الجزء الاول: بشر يخطئون أم أئمة معصومون؟
لماذا نتحدث عن جمع من الصحابة بكل هذه الصراحة التي تستنطق ما استتر في بطون الكتب وتكسر النمطية التي تلقنّاها منذ الصغر؟ الإساءة لأي من هذه الشخصيات التاريخية هو أبعد ما يكون عن هدف هذه المقالة. فلا فائدة ترجى من حروب نشنها على الماضي ورجاله. بل الفائدة المرجوة هنا هي أن نكسر هذا العازل الذي يمنعنا أن نقرأ وبحرية ما هو مسطور في كتبنا من أخبار وما نقله لنا الأقدمون المسلمون من صور بشرية عادية لرجال كان لهم دور مهم في الثورة الانسانية والاجتماعية التي شهدتها جزيرة العرب تحت لواء الاسلام. الهدف أن نرى أن الأقدمين كانوا أكثر شجاعة منا الآن، فقد كتبوا بمنتهى الصراحة عن رجال أحاطوا بالنبي كبشر، لا كأئمة معصومين. لم يكن المسلمون قديماً ينظرون إلى أي منهم إلا كبشر يصيب ويخطئ.
ولهذا لا يجوز لعقولنا أن تتخدر بهالة القدسية التي يضفيها كهنة التاريخ والدين، فليس من مقدس إلا الحقيقة أيا تكن مرارتها. هذا مقال يشجعنا كي نقرأ، ويحفز عقولنا على أن تتساءل وتبحث وتصل في سعيها للحقيقة لما هو أبعد مما نذكره هنا وهو نزر يسير مما يحتوي عليه التاريخ. إنه دعوة للعقل الحر ليمارس حريته في القراءة والفهم والحكم. فمتى وجدنا الشجاعة لنرى الحقيقة في ماضينا، سنجد الجرأة على قراءة واقعنا ومواجهته، وربما علاجه.
أبو هريرة، الراوية الأشهر
هو الصحابي المعروف وأول راوية اتهم في الاسلام. عرف بأبي هريرة نسبة إلى هرة كان يتعهدها، وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي وإن كان المؤرخون قد اختلفوا في اسمه اختلافاً كبيراً. أقبل على النبي مع قومه في عام 7 هجري بعد غزوة خيبر وأعلنوا اسلامهم. وصف نفسه قائلاً: “إني كنت امرأً مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني”. كان فقيراً من أهل الصفة يطلب المعونة من الناس ليسد رمقه. والصفة هي مكان مظلل خلف مسجد النبي كان يأوي إليه الفقراء ممن لا عشائر أو عمل لهم. وكان النبي يدعوهم للعشاء معه ليلاً ويوزع البقية منهم على الصحابة. لم يعرف عنه أنه احترف عملاً أو مهنة أو ذاع له صيت في حرب أو سياسة.
بعثه النبي ليجمع الصدقات مع العلاء بن الحضرمي والي البحرين. وفي ولاية عمر بن الخطاب ولاه الخليفة إمارة البحرين، ثم عزله وقاسمه ماله الذي تضخم من تجارته بعد أن أنبه بشدة بل وضربه بالدرة قائلاً: “إني استخلفتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار”. وكان قد بدأ برواية الحديث أيام عمر بن الخطاب إلا أن عمر نهاه بشدة محذراً إياه من عاقبة الحديث عن النبي، فتوقف ولم يشتهر صيته وتنطلق الأفواه برواياته إلا بعد مقتل عمر.
من صفات أبي هريرة التي تمهد لنا فهم شخصيته أنه كان مبالغاً في المديح والوصف والمزاح لإرضاء من هم في السلطة أو لاكتساب اهتمام الناس. فما وصفه من بطولات العلاء بن الحضرمي في معركته في البحرين من أن الخيل عبرت الماء ولم تبتل لم يكن إلا للتقرب من الوالي وكسب رضاه. كما أن ما قالته السيدة عائشة من أنه كان “رجلاً مهذاراً” يجعلنا نرى كيف كان المقربون من النبي ينظرون إليه. ومن صفاته الأخرى أنه كان ينسب لنفسه ما ليس لها من القرب من النبي، حتى أنكر عليه الصحابة هذا. فحين كان يردد: “قال خليلي”، رد عليه علي بن أبي طالب بقوله: “متى كان النبي خليلك يا أبا هريرة؟” وحين أنكرت عليه السيدة عائشة كثرة روايته للحديث رد عليها بقوله: “لم تشغلني عنه، أي النبي، المرآة والمكحلة”.
