كان عندي جارٌ بيته مقابل بيتي مباشرة,وكان رجلا غريبا بعض الشيء..وكان رجلا فضا غليظ القلب ومزاجه سيء لأبعد
الحدود,والناس تخشى من الاقتراب منه ولا أحد يرغب حتى بإلقاء التحية عليه أو بردها لهم, حتى أنه كان من المستحيل عليه أن يرد عليك التحية إذا ما صادفته في الشارع أو السوبر ماركت, وفي البيت مزاجه أيضا سيء جدا وعصبي وكثير التكسير للأواني المنزلية الزجاجية وشديد القسوة على زوجه(زوجته) وأولاده ولا يرحمهم أبدا من جلافة طبعه, وكان أولاده يخشون منه وهو جالس في البيت ويخافونه من شدة بطشه بهم وكانوا إذا أحسوا بدخوله إلى المنزل ينقلب الجو العام للمنزل ويتحول الطقس من مشمس وهادئ إلى رياح عاتية مثيرة للغبار والأتربة , حتى أنهم كانوا يخشون من المصادفة معه وهو يمشي في الممرات الضيقة في منزله, ويخافون من الاصطدام معه على باب الحمام(التواليت) ولا يسمعون منه إلا السِباب والشتائم,ويرتعبون منه خوفا إذا إلتقوا به على باب المطبخ أو أمام الثلاجة,وكانوا إذا طلبوا منه أي شيء لا يسمعون منه إلا الشتائم والمسبات: مثل:يلعن أمكوا على أبوكوا يا كلاب يا أولاد الكلاب يا أولاد القحبه أو العاهرة أو الشرموطة,ودوما هذه الكلمات على البذيئة على لسانه وهو صاحي , حتى أنهم لا يجرؤون على طلب النقود منه,وهنا يجب أن نضع خطا تحت كلمة النقود, فأهم شيء في حياته النقود وهذه بالذات من المستحيل عليه أن يتنازل عنها بسهولة حتى لأولاده وللعاملين الذين يعملون معه في مصنعه الخاص بالرخام والحجارة,وكان رجلا موسر الحال(فوق الريح) ويملك الكثير من النقود والعقارات, ومع هذا كان على حسب ظني به في ذلك التاريخ قبل خمس عشر سنة رجلا بخيلا جدا يفوق في بخله الجاحظ أو ما خطر على بالك من رجال بخلاء ذكرهم لنا التاريخ في الكتب والقصص والنوادر.
ولكن لهذا الرجل مزاج آخر وطبع غريب قد نجد له مثيلا عند بعض الناس, وكان طبعه غريبا وهو(سكران),تنقلب شخصيته أكثر من 360ْ درجة..فحين كان يشرب الخمر, يتحول فورا إلى إنسان آخر غير الإنسان الذي تحدثنا عنه في البداية, حتى أنك من المستحيل عليك أن تتعرف عليه وهو سكران, حتى أنك تكاد أن تقول عنه(معقول هذا هو الإنسان اللي لقيته في الطريق قبل ساعة أو الذي تحدثت معه قبل أسبوع!!!) ,كان وهو صاحي عبارة عن شيطان بصورة بني آدم, كان وهو صاحي رجلا شريرا جدا لأبعد الحدود وعلى استعداد أن يقتل زوجته أو احد ابنائه إذا ما تجرئ أحدهم على طلب النقود منه , أما وهو سكران فإنه يبدو عليك بثوب آخر وبطبع ملائكي آخر وكل كلامه ناعمٌ وموزون…, حتى أنك من المستحيل عليك أن تصفه بوصف إنسان عادي, فحين تلقاه وهو سكران تظن بأنه شارب سيجارة حشيشة ولا تستطيع أن تقول عنه إلا ملاكا نزل عليك من السماء أو ملاكا نزلت معه الرحمة من السماء وذلك حين تصادفه في الطريق, أما وهو صاحي وغير سكران فمن المستحيل أن تصفه بوصف إنسان أو حتى حيوان, فحين تلقاه غير سكران لا تكاد أن تصفه بوصفٍ يليق به إلا أن تقول عنه وحش أو جبار أو معتوه.
