لماذا نتحدث عن جمع من الصحابة بكل هذه الصراحة التي تستنطق ما استتر في بطون الكتب وتكسر النمطية التي تلقنّاها منذ الصغر؟ الإساءة لأي من هذه الشخصيات التاريخية هو أبعد ما يكون عن هدف هذه المقالة. فلا فائدة ترجى من حروب نشنها على الماضي ورجاله. بل الفائدة المرجوة هنا هي أن نكسر هذا العازل الذي يمنعنا أن نقرأ وبحرية ما هو مسطور في كتبنا من أخبار وما نقله لنا الأقدمون المسلمون من صور بشرية عادية لرجال كان لهم دور مهم في الثورة الانسانية والاجتماعية التي شهدتها جزيرة العرب تحت لواء الاسلام. الهدف أن نرى أن الأقدمين كانوا أكثر شجاعة منا الآن، فقد كتبوا بمنتهى الصراحة عن رجال أحاطوا بالنبي كبشر، لا كأئمة معصومين. لم يكن المسلمون قديماً ينظرون إلى أي منهم إلا كبشر يصيب ويخطئ.
عمرو بن العاص، داهية العرب
” اللهم أمرت فعصينا، ونهيت فركبنا، فلا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله”.
كانت هذه آخر كلمات عمرو بن العاص على فراش موته في مصر، وهو في الثامنة والثمانين من عمر طويل حفل بالحروب ودسائس السياسة ومطامع الحكم. هو داهية العرب وفاتح مصر وحليف معاوية في “الفتنة الكبرى”، والباحث دوماً عن دور في الإسلام يوازي ما كان له من شرف قبلي في قريش قبل الدعوة. أفاض المؤرخون والكتّاب الذين نقدوا سيرته في الحديث عن نسبه وسيرة أمه، وهو مما لا نعرض له هنا لأنه في رأينا ليس مما يشينه. فأفعال الانسان التي يقوم بها عن وعي وتدبر هي ما يحاسب عليه لا نسبه، فليس لأحد فضل أو عار فيمن كان والده أو أمه.
اختارته قريش لما عرف عنه من دهاء أن يكون ضمن وفدها الذي أرسلته إلى الحبشة ليرد من هاجر إليها من المسلمين الأوائل. دخل الإسلام في السنة الثامنة للهجرة، وأبلى بلاء حسناً في أول مهمة أسندها إليه النبي في قيادة سرية ذات السلاسل للدفاع عن المدينة ضد غزاة من قبيلة قضاعة. ولاه أبو بكر مع آخرين من الصحابة قيادة الجيوش في الشام. وفي خلافة عمر بن الخطاب نجح ابن العاص في إقناعه بغزو مصر بعد أن استتب أمر الشام للمسلمين. ودخل عمرو مصر ببضعة ألوف من الجنود وتمكن من إحراز انتصارات سريعة ضد الرومان البيزنطيين بسبب اضطهادهم لأقباط مصر الذين كانوا على مذهب يخالف مذهبهم.
وتذكر لنا مصادر التاريخ مثل المقريزي ويوحنا النقيوسي وقائع عديدة عن كيفية تصرف ابن العاص وجيشه كغازٍ يبحث عن موارد جديدة لدولته بدلاً من كونه فاتحاً يدعو لدين جديد. فعمرو ابن العاص قتل الكثيرين ممن واجههم في مصر ومنها على سبيل المثال ما حدث في الفيوم والقرى على الفرع الشرقي للنيل كما ذكر د.بتلر في كتابه “فتح العرب بمصر”. ونقرأ في ما كتبه المقريزي في الخطط “عن فتح مصر أن عمرو أعلن لأهل مصر: إن من كتمني كنز عنده فقدرت عليه قتلته. وقد فعل هذا بالفعل بقبطي كتمه كنزاً فقطع رأسه. كما يقول ابن عبد الحكم في “فتوح مصر والمغرب” إن “صاحب إخنا قدم على عمرو بن العاص فقال أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصبر لها، فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم”.
وحين عزله عثمان بن عفان عن ولاية مصر وعيّن بدلاً منه أخاه في الرضاعة عبد الله بن أبي السرح نقم عليه ابن العاص وأصبح أحد أكبر المحرضين عليه. وحين قتل عثمان على أيدي الثوار في المدينة واندلعت “الفتنة الكبرى” كان لا بد له أن يتخذ موقفاً يعيد إليه ما سلب مما يعتبره حقاً ألا وهو حكم مصر. فانطلق إلى معاوية وانضم إلى معسكره في مواجهة الخليفة علي بن أبي طالب على شرط أن يعهد إليه بحكم مصر. وكان مع معاوية مثالاً للسياسي الذي يجد حلولاً ماكرة لأي مأزق. فهو تارة ينصح صاحبه برفع المصاحف لشق صفوف المقاتلين في جيش علي. ثم يكشف عورته في نزاله مع علي بن أبي طالب ليتقي القتل.
استتب حكم مصر لعمرو بن العاص بعد أن أصبح معاوية خليفة بوفاة علي بن أبي طالب وصلح الحسن، وحين توفي أحصي ماله فكان 140 إردباً من الذهب صادرها معاوية بن أبي سفيان قائلاً: “نأخذه بما فيه”.