إن الفترة التي قضاها أبو هريرة مع النبي (تراوح بين عام وتسعة أشهر إلى ثلاثة أعوام على الأكثر حسب روايات عدة للمؤرخين) تعد قصيرة قياساً بالأحاديث التي رواها. فالخلفاء الأربعة مجتمعون لم يرووا إلا ما مقداره 27% من روايات أبي هريرة على سابقتهم وقربهم وطول مدة صحبتهم للنبي. كما أن ولاء أبي هريرة فيما بعد لمعاوية والحكم الأموي جعله طرفاً في صراع سياسي ألقى بظلال على بعض ما رواه من أحاديث في تلك الفترة. أضف إلى هذا أن متن بعض الأحاديث المنسوبة إليه في الصحاح يثير الاستغراب.
إن سيرة أبي هريرة تطرح الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة مقنعة قبل أن نقبل أحاديثه بشكل تلقائي مفترضين الصدق في صحابي لم يتورع الأولون عن انتقاده والتشكيك في صحة ما يرويه. لقد كان تاريخ الرجل في الفقر والعوز حاكماً في تصرفاته العامة والخاصة. فما نقله عنه العماد الحنبلي في شذرات الذهب من أن “الصلاة خلف علي أتم، وسماط معاوية أدسم، وترك القتال أسلم” يوضح ما الذي كان يحكم ولاءات هذا الصحابي. كما أن أبا هريرة الذي عمل في الماضي أجيراً عند بسرة بنت غزوان، وحين أكرمه معاوية بتزويجه إياها قال مفاخراً بالانتقام منها كما ذكر ابن سعد في طبقاته: “أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي فكانت تكلفني أن أركب قائماً وأورد حافياً فلما كان بعد ذلك زوجنيها الله فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية”. إن كل تلك الوقائع التاريخية، والملامح الشخصية، وآراء السابقين في هذا الصحابي تدعو بإلحاح إلى مراجعة علمية دقيقة لما انتفخت به كتب الأحاديث من أقواله التي نسبها للنبي.
عبد الله بن عباس
هو حبر الأمة وترجمان القرآن وإمام المفسرين والصحابي الجليل الذي يرجع إليه المتقدمون والمتأخرون في الفقه والحديث. ولد عبد الله بن عباس ابن عم النبي في مكة قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل قبلها بسنة. صاحب النبي ما يقرب من 30 شهراً، ومع ذلك فله في كتب الحديث ما يقرب من 1660 حديثاً. روى هو عن النبي أنه قال عنه: “اللهم فقهه في الدين”. وعلى هذا استند علماء الفقه وأهل الحديث في اعتباره مصدراً موثوقاً به في الرواية وفي الأحكام والتفسير رغم أن النبي مات وابن عباس في الخامسة عشرة من عمره على أكثر تقدير.
يبدو من سيرته التاريخية أن ابن عباس كان يمتلك شخصية متزنة وعقلاً راجحاً مما جعل عمر بن الخطاب يعتمد عليه في حل المعضلات ويلقبه بفتى الكهول. أنابه عثمان بن عفان عنه في إمارة الحج وهو محصور في بيته إبان الثورة عليه. ثم صحب ابن عباس ابن عمه علي بن أبي طالب بعد أن بويع بالخلافة وكان ممن يعتمد عليهم الخليفة حتى أنه أرسله للخوارج ليحاججهم بعد أن انشقوا عنه لقبوله بالتحكيم. ولاه علي بن أبي طالب ولاية البصرة، وهنا وقع ما يسكت عنه المعاصرون استحياء وحيرة في نقل هذه الواقعة.