وكان هو يعرف في نفسه هذا الطبع, وأولاده أيضا يعرفون فيه هذا الطبع, فكان إذا عاد ليلا من سهرته وهو سكران, يذهب الأولاد إلى بعضهم البعض بالأخبار السارة : تعالوا..تعالوا:بابا سكران, ويذهبون فرحين إلى المطبخ حيث أمهم تقف فيه دوما على جلاية أطباق الطعام قائلين لها: تعالي:بابا سكران ويستقبلونه أحر وأروع استقبال, وهم يقولون:سبحان مغير الأحوال مين يصدق أن هذا هو بابا!!!, وكانت زوجته تظهر عليها علامات الفرح إذ دخل عليها البيت وهو سكران ولا يناديها إلا بالكلام الناعم ولا يقول لها إلا:تعالي يا ست الحسن والدلال,روحي يا ست الحسن والدلال, أما وهو صاحي فقد كانت تهرب منه ومن لسانه البذيء وليس في نفسها رغبة بلقائه ولا يناديها إلا بكلمة:يا حيوانه يا بنت الحيوانه..يا بقره يا عكروته يا وضيعه يا سافلة يا عاهرة يا بنت العاهرة, أما وهو سكران(فتعال وشوف) رجل ليس ككل الرجال, كريم,خلوق,نظيف الثياب, شهم, عفيف, هادئ, متواضع, بشوش, أما وهو صاحي فقد تكون صفاته: وحش, قذر, حقير, بخيل, نجس, قبيح, متجهم الوجه,فحين يدخل البيت وهو سكران, يجتمع كل أولاده من حوله, ويضمهم إلى جناحيه, وكان يناديهم قائلا لهم: تعالوا يا أطفالي, تعالوا يا كتاكيت تعالوا يا حلوين,تعالوا الله يسعدكوا ويسعد أمكوا اللي خلفتكوا, تعالوا يا أحبابي, أطلبوا مني أي شيء قبل أن أصحو من سكرتي,وكانت تعتلي في البيت أصوات الضحكات العالية,والفرح يعم المكان, ويتحول البيت إلى جنة من جنان الفردوس المفقود,وكان يقول: إذا صحوت لن أعطيكم أي شيء, وكانوا يعرفون فيه هذه الخصال, فيجلسون أمامه ويطلبون طلباتهم, نقود,هدايا, ألعاب, فساتين, رِحل, ملابس,إكراميات,موبايلات…إلخ,وكان يدغدغ زوجته ببعض الكلمات الرومانسية ويطلب منها أن تسامحه على الألفاظ البذيئة التي كان يتلفظ أو يصفها فيها وهو صاحي, حتى أنها كانت تذكره بما قاله عنها ليلة الأمس فينكر ذلك ويقول: يمكن إني كنت سكران! فتقول: سبحان الله إنت الآن سكران وبتحكي معي كلام لطيف,روح شوف حالك وانت صاحي, فينكر ذلك كله ويستغربه ويستهجنه, وكان يطلب منها المغفرة ويعتبر نفسه وهو غير سكران عبارة عن إنسان مجنون وأحيانا يقول: أصلا وأنا شارب خمر أكون إنسانا صاحي العقل, أما وأنا غير شارب للخمور فأكون إنسانا فاقدا للعقل , وكان يلح عليها بأن تطلب منه وتتمنى أي شيء تريده,ملابس جديدة,تجديد طلاء المنزل,الذهاب في فسحة أو تناول العشاء في مطعم فاخر خارج البيت..أثاث جديد,…إلخ,أما وهو صاحي وغير سكران فكانت على طول الخط لا تسمع منه إلا مسبة أبوها وأبو أبوها وأمها وأم أمها,وتوجيه السباب والشتائم لكل أخوتها وأقاربها.
وفي العمل كان إذا دخل موقع العمل تهرب كل العمال والشغيلة من وجهه خوفا منه ومن لسانه القبيح,وكان لا يحبون تواجده معهم في المعمل, أما إذا جاء صدفة وهو سكران فورا يلتم كل العمال والشغيلة من حوله, فيعطيهم من عطاياه ويجزل لهم في العطاء ويزيد من إكرامياتهم ويعطيهم حقهم بالزائد وليس بالناقص.
كنت أستغرب من هذا الإنسان في ذلك التاريخ, طبعا أنا في الوقت الحالي لا أعرف عنه أي شيء, وكل ما كنت أعرفه عنه أنه وهو سكران كريم وبشوش الوجه ويطرح السلام على كل الناس أما وهو صاحي فكان نكدا جدا ومكتئبا جدا وحاد الطباع , ويقود سيارته بسرعة زائدة ويتجاوز عن هذا وعن ذاك, أما وهو سكران فكان يسوق سيارته بكل هدوء وبرودة أعصاب,ما الفرق بين رجل يدخل بيته فيهرب من وجهه كل أولاده وزوجه وبين رجلٍ حين يدخل المنزل يلتف حوله كل أفراد عائلته؟,رجل وهو صاحي يكره الموسيقى ويغلق التلفاز ويأمر أولاده بالنوم أو لنقل أنهم يتظاهرون بالنوم أمامه في بعض الأحيان وهو يدخل البيت صاحي وغير سكران, ينتقد وهو صاحي غير سكران كل شيئ في المنزل ولا يطيق أي شيء, ويفرض الرقابة على ملابس البنات وملابس زوجه المصون,أما وهو سكرا لا يقول لهم إلا:خذوا راحتكوا.
فعلا قليل من الخمر ينعش القلوب.