كلا هاتين الضحيتين كانا يوما طفلين

wafasultan2015أنت لست مجرد جسد، ولا مجرد عقل، أنت أكبر مما تظن أنك أنت…
أنت جزء وكلّ….
أنت جزء من كل، وكلّ في جزء….
تلك الحقيقة العصية على الفهم بطريقة حسابية، هي سهلة الاستيعاب لو قبلت أن تُخرس كل الضجيج الذي يبتلعك من حولك، وتصغي إلى ذلك الصوت الخافت الذي يهمس في أعماقك….
لو تمرّنت على ذلك إلى حد الإحتراف، لاكتشفت عندها بأن ذلك الصوت أقوى من كل ضجيج العالم، وأكثر وضوحا من الشمس في قبة السماء!
ولاكتشفت أيضا بأن ذلك الصوت هو وحده دليلك إلى حياة غنية بحكمتها ومحبتها، لأنه موصول بمركز كوني لا نهائي!
لو تسنى لك أن تصل إلى تلك المرحلة ستصبح علويا لو كنت في الأصل داعشيا، وستصبح سنيّا لو كنت في الأصل علويا، وستصبح شيعيا لو كنت في الأصل سنيا، وستصبح يهوديا لو كنت في الأصل مسيحيا، وستصبح فلسطينيا لو كنت في الأصل يهوديا!
عندها وعندها فقط، سينهار كل ستار يفصلك عن الحقيقة الكونية، وسينهار كل حاجز يفصلك عن جوهرك الإنساني!
هذه الرحلة أسميها “الطريق الروحاني” لاكتشاف ذاتك…
وهي رحلة لا أحلى ولا أجمل….
رحلة تجردك من هويتك الإجتماعية لتمنحك هوية كونية تحولك من قزم إلى عملاق….
لأنك سترى كل انسان فيك، وتعجز عندها أن تدرك حدود أبعادك!
….
لقد بدأت تلك الرحلة منذ أكثر من عشر سنوات، لكنني لم آخذها على محمل الجد، إلاّ بعد أن بدأت الحرب الأهلية في سوريا!
فظائع تلك الحرب كانت تحدوني وتحثني على السير قدما باتجاه “نقطة الصفر”!
تلك النقطة التي تقابل عندها ذاتك، وتكتشف حقيقتها….
عندها وعندها فقط لا تعد تميز بين تلك الذات وذوات الآخرين…
يغمرك إحساس موغل في لغزيته، ترى من خلاله نفسك في كل شيء وترى كل شيء في نفسك!
فتخسر كل نزعة للإنحياز….
….
على طاولة مكتبي وضعت صورتين ضمن إطارين جميلين وجعلت منهما قبلتي كل صباح…
صورة لشاب داعشي ملقى جثة هامدة على الأرض وعسكري سوري يضع حذائه فوق الجثة..
والصورة الأخرى لجثة شاب علوي مقطوع الرأس، ورأسه بيد شخص داعشي…
أول ما يخطر ببالي عندما أنظر إلى الصورتين، هو أن كلا هاتين الضحيتين كانا يوما طفلين…
شعرت مرارا بالانحياز للشاب العلوي، وتفهمت مصدر انحيازي، لكنني قاومته برغبة حارقة، تلك الرغبة التي تحدو الرحالة للوصول إلى مبتغاه…
قاومته كي أتمكن من أن أتابع المسير عبر رحلتي من العقل إلى القلب وبالعكس!
……
مرارا تصادمت مع من كنت أعتقد أنها نفسي، لأكتشف فيما بعد أنني تصادمت مع من كنت أتوهم أنها نفسي…
لقد عدت إلى ذاتي قبل أن أكون علويّة…
لقد عدت إلى ذاتي قبل أن أولد…
إلى ذاتي الكونية التي كانت منذ البدء، وستظل إلى الأبد…
لقد عدت إلى ذاتٍ أكبر من تاريخي على سطح تلك الأرض….
عندما قابلت تلك الذات وعانقتها لم أعد أميز بين الصورتين، ورأيت في كل منهما جريمة وضحية….
رأيت فيهما طفلين ولدا لتوهما، وفي كل طفل تجسد ـ ما أظنه ـ الله!
استطعت أن أتخيل كيف ـ وعبر السنين ـ تراكم فوق هذين الوجهين الصدأ المشوّه للطفولة….
وكيف صارا مع الزمن عدوّين وهمين، كما صرت أنا نفسي الوهمية…..
….
عندما عدت إلى نقاوتي وإلى ذاتي الحقيقة، رحت أطبع كل صباح قبلة على جبين كل جثة، وأطلب السماح….
أطلب السماح، لأنني أنا القاتل وأنا المقتول…
فعندما تتوحد مع ذاتك الحقيقة تتجرد من النزعة للانحياز، فتصبح كل شيء وكل شيء يصبح أنت….
**************************
أعزائي القرّاء:
أدركني الوقت ولم أستطع أن أصنع لكم بوستا جديدا بمناسبة عيد الحب، فآثرت أن أضع هذا المقطع من كتابي القادم “دليلك إلى حياة مقدسة”!
دائما يباغتني عيد الحب، لأنني في حقيقة الأمر أحتفل بكل يوم تشرق فيه الشمس كعيد للحب!
كل عام وأنتم بخير!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.