فقد أرسل خازن بيت المال أبو الأسود الدؤلي إلى الخليفة علي في الكوفة يخبره أن ابن عباس قد استأثر لنفسه بمال من بيت مال المسلمين. ورد الخليفة بكتاب إلى ابن عباس يطلب فيه منه أن يرفع إليه حسابه. وكان رد ابن عباس باهتاً غير مقنع إذ قال: “أما بعد فإن الذي بلغك باطل. وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ. فلا تصدق على الأظناء يرحمك الله”. وعندما رد الخليفة مصراً على المساءلة أسفر ابن عباس عن وجه العناد والكبر واعترف ضمناً بأخذ أموال المسلمين مبرراً إياها بأنها حقه، وأن أخذ المال أهون من سفك علي بن أبي طالب للدماء. ونص رده يغنينا عن الاسهاب: “أما بعد: فقد فهمت من تعظيمك على مرزئة ما بلغك أني رزأته أهل هذه البلاد. والله لأن ألقى الله بما فى بطن هذه الأرض من عقيانها (أي ذهبها) ولجينها (الفضة) وبطلاع ما على ظهرها أحب إلي من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة. فابعث إلى عملك من أحببت”. ويقول المؤرخون إن علي بن أبي طالب قال لمجلسه حين قرأ هذا الكتاب: ألم يسفك ابن عباس هذه الدماء معنا؟ وحين وصلت الأمور إلى هذا الطريق المسدود جمع ابن عباس ماله الذي اختلسه من خزينة الإمارة وانطلق محمياً بأخواله من بني هلال الذين أمنوا له الطريق ليذهب إلى مكة بعيداً عن سلطة الخليفة وانتقام أهالي البصرة الذين خان أمانتهم. وما أن وصل مكة حتى ابتاع ثلاث جوارٍ بآلاف الدنانير كما يذكر المؤرخون. وحين ألح عليه الخليفة أن يعيد الأموال معاتباً تارة ومنذراً تارة أخرى لم يكن من ابن عباس إلا أن قال له: “أما بعد، فقد بلغني كتابك تعظم علي إصابة المال الذي أصبت من بيت مال البصرة ولعمري إن حقي في بيت مال الله أكثر مما أخذت والسلام”.
وقد حاول البعض أن يشكك في صحة هذه القصة ولكن الإشارات العديدة في كتب التاريخ لها في مناسبات مختلفة تجعل من الصعب علينا أن نقتنع أنها مختلقة. فهذا ابن الزبير يقول في معرض نقده علناً لابن عباس وهما متواجهان في المسجد: “إن ها هنا رجلاً أعمى الله قلبه كما أعمى بصره يزعم أن متعة النساء حلال من عند الله ورسوله ويفتي في القملة والنملة، وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس وترك المسلمين بها يرتضخون النوى”.
إن هذه الحادثة التي لم يطلع عليها الكثيرون، وأثارت ضجة حين أوردها الدكتور طه حسين في كتابه “الفتنة الكبرى”، تعطي مثالاً على ما لا يعرفه العامة من حوادث تاريخية تجعلنا نعيد النظر في مسلمات كثيرة. فهالة القدسية لم تكن موجودة على رؤوس الصحابة كما نراها الآن، والدليل هو ما نراه من مخاطبات قاسية بينهم لم نورد الكثير منها هنا. فبالنسبة للشيعة تشكك هذه الحادثة في أصل نظرية الإمامة والعصمة لعلي بن أبي طالب الذي جانبه التوفيق في اختيار عامله وفشل في استرداد حقوق المسلمين المنهوبة منه. كما أنها تثير غباراً كثيفاً حول صدق من تنسب إليه مئات الأحاديث والفتاوى في كتب السنة والصحاح ويجله علماء السنة كأحد أفقه الصحابة. وقد يكون الاستنتاج الأقرب للصواب أن جد خلفاء بني العباس وجد من يضخم له صورته كحبر للأمة ويضفي عليها هالة من ورع وفقه لم يرها المعاصرون له بهذا الشكل. وفي كل الأحوال، فإن هذا لا ينفي أن لابن عباس وغيره اسهامات في الفقه والحديث ولكنه، كغيره، بشر يؤخذ منهم ويترك.
المصادر: الجزء الخاص بأبي هريرة من كتابي “أبو هريرة- شيخ المضيرة” لمحمود أبو رية، وطبقات ابن سعد. الجزء الخاص بعبدالله بن عباس من كتابي “الفتنة الكبرى- علي وبنوه” للدكتور طه حسين، و”أنساب الأشراف” للبلاذري.