كاتب عصري!

كاتب عصري!
بروفسور: سليمان جبران

الدكتور سعيد كاتب وناقد. كاتب مشهور. لا أحد يعرف كيف صار فجأة دكتورا. حاسدوه، الحاقدون عليه يعني، يزعمون أنّه اشترى الدكتوراه، كما يشتري المرء بدلة جديدة من السوق، يلبسها في المناسبات العامّة، فتبيّض وجهه. الحسّاد كثيرون، والغيارى أكثر. يقسمون الأيمان الغليظة أنّه اشترى شهادته، كما يشتري الناس التحف من الدكّان. بل يحدّدون سعرها. بالدولار طبعا. شهادته، يقولون، سرّ من أسرار الدولة. لا يعرفه أحد، ولا يجرؤ أحد على السؤال عنه !
لا يمكن لمن يراه إلّا تكذيب الأخبار المغرضة هذه كلّها. فهو لا يشارك في أمسية أدبيّة إلّا ومعه كوكبة من المثقّفين والكتّاب. يتقدّمهم جميعا في دخول المحفل، فيدخل مرافقوه وراءه. تكاد الثقافة تتدفّق من كلّ كلمة يتفوه بها في القعدة.
في نهاية كلّ أسبوع، ينشر الأستاذ مقالة نقديّة. كلّ أسبوعيّة تفتحها تجد مقالته وصورتة تزيّنان إحدى صفحاتها. الخبثاء طبعا يزعمون أنّه لا يعرف قواعد اللغة، فيعمد إلى من يراجع له المقالة لغويّا. وكثيرون يشترون من الدكّان حاجاتهم ملفوفة بجريدة. جاهلين أنّ الخضار تلك تحتضن صورة كاتب عظيم في نقد أحد الكتب.
الكتاب المنقود قد يكون مجموعة شعريّة، وقد يكون رواية أيضا. ناقد كبير فعلا. ملمّ بالأدب شعرا ونثرا. في مقالته الناقدة، يجد القارئ اسماء ومقولات كثيرة. من الأدب العربي، ومن الأدب الأجنبي أيضا. والأعلام الأجنبيّة غالبا ما تظهر بين قوسين، بأحرف لاتينيّة؛ بكابتل لاتر. ما يشهد بسعة اطّلاعه، في الأدب الغربي، كما في الأدب العربي !
غالبا ما يكون صاحب المؤلَّف المنقود من أصدقائه، أو معارفه. يحرص على تعرّفه عن كثب. لا بدّ له قبل نقد الإبداع من معرفة المبدع طبعا. تلك معلومة ضروريّة لنقده الواقعي الموضوعي. لا يؤمن بنظريّة موت المؤلّف. كلّ أدب ينتجه الكاتب لا بدّ أن تجد فيه انعكاسا للبيئة من حوله. وإلّا فهو أدبّ منبتّ عن الواقع. يتناول القضايا المجرّدة، بعيدا عن الواقع. والدكتور سعيد ناقد واقعي، كما يسمّي هو نفسه، ويصفه أصدقاؤه.
بل هو يحرص غالبا على زيارة صاحب الكتاب في بيته. يتعرّف الكاتب وبيئته عن كثب. في زيارته الأدبيّة تلك، قلّما يذهب وحيدا. يرافقه كثيرون من الجنسين. سهرة أدبيّة، واجتماعيّة أيضا. يجلس الأستاذ في صدر الديوان، ومن حوله مريدوه، يتلقّفون كلّ كلمة، أو مقتبس يسمعونه من الأستاذ. يشربون كلماته ماء زلالا، فيوسّعون معارفهم مشافهة.
يجلس في وسط القعدة، محاطا بالأصدقاء، هواة الأدب والنقد. لن تراه في السهرة إلّا ببدلة غامقة، وربطة تتدلّى من عنقه، فتغطّي بعض صدره واقفا، ومعظمه جالسا. من طبعه التواضع وحبّ الناس. لكنْ لكلّ مقام لباس. هل يشارك في الأمسيات العامرة هذه بقميص وبنطلون فحسب ؟ هل يمكن للمركز أن يكون غفلا من السمات الفارقة ؟
تخطّى الستّين من زمان، لكنّ معارفه كلّهم لا يصدّقون إذ يصرّح بعمره. شعره يملأ رأسه. بل يتعدّى حدوده، فيضيّق من جبهته حتّى. لذا يظنّه من يراه أوّل مرّة أصغر بعشر سنوات من عمره. الشباب زهرة العمر طبعا. لكنّ الوقار في سنّه مطلوب. الشباب في رأيه إلى حين، أمّا الوقار فلا موسم له. في كلّ حين.
سيّارته فتيّة، ومن أحسن الأنواع. لكنّه لا يسوقها غالبا إلى اللقاءات الأدبيّة البعيدة، في الليل. يسوقها أحد المريدين الشباب، ويجلس هو إلى جانبه، غارقا في تفكيره طول الطريق. بل غالبا ما يجلس بجانب أحد مرافقيه هؤلاء، ويترك سيّارته هو في البيت.
ما إن يصل موكب السيّارات إلى غايته في إحدى القرى، حتّى يصفّوا السيّارات، أمام بيت المضيف، أو المضيفة، ويدخلوا جميعا مسلّمين. يجلسون من حوله، صامتين مشرئبين. يشربون كلامه شربا. وهو يورد في كلّ فرصة تسنح حكاية من تاريخ العرب، أو من نوادر الكتّاب العالميّين. الأستاذ مدرسة على قدمين، وكلامه فيض حكمة وثقافة.
بعض مرافقيه يرون أنّ صحبة الأستاذ خير من المطالعة في الكتب. الكلام على لسانه يسيل كالنبع المتدفّق. وهم من حوله يشربونه عسلا مصفّى. كلّ مسألة تشغل بالهم يسألونه عنها، فيسمعون الجواب الشافي الوافي.
وآخرون من مريديه لا يكتفون بما يسمعون من الأستاذ لتوسيع آفاق تفكيرهم. يؤمنون أنّ المرء موكّل أيضا بتثقيف نفسه، كما سمعوها من الأستاذ غير مرّة. لا يسألون الأستاذ إلّا في قضايا المفاضلة، والقضايا المستعصية. سأله أحدهم مثلا ذات مرّة:
لماذا، يا أستاذ، يعتبر النقّاد المتنبّي أكثر الشعراء حكمة ؟
لأنّ الحكمة تتخلّل شعره كلّه. تأثّر المتنبّي بكلّ الفلسفات التي شاعت في عصره. قرأ كلّ الفلسفة اليونانيّة، وحفظها غيبا. يكفيه قوله :
خُلق الناس للبقاء فضلّتْ / أمّة يحسبونهم للنفادِ
إنّما ينقلون من دار أعمالٍ إلى دار شقوة أو رشادِ
jubrans3@gmail.com

