في وسط هذا العالم وجدت نفسي عبارة عن كائن فضائي أو كائن انقرض نوعه وجنسه وأصله وفصله, إنسان ليس كباقي الناس, لا تهمه نفسه ويهتم بمشاكل وأمور الآخرين, يحزن على الناس ولا يحزن على نفسه, إنسان قلما عرفت الناس طينته من أي ترابٍ قد جُبلتْ, إنسان كل الناس تقول عنه مهملٌ بحق نفسه ولا يهتم بنفسه كثيرا ولا بمستقبله, إنسان يعيش على الهامش, قليل السخاء على نفسه, إنسان قلما نجد له قطع غيار عند صيانته أو أخذه لإلى أقرب محل تصليح.
إنسان باع الدنيا واشترى بثمنها كُتب وقصائد شعر ومقطوعات نثرية ونصوص أدبية, إنسان باع الدنيا كلها وزهد بها, إنسان باع الباطل واشترى بثمنه الحقيقة التي كلفته الكثير الكثير, إنسان باع الماضي كله واستغنى عن ذاكرته الجماعية واشترى بثمنها المستقبل الذي سوف يكشف للناس عن حقيقة دينهم وحياتهم الثقافية والدينية, أين من الممكن أن نجد إنسان مثلي همه الأول والأخير ملء رأسه بالكتب وبالقصائد وآخر ما يفكر به ملء بطنه, يبات وهو جائع ولا يبات ومخه فارغ, في قلبي هموم الدنيا, أفكر بالأهل وبالجيران وبالمعارف وبالأصدقاء, أفكر بالذين من حولي وبهمومهم وبمشاكلهم ولا أهتم بنفسي كثيرا, حزينٌ على مصير الناس, حزين من كثرة ما أشعر بأوجاعهم وهمومهم ومشاكلهم, أنا كائن غريب أضعت العمر كله وأنا أفتش عن العبارات الجميلة والكتب المهمة, كنت وما زلت كأنني أبحث عن إبرة في كومة قش.
ومع ذلك لا يحزن عليّ الذين أحزن عليهم, ولا يعطوني شيئا الذين أعطيهم, ولا يفكر بي الذين أفكر بهم, ولا يهتم بي الذين أهتم بهم, ولا يبكي من أجلي الذين أبكي من أجلهم, ولا يعينني من أمد لهم بساعدي وأرمي لهم بطوق النجاة, وأغلبية الناس تعيش من مهنتها إلا أنا, ومعظم وأغلبية الناس تغتني بسبب مهنتها إلا أنا مهنتي هي سبب فقري وتعاستي لأن مهنتي الكتابة والاهتمام بمشاكل الناس وبهمومهم وبتطلعاتهم وبأحلامهم, الكتابة لا تطعمني الخبز وهي سبب جوعي وفقري ومع كل ذلك متمسك بها جدا ولا أنوي فراقها وكلما حاول الناس إبعادي عنها كلما تمسكتُ بها أكثر, أحبها وأحب الذي تسببه لي, لذلك من يوم ما أحببت الكتابة وأنا أحبُ جوعي وعطشي وتعبي وشقائي , أحببت ظُلم الناس لي وظلم الحكومة لي وفوق كل ذلك تفننت ُ بظلم نفسي, فابتكرت أساليب جديدة للكتابة وخلطت بين القصة القصيرة والمقالة, وتفننت بألمي كثيرا, فأحببتُ الجروح كثيرا وأحببتُ التعب والشقاء.
كل هذا ألا يدعو للناس وللأهل وللأصدقاء بأن يقولوا عني بأنني كائن غريب, قادم من تحت الأرض أو من السماء من كوكب آخر؟ كل هذا, نعم, كل هذا سببٌ لأن أبات وأنا جائع والذين أكتب من أجلهم ينامون وبطونهم منفوخة , إن الحياة بكل ما فيها من متع لم يغرنِ منها إلا الكِتاب, فلاحقة الشعراء والأدباء والفلاسفة والمؤرخين وأهملت رغيف الخبز حتى صرت بعد ذلك أركض وراءه ولا أشبع منه, إن حياتي غريبة, أنا رجل أعرف الداء والدواء ومع ذلك فضلتُ أن أعيش على الهامش عليلا وحزينا ومحتاجا للقمة الخبز, أفكر في الفلسفة والكتابة والقراءة ولا أفكر برغيف الخبز, صحيح أن الله يرزق , ولكن أنا لا أسعى خلف رزقه من خبز وماء وكلأه بل أسعى خلف الفلاسفة الذين خلقهم, ربما أنني سأعيش أكثر من هؤلاء الناس الذين ينامون وبطونهم ممتلئة , سأعيش أكثر من جلادي.