كم نفتقد من متعة البساطة ونحن نتعثر بتعقيدات الحياة!

يقول الشاعر والفيلسوف البرتغالي ألبيرتو كاييرو:sultan

?Who needs a piano
It’s better to have ears
And love Nature
― Alberto Caeiro, The Keeper of Sheep

(من يحتاج إلى بيانو؟
الأفضل أن يكون لك اُذنان، وتحب الطبيعة…)

عبارة قصيرة جدا، لكنها تتضمن أعمق فلسفة في الحياة…
كل ما تحتاج إليه هو حولك، فلا تعقد الأمور وتدفق عبر الزمن كالنهر بعفوية!

كلنا نعشق الفخامة ونتوق لأن نملك الثمين، لكننا نجهل أن أجمل ما يمكن أن نتطلع لامتلاكه هو الشيء في أبسط صوره!
لا أعتقد أن إنسانا على سطح الأرض قد اختبر الحياة من أبسط أشكالها إلى أعقدها كما اختبرتها، ووجدت المتعة الخالصة في أبسطها…
……..
أذكر عندما كنت صغيرة وكنا نذهب إلى ضيعة أمي لقضاء ردحا من عطلتنا الصيفية هناك. كان بيت جدي يبعد عن الطريق العام حوالي ميلين!
في الموعد المحدد كان أحد أخوالي يسوق حمارين إلى المفرق كي يقلنا على ظهرهما إلى البيت بعد أن ننزل من سيارة النقل العام.

في أمريكا كل عام أستبدل سيارتي بسيارة موديل العام الحالي…
في عيد ميلادي اعتدت أن يناولني زوجي مفتاح السيارة الجديدة، وصارت تلك العادة روتينيّة إلى حد الملل!
لكن تلك المتعة الطفولية التي كانت تسربلني وأنا على ظهر الحمار، وخالي يمشي إلى جانبنا قد غابت وإلى الأبد!

لقد دُعيت إلى أكبر ولائم العالم وأكثرها ثراءا، لكنني مازلت أمارس طقسا من طقوس العبادة هو الأقرب إلى نفسي!
كل يوم وعند المغيب أتلذذ بكأس من الشاي وسندويشة زعتر حلبي يتسرب زيت الزيتون من كل ثناياها…
أقضمها بطريقة طفولية وألحس أصابعي كرضيع جائع يبحث بشفتيه عن ثدي أمه…
أنسى ولو للحظات برتوكول الشوكة والسكين وبأي يدٍ أمسك كل منهما، لأغرق في عفوية وبراءة تلك اللحظات….

تحوي مكتبتي “سيديهات” لأشهر سيمفونيات العالم، لكن صوت جدتي يدندن في خلوتها: (سكابا يا دموع العين سكابا….وان ماعطوني اياكي تهد الدار واجعلو خرابا)، مازال دون غيره من الأصوات يلامس شغاف قلبي ويصهرني في عالم طفولي ساحر لا حدود له!