About نبيل عودة

نبذة عن سيرة الكاتب نبيل عودة نبيل عودة - ولدت في مدينة الناصرة (فلسطين 48) عام 1947. درست سنتين هندسة ميكانيكيات ، ثم انتقلت لدرسة الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو . أكتب وأنشر القصص منذ عام1962. عانيت من حرماني من الحصول على عمل وظيفي في التعليم مثلا، في فترة سيطرة الحكم العسكري الاسرائيلي على المجتمع العربي في اسرائيل. اضطررت للعمل في مهنة الحدادة ( الصناعات المعدنية الثقيلة) 35 سنة ، منها 30 سنة كمدير عمل ومديرا للإنتاج...وواصلت الكتابة الأدبية والفكرية، ثم النقد الأدبي والمقالة السياسية. تركت عملي اثر إصابة عمل مطلع العام 2000 ..حيث عملت نائبا لرئيس تحرير صحيفة " الاهالي "مع الشاعر، المفكر والاعلامي البارز سالم جبران (من شعراء المقاومة). وكانت تجربة صحفية مثيرة وثرية بكل المقاييس ، بالنسبة لي كانت جامعتي الاعلامية الهامة التي اثرتني فكريا وثقافيا واعلاميا واثرت لغتي الصحفية وقدراتي التعبيرية واللغوية . شاركت سالم جبران باصدار وتحرير مجلة "المستقبل" الثقافية الفكرية، منذ تشرين اول 2010 استلمت رئاسة تحرير جريدة " المساء" اليومية، أحرر الآن صحيفة يومية "عرب بوست". منشوراتي : 1- نهاية الزمن العاقر (قصص عن انتفاضة الحجارة) 1988 2-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها ( بانوراما قصصية فلسطينية ) 1990 3-حازم يعود هذا المساء - حكاية سيزيف الفلسطيني (رواية) 1994 4 – المستحيل ( رواية ) 1995 5- الملح الفاسد ( مسرحية )2001 6 – بين نقد الفكر وفكر النقد ( نقد ادبي وفكري ) 2001 7 – امرأة بالطرف الآخر ( رواية ) 2001 8- الانطلاقة ( نقد ادبي ومراجعات ثقافية )2002 9 – الشيطان الذي في نفسي ( يشمل ثلاث مجموعات قصصية ) 2002 10- نبيل عودة يروي قصص الديوك (دار انهار) كتاب الكتروني في الانترنت 11- انتفاضة – مجموعة قصص – (اتحاد كتاب الانترنت المغاربية) كتاب الكتروني في الانترنت ومئات كثيرة من الأعمال القصصية والمقالات والنقد التي لم تجمع بكتب بعد ، لأسباب تتعلق اساسا بغياب دار للنشر، تأخذ على عاتقها الطباعة والتوزيع.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.