأن تغوص في عمقها، وبالتالي تعيش عندها سلاما يحميك من ألم الماضي وقلق المستقبل!
عندما تأكل يجب أن تركز على اللقمة التي في يدك كي تستمتع بها.
لذلك اختصر ذلك المعلم تعريف الفلسفة الـ “زينية” بكلمة “كُل”!
……….
عندما وقفت خلف السور الذي يفصلني عن شلالات نياغرا، غصت في عمق تلك اللحظة حتى شعرت بأنني جزء لا يتجزأ من ذلك الدفق المائي اللامحدود!
شعرت بدفق كوني يتخللني، فيمنحني إحساسا بالسكينة وأنا في قلب ظاهرة طبيعية لم أر في حياتي أشد صخبا منها…
نعم السكينة لا تعني غياب العاصفة، بل تعني أن تحافظ على هدوءك وأنت في قلب العاصفة!
…..
رحت أتنقل ببصري من الدفق المائوي إلى الدفق البشري الذي يحيط به…
قالت لي صديقتي النيويوركية: (يُقال أنه في أي وقت من النهار يتواجد في هذا الحشد اناس من كافة عروق وملل الأرض)
بعض التركيز في وجوه المارة يؤكد لك صحة تلك المقولة!
كل وجه لمحته شعرت به يفيضا فرحا وبهجة…
على جانبي امرأة تتأبط ذراع حبيبها…
وأمامي شاب يلف خصر حبيبته…
وعلى مقربة أم تشرح لطفلها أبعاد الشلالات وفلسفة الجمال…
وفي الطريق يجبرني رجل يحمل كلبه على ظهره أن اُلقي عليه التحية وأسأله: هل الكلب سعيد بوجوده هنا؟!!
يبتسم صاحب الكلب ويرد بعزم: طبعا، أشعر بخلجات قلبه وهو يرقص فرحا!
ربّما لهذا السبب ينصحنا المعلمون المستنيرون من أتباع البوذية ـ وأخص هنا الزينيّة ـ بأن نتردد باستمرار على الأماكن العامة التي تستضيف حشدا كبيرا من الناس للاحتفال بمناسبة ما. لأن الطاقة الإيجابية الصادرة عن أمكنة كهذه وحشود كتلك تتسرب في كل كيانك وتشعرك بدفقها الكوني!
…..
من بين مئات الوجوة التي تحيط بي، استطعت أن أتبين وجه امرأة بـ “نصف عقل”!
راقبتها باهتمام وتركيز التزاما بـ “زينيتي”!
راحت تزرع الأرض ذهابا وإيابا على مدى حوالي عشرين مترا، وهي تبحلق في أسفلت الرصيف وكأنها تعد خطواتها!
تبدو منفصلة في الزمان والمكان عن اللحظة التي تعيش فيها، وكأنها في عالم آخر…
الناس تزور شلالات نياغرا ليتحسسوا جمال الطبيعة، أم هي فتتواجد هنا لكنها تعيش بعقلها في الربع الخالي، أو هكذا يتراءى للناظر إليه!
دفعني فضولي لأن أبحلق فيها، ورحت أتساءل عمّا ـ احتمالا ـ يدور في ذهنها!
كان ذلك اليوم حارا ومشبعا بالرطوبة، وهي مبرقعة بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها!
تساءلت: من هي تلك المرأة؟ من دفعها لأن تتواجد في هذا المكان بمفردها؟
كيف تنظر إلى ذلك العالم المسربل بالجمال، وقد أخبروها أنه عالم الكفر والرذيلة؟؟؟
كيف تستطيع أن تعيش فيه وتكون نفسها وذاتها وعقيدتها؟
أين هو المُحرم الذي يُفترض أن يرافقها كي يحميها في حال فشل حجابها أن يقوم بتلك المهمّة؟؟
لماذا تبدو منهمكة في التفكير بقضية أخرى، قضية لا تمت إلى اللحظة الآنية بصلة؟؟؟
كل الناس في تلك البقعة تمشي مثنا وثلاثا ورباعا، إلاّ هي تهيم بمفردها شرقا وغربا، وكأنها طفل أضاع والديه!
حاولت أن التقط لها صورة بدون أن تشعر خوفا على مشاعرها، وخصوصا أنني اُدرك مدى حساسيتها وهي تعيش في مجتمع لا تنتمي إليه في المكان والزمان!!
نجحت بعد محاولات عدّة في أخذ صورة واحدة من الخلف!
عندما تفحصت الصور لاحقا تفاجئت أن تلك الصورة ـ ومن بين حوالي ثلاثمائة صورة التقتطها خلال رحلتي ـ هي الوحيدة التي لا تجسد من المنطقة سوى قمامتها!
كانت المفاجأة كبيرة عندما اكتشفت أنها وبرميل القمامة يشغلان الحيّز الأكبر من تلك الصورة!
آلمني الأمر!
لكنني عدت إلى التفكير بالطاقة ونوعيتها، وبأن لكل شخص طاقته الإيجابية أو السلبية…
تحيّنت الفرصة لأكثر من خمسة عشر دقيقة وأنا أمشي إلى جانبها، وجاءت الصدفة لتكون هي وبرميل القمامة توأمان في صورة واحدة!
ليس لديّ شكّ من أن تلك المرأة ـ أقولها بأسف ـ مفرّغة من الداخل ومحقونة ألما وقمامة كما هو ذلك البرميل الذي يقف بجانبها!