غرف أحفادي تغصّ باللعب على اختلاف أشكالها وألوانها، لكنني مازلت أجمع من حديقتي سبع حصوات صغيرة لألعب معهم لعبة “اللقّوص” التي كانت جدتي تلعبها معنا وتبدع في رميها إلى الأعلى والتقاطها أكثر مما يبدع ماجيك جانسون في رمي والتقاط طابته!
أما خالتي فكانت خيّاطة الضيعة، وكانت “بورصة نيويورك” بالنسبة لها تسجل أعلى ارتفاعا يوم تشهد القرية عرسا….
يتهافت الصبايا إلى دارها وفي يد كل منهن قطعة قماش كي تبدع خالتي في صياغتها ثوبا للعرس القادم…
كانت خالتي أمّية، ولم تعرف يوما كتابة رقم واحد، ورغم ذلك كانت تبدع في أخذ قياسات الفساتين…
كانت تستخدم خيطا طويلا وتقيس به المنكبين والخصر والطول، وعند القياس الأول يبدو الفستان وهو يتقمص جسد الصبية كما يتقمصه جلدها!
كان لخالتي سلة من القش تُسمى باللغة المحلية “جمام”، مملوءة بالأزرار وقلّما تجد فيها زرا يشبه الآخر.
كانت تجمعها مما يزيد عن أزرار الفساتين التي تخيطها، ثم تتبرع بها لفقراء ضيعتها من الصبايا!
في أمريكا، وكلما اشتريت ثوبا أو قميصا أجد فيه زرا اضافيا لأستخدمه في حال فقدان أحد الأزرار..
اقتنيت “جمام” خالتي ورحت أجمع فيه تلك الأزرار التي لم أحتج يوما واحدا أيّا منها، ورحت استمتع بمجرد النظر إليه، لأنه يمنحني شعورا بالحنين إلى زمن افتقدته..
مؤخرا فكرت في صنع لحاف مزركش من بقايا الملابس القديمة وتطريزه بتلك الأزرار كهدية لجازي تحمل ذكرى جدتها، ومازلت أنتظر اليوم الذي استطيع أن أتفرغ به لإعادة صياغة تلك الحقبة من تاريخي!
……..
كم نفتقد من متعة البساطة ونحن نتعثر بتعقيدات الحياة!
دائما يجرفنا تيار الزمن السريع داخل دهاليز الحياة، فنضيع في التفاصيل بدلا من أن نستمتع بالمطلق!
أجد نفسي مرارا أشد التصاقا بعملي من التصاقي بلمسة حنان أداعب بها جبين حفيدي…..
عندما تحشر قطتي ـ سايكو ـ نفسها بين قدمي وأنا أجلس على طاولة مكتبي تذكّرني بأن التفاصيل تسلبنا بعضا من آدميتنا، وبأنها ـ أي سايكو ـ جزء من المطلق…..
فأضرب بكل التفاصيل التي تدوّخني عرض الحائط، وأشير إليها أن تعتلي
حضني لأنعم بسرمديّة اللحظة!
…….
لا يستطيع الإنسان أن يبدع إلا عندما يكون قادرا على إنجاز عمله بأبسط الطرق!
تجنح النفس البشرية عادة نحو كل ماهو معقد، وتميل إلى تعقيد ماهو مبسط..
لذلك، ليس سهلا أن تكون بسيطا لأن النمط الحياتي الدارج ـ تدعمه وسائل التكنولوجيا المعاصرة ـ يعزّز الميل البشري لخوض المعقّد!
نعم، نميل غريزيا إلى كل ماهو معقد، لكننا لا نشعر بالمتعة إلاّ عندما نبسّط ذلك المعقد!
***************************************
مقطع من كتابي القادم “دليلك إلى حياة مقدسة”!


About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

One Response to كم نفتقد من متعة البساطة ونحن نتعثر بتعقيدات الحياة!

  1. س . السندي says:

    خير الكلام … بعد التحية والسلام ؟

    ١: مع الأسف لقد وصلنا اليوم بفضل بهاليل السلاطين والمنافقين الى ماقاله جحا يوم سأله الخليفة هل تستطيع ياجحا عد المجانيين من حولنا ، فأجاب لا ولكن أستطيع عد العقلاء ؟

    ٢: مع الأسف لا زال ألأمر والأسوأ في الطريق ، وسيصدق قول الكتاب المقدس الكثيرون يتمنون الموت ولا يفلحون في نيله ، لينطبق المثل ( رضينا بالمر والمر ما رضا بينا) ألله يلعن من كان السبب ؟

    ٣: وأخيرا …؟
    كيف يستجيب ألله لمن حولوه الى دراكولا ومصاص دماء ، إنها الحقيقة المرة التي لايقوى على قولها الكثيرين وخاصة وعاظ السلاطين ، سلام ؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.