كلوت بك.. صنايعي صحة عموم مصر

كلوت بك.. صنايعي صحة عموم مصرsameh-gameal
اكتشف محمد علي أن سقوط ضحايا في جيشه مرتبط بالأمراض أكثر من ارتباطه بالمعارك التي كان يخوضها, ولا يوجد نظام واضح للتعامل مع تدهور حالة الجرحي أو مع الأوبئة التي قد يواجهها الجيش فأرسل صديقا له إلي فرنسا طالبا منه أن يعود بحكماء للجيش من هناك.
في مارسيليا كان الأمر صعبا و لم يلق العرض قبول كثيرين, لكن انطون كلوت كان مهيئا تماما للمهمة,كان واضحا للجميع أنه يسعي لمجد ما.. فكر انطون كلوت في مجد زرع علوم الطب في أرض بعيدة, لكنه علق موافقته علي ثلاثة شروط:
.1ألا يتدخل أحد في عمله.
.2ألا يتم إجباره علي السير مع الجيش.
.3أن يظل علي ديانته المسيحية.
وصل الرد سريعا يطلب تحديد موعد الوصول المتوقع.
***********
كان قرار انطون كلوت واضحا: لن أستعين بحكماء غير مصريين, سأصنع من أحفاد من مخترعي الطب حكماء جدد, لكن الموضوع لم يكن سهلا, لم يكن لدي عموم المصريين همة للتعلم, خصوصا علي يد رجل لا يتحدث سوي الفرنسية.
كان الحكيم الفرنسي يفكر في حل بينما يؤسس أول ديوان( وزارة) للصحة في مصر, في البداية اختار بعناية العاملين في الجيش, وطور مهارتهم التنظيمية قبل الطبية, ثم علمهم التمريض وكيفية العناية بالمريض, و عندما لاحظ أن بعض ضباط الجيش يتعاملون بتعال مع التمورجية, أبدي الحكيم الفرنسي تذمره وقال انه لن ينتقل إلي خطوة جديدة قبل التعهد بإزالة الإمتياز بين الضباط و مساعديه الذين اختارهم بعناية حتي لا يضيع مجهوده, وكانت تلك مشكلة الحكيم الفرنسي طوال فترة إقامته في مصر أن جهوده كانت دائما علي شفا الانهيار لولا صلابته.
حصل انطون كلوت علي ما طلبه فقرر البدء في إنشاء أول مستشفي عسكري, واختاروا لها منطقة أبي زعبل بالقرب من القاهرة, أشرف الحكيم الفرنسي علي كل تفصيلة فيها, المعدات و الأسرة و حديقة المستشفي و نوع النباتات الطبية التي ستتم زراعتها و جناح مدرسة الطب التي لا يزال يبحث عن طلبة لها.
قال الحكيم الفرنسي: اعلنوا عن حصول الطالب علي منحة مالية وطعام مجاني طوال إقامته ربما يثير العرض شهية المصريين, كان العرض مرتبا شهريا قدره(100 قرش) بخلاف الطعام, بعد وقت قليل كان يقف في حديقة مستشفي أبي زعبل أول100 شخص سيتعلمون الطب في مصر… لدينا الآن ديوان للصحة و مستشفي و مدرسة للطب فهل سينجح الأمر؟
***************
علي هامش المدرسة كان هناك معسكر كل مهمته ترجمة قائمة أعدها الحكيم الفرنسي تضم كتبا في الحكمة و الطبيعة, إلي أن خرج من معسكر الترجمة خبر يقول إن الحكيم الفرنسي طلب منهم ترجمة كتاب عن التشريح.
كان هناك من لا يرتاح للحكيم الفرنسي و المكانة التي يحظي بها, وعندما وصل إليهم خبر يقول إن تشريح جثث الموتي سيتخذ مكانا في مدرسة الطب نقلوا الخبر مصحوبا بإمتعاض أهل مصر إلي محمد علي, كان الوضع محرجا في بلد مسلم يشكو أهله من تجرأ خواجه غريب علي جثث موتاهم, قرر محمد علي أن يناقش الحكيم الفرنسي في الأمر, فقدم له الأخير محاضرة في أهمية علم التشريح, كان محمد علي ذكيا بما يجعله يمسك العصا من المنتصف, أصدر قراره بأن يتم التشريح بإذن من قاض هو الذي يحدد المصلحة, ألقي محمد علي الكرة في ملعب القضاء و بذل الحكيم الفرنسي جهدا كبيرا حتي حصل علي الإذن.
هيج الحصول علي الإذن كارهي الحكيم الفرنسي أكثر من ذي قبل, وصارت فتنة انتهت بأن دخل أحد طلاب مدرسة الطب علي الحكيم الفرنسي يوما ما يعرض عليه مسألة, وبينما الفرنسي يتأملها حتي انهال عليه الطالب بطعنتين, واحدة في جمجته تفادها وواحدة في قلبها تلقاها بذراعه.