أقولها ليس استهتارا بها، فهي امرأة وأنا مع المرأة ظالمة ومظلومة، لقناعتي المطلقة من أن المرأة لا تظلم…
لكنني أقولها لأنها الحقيقة المطلقة…
فالطاقة لا تجذب إلا مثيلتها!
لقد فرغوها من انسانيتها، ليس هذا وحسب، بل أتوا بها إلى عالم يتناقض مع عقيدتها ومبادئها ولباسها ومضمونها…
عندما يعيش الإنسان في مجتمع يتناقض مع مضمونه، يهرب من ذلك المجتمع أو يخسر ذلك المضمون!
تهرب إلى أين؟؟ بعد أن صار شرقها جهنما…
إذن، ليس أمامها تحت ضغط ذلك الواقع إلا أن تتفرغ من مضمونها!
……..
كما أستطيع أن أقرأ كتابا مفتوحا أستطيع أن أقرأ نفسا مغلقة عندما أتواصل طاقويا مع تلك النفس!
مازالت صورة تلك المرأة بكل تفاصيلها تتواصل معي طاقويا، وما زلت أقرأ قصتها سطرا سطرا….
…….
تقول القاصة الأمريكية
Nora Neale Hurston:
(There is no agony like bearing an untold story inside you)
(لا يوجد ألم يفوق في حدّته الألم الذي ينجم عن قصة تخبأها في داخلك ولا تستطيع أن تبوح بها)
هذا ماشعرت به من خلال تواصلي الطاقوي مع تلك المرأة القريبة الغريبة!
شعرت بألم يجتاح عالمها، ولا تستطيع رغم شدته أن تبوح بالقصة التي تؤلمها….
شعرت بها قريبة مني وغريبة عني في الوقت نفسه!
تربطني بكل امرأة على سطح الأرض صلة قرابة، فكيف وقد جاءت من نفس البقعة التي جئت منها!
لكن ـ للأسف ـ وقف حجابها حاجزا بيني وبينها فأشعرني بغرابتها رغم قربها…
هذا الحجاب، ليس مجرد قطعة قماش، بل هو سنين طويلة من غسيل دماغي أفرغها من انوثتها ومن كيانها ومن قدرتها على أن تعيش اللحظة الآنية بعمقها…
لذلك، راحت ـ لسبب أو لآخر ـ تزرع الشارع ذهابا وإيابا بلا هدف، في عالم تفصلها عنه ألف وأربعمائة عام…
ولذلك، لم تجذب طاقويا من هذا العالم سوى قمامته، والكثير من شفقتي!
أثارت شفقتي لأنني قرأت قصتها التي لا تستطيع أن تبوح بها، قصة امرأة تحكّم بها رجل أوهمها أنها بنصف عقل وهو بعقل كامل!
ليس هذا وحسب، بل فشل بعقله “الكامل” أن يمنحها حياة مقبولة في مجمتع يقبلها!
رحت أقرأ لغة جسدها كي أستوعب مايدور بذهنها…
أبلغتني تلك اللغة اضطرابها العقلي والعاطفي….
حكت لي عن الشرخ النفسي الذي تعيشه بين أن تنتمي إلى مجتمع القرن السابع وبين أن تعيش في مجتمع سبق زمانها بآلاف السنين الضوئية..
تألمت عليها….
تألمت عليها لأنها غير قادرة أن تعيش لحظتها بعمقها…
تلك اللحظة التي تربطك من خلال ذلك الدفق المائي بدفق كوني لانهائي….
………..
تقول الكاتبة الأمريكية
Sarah Ban Breathnach
في كتابها:
Excavating Your Authentic Self، (التنقيب عن ذاتك الحقيقة)
We cannot understand the mystery of life, of energy, All we can do is remain open to it, to clear the way for it, and then let it move through us!
(لا نستطيع فهم لغزية الحياة ولا الطاقة التي تحركها. كل مانستطيع فعله بهذا الخصوص هو أن نبقى منفتحين لها، وأن نحرر الطريق إلينا من كل عائق، ومن ثم نسمح لها أن تعبرنا إلى غيرنا!)
البرمجة العقائدية تعرقل الطاقة الكونية من الوصول إليك، ناهيك عن المرور عبرك!
يجب أن تحرر عقلك من قيوده كي يكون جاهزا لاستقبال الدفق الكوني…
…..
إذا كانت الفلسفة الـ “زينية” تفرض على أتباعها أن يعيشوا اللحظة بعمقها دون أن يفكروا باللحظة التي سبقتها أو اللحظة التي ستليها، هل
أحد فيكم يستطيع أن يتخيل حجم الألم الذي تعيشه امرأة تقف عقيدتها حائلا بينها وبين الزمان والمكان اللذين تتواجد فيهما؟؟؟
ليس هذا وحسب، بل تقف عائقا بينها وبين الدفق الكوني، ولذلك تعيش حياة شحيحة تنفصل فيها عن الزمان والمكان…
…..
كنت ولم أزل وسأظل اؤمن بأن الكون كله يتناغم مع دقات قلبي…
لأنني أعيش اللحظة بعمقها وأنساب بسلاسة مع الدفق الكوني!
لذلك، عدت من زيارتي لشلالات نياغرا، وأنا أتدفق طاقة وحبا وشغفا…
عدت كي أبدأ حياة جديدة، فكل تجربة تمنحني أفقا جديدا!