خالد بن الوليد، سيف الله المسلول
“اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد” قالها النبي محمد بعد أن قتل خالد بن الوليد أسراه من بني جذيمة لأنه رآهم يحملون السلاح. كانت هذه أول حادثة تعرضه للنقد بعد إسلامه حين أرسله النبي ليدعو بني جذيمة إلى الإسلام. فلما تمكن من أسرهم بعد أن ألقوا السلاح طواعية، أمر بهم فقتلوا. وشكاه بعض الأنصار ممن أنكروا عليه فعلته إلى النبي الذي تبرأ مما فعل وأدى الدية إلى أهالي المقتولين. وأغلب الظن أنه فعل ذلك انتقاماً لمقتل عمه على أيدي بني جذيمة في الجاهلية كما اتهمه بهذا عبد الرحمن بن عوف حينها.
كانت لخالد مكانة رفيعة في قريش فهو ابن أحد سادة بني مخزوم. وكان المحارب البارز الذي تمكن من الحاق الهزيمة بجيش المسلمين في معركة أحد. عرف خالد بن الوليد بإقدامه في المعارك وعقليته العسكرية المتميزة التي أكسبته ثقة النبي وأبي بكر في توليته قيادة الجيوش. ظهر تميزه القيادي في معركة مؤتة حين قتل القادة الثلاثة للجيش على التوالي. وتمكن بخديعة عسكرية من أن يسحب الجيش ويتجنب هزيمة مقاتليه الثلاثة آلاف أمام مئتي ألف مقاتل من الروم والغساسنة. وفي هذه الواقعة أسبغ النبي عليه لقب “سيف الله المسلول”. كما اشترك في حروب عدة أيام النبي مثل فتح مكة وحنين وتبوك وغيرها. كما كان له دور بارز في حروب الردة في عهد أبي بكر، حيث هزم طليحة بن خويلد الأسدي الذي تنبأ في حياة النبي وعظم أمره بعد وفاته. وفي حروب الردة هذه، بدأت قسوة خالد تتزايد حين شعر بالحاجة له، وأمن العقاب، وعلل نفسه بأنه يحارب لنصرة الدين مما يجعل كل ما يسفك من دماء قرباناً مشروعاً لله.
كان أول أخطائه الوحشية التي استعملها مع مالك بن نويرة الذي قال الكثير من المؤرخين أنه لم يرتد ولكنه تريث في دفع الزكاة بعد وفاة النبي. وأياً يكن الحال، فإن قتل ابن نويرة ثم وضع رأسه كأحد الأحجار التي تستند إليها القدور على النار، ثم الدخول بزوجته أم تميم كانا لهما وقع الصدمة على الكثير من رفاقه المحاربين. ووصل الخبر إلى المدينة فاستشاط جمع من الصحابة غضباً وضمنهم عمر بن الخطاب الذي قال حينها: “إن في سيف خالد رهقاً”، وطالب أبا بكر بعزله وعقابه. لكن أبا بكر تصرف كسياسي يحتاج إلى جنراله البارع، فعنف خالداً على ما فعله وأمر بأداء دية مالك لأخيه متمم، ورد من سباهم من قومه من بني يربوع. ثم هاجم خالد مسيلمة الكذاب وتمكن من الانتصار عليه وصالح من بقي من قومه وأغلبهم من النساء والأطفال. ثم طلب ابنة أحد كبار زعمائهم وهو مجاعة بن مرارة للزواج بعد نهاية المعركة. وعندما وصل الخبر إلى المدينة اشتد عليه عمر بن الخطاب في النقد أمام أبي بكر فكتب له أبو بكر كتاباً يعنفه فيه قائلاً: “لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ. تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد”. وحين قرأ خالد كتابه قال: “هذا عمل الأعيسر”، ويقصد بهذا عمر بن الخطاب.
ثم يذكر المؤرخون واقعة “نهر الدم” أو معركة “أليس” مع الفرس، والتي نذر فيها خالد أن يحيل لون نهر الفرات إلى الأحمر بدماء الأعداء. وحين انتصر في المعركة قطع رؤوس الأسرى وألقى بهم في النهر في مشهد يذكرنا بما قامت به داعش في العراق. وإنه لمن العجب أن نرى كاتباً إسلامياً مثل د. محمد حسين هيكل يقول إن الاعتراض على هذه الوحشية يدعو للابتسام.
استمر خالد في انتصاراته في العراق، ثم أرسله أبو بكر إلى الشام ليعين جيوش المسلمين هناك في مواجهة الروم. وحين توفي أبو بكر وتولى الخلافة عمر بن الخطاب كان أول عمل له هو عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش وتولية أبي عبيدة بدلاً عنه. وبدا أن ما في قلب عمر من غضب عليه بسبب أفعاله السابقة كان حاكماً في تصرفاته تجاه خالد. إضافة إلى هذا، كان عمر يتخوف من التضخم الظاهر في شخصية خالد الذي بدأ يشعر وكأنه القائد الذي لا بديل عنه، فأخذ يعطي الشعراء أعطيات على مدحه مما دعا الخليفة لاستقدامه إلى المدينة ومساءلته عن هذا الأمر.
هذا هو خالد بن الوليد بكل ما قرأناه عنه في مدارسنا وكتبنا من بطولات وأمجاد، وما تحكيه لنا مصادر التاريخ من أخطاء ونزوات. يبدو لنا بين سطور التاريخ متميزاً في انجازاته العسكرية، وبشراً في ضعفه وشهواته كغيره من تلك الأجيال التي شهدت الحركة الانسانية والاجتماعية المهمة في جزيرة العرب وما حولها بعد بدء الدعوة الاسلامية.
المصادر: “البداية والنهاية” لابن كثير، و”سير أعلام النبلاء” للذهبي.
الجزء الثاني: كشف المسكوت عنه: هل كان رواة الحديث معصومين عن الخطأ؟