استرجع الحكيم الفرنسي الوقت الذي مر, كان يعرف أنه في منتصف الطريق, لم يفشل بيد أنه لم ينجح بعد, فكر فيما يجب أن يفعله, فعد إلي مدرسته و فتح الباب أمام الطلاب: فليبق من يريد و ليرحل الآخرون.
بعد سنوات قليلة بقي في حوزة الفرنسي12 طالبا, طلب أن يصطحبهم إلي فرنسا ليتم اختبارهم في الجمعية الطبية بحضور عظماء العلماء الأوربيين.
وافق محمد علي, و سافر الفرنسي مع( أحمد وحسن الرشيدي-محمد منصور-إبراهيم النبراوي-حسن الهيهاوي-عيسي النحراوي-مصطفي السبكي-محمد الشباسي-محمد السكري- محمد الشافعي- أحمد بخيت-محمد البقلي).
وكانت هذه الأسماء فيما بعد نواة الطب في مصر.
************
عاد كلوت بك إلي مصر منتشيا, طلب نقل المستشفي من أبي زعبل إلي قلب القاهرة, فتم نقلها إلي قصر العيني, وطلب من تلاميذه أن ينتشروا في ربوع مصر يعلمون و يطببون, و أن يساعدوه في حملة لتطعيم أطفال مصر ضد الجدري, ونظم تدريبات لحلاقي الصحة في القطر لمباشرة المهمة.
لاحظ تلاميذه وفيات الأمهات و الأطفال عند الولادة, وأن الرجال يمنعون الأطباء من الدخول علي نسائهم ويفضلون موتهن قبل أن يقترب منهن رجل غريب.
فكر كلوت بك أنه بحاجة إلي طبيبات, لكن كيف وهو الذي أهلكته الحرب حتي يقنع بعض الذكور بدراسة الطب؟
قرر المحاولة و أعلن عن إنشاء قسم للولادة في المستشفي ومدرسة ل( الدايات), لكن أحد لم يهتم.
قال محمد علي سأشتري لك طالبات, ثم ارسل من يشتري من سوق العبيد في الحبشة10 فتيات, شرع كلوت بك في تعليمهن, وعلي هامش المهمة لاحظ أن هناك عددا من البنات اليتامي صغيرات السن كان يتم علاجهن في المستشفي و بعد تمام شفائهن لم يطلبهن أحد من أقاربهن, فضمهن كلوت بك إلي المدرسة ثم ألحقهن بتلاميذه في عموم البلاد و أبقي منهن عددا لقسم الولادة.
رحل محمد علي فساءت الأمور, و سقط شرط الفرنسي الأساسي في الاستمرار بعد أن أصبح الجميع يتدخل في عمله, فعاد لبلاده.
في الميناء كان يودع شريكه في التجربه مترجمه الدائم الطبيب محمد الشافعي و يوصيه أنه في حالة عدم قدرة الطب في مصر علي أن يتقدم خطوة للأمام فعليه أن يقاتل حتي لا يعود الخلف.
*************
عندما تولي سعيد باشا أمور الحكم كان أول ما فعله أن أرسل في طلب كلوت بك ليستكمل ما انقطع من العمل قبل عدة سنوات برحيله, كان قد كبر في السن لكنه عاد بالهمة القديمة.
كان كلوت بك يتابع ما أنجزه بفخر ثم قال لطلابه: الآن تطيب لي الراحة لذهابي في الشيخوخة و ضعف قوتي.
كان رحيل زوجة كلوت بك قد أنهكه لكنه تماسك حتي أقترب بتجربته في مصر من المجد الذي كان يحلم به,مستشفيات و أطباء مهرة وتمورجية ودايات وخطط تطعيم ومدرسة للصيدلة, اطمئن إلي ما أنجزه فعاد إلي مارسيليا ثم رحل في أغسطس.1868
***************
قال أحدهم عند تخرج دفعة جديدة من مدرسة الطب:
قد يجهل الإنسان أسماء الملوك الذين شيدوا الأهرام, ولكنه لا ينسي أبدا أولئك الذين يطوقون الأعناق بهذة المهن الجسام.
.********************
…………………………….
مصادر: كتاب( لمحة عامة إلي مصر تأليف أنطون كلوت بك ترجمة محمد مسعود)

About سامح جميل رزق الله

سامح جميل رزق الله ليسانس اداب 1968 دكتوراه فى تاريخ مصر المعاصر 1978 كان يعمل مراجعا للمادة التاريخية بالهيئة العامة للكتاب .. واحيل للتقاعد 2008..
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.