قطتي البيضاء

قبل شهرين سمعت خلف نافذة غرفة نومي مواءً فيه الكثير من الألم,وجلبة وكثير من الضجيج, فعلمت أن هذا الصوت لقطتي white catالبيضاء التي تظهر معي في كثير من الصور وتحضر معي على مائدة الطعام وتنام بجانبي وأحيانا في داخل مكتبتي , وتأتي في الليل لتنام تحت أقدامي عامدا متعمدا وإذا أرادت أن تتبول تحك أظافر يديها بالفراش وبالسجادة وبوسادة نومي فأعلم ما تريد فأنهض من نومي وأفتح لها باب الدار فتخرج لبرهة ثم تعود,وأحيانا أغلق الباب خلفها وتبقى على الباب إلى حين يفتح أحد أفراد العائلة الباب للخروج,فتدخل البيت دون سلام ولا كلام,وتأخذ مكانها الطبيعي بيننا, المهم أن صوتها كان قويا فخرجت خلف الدار ووجدتها تحاول إخراج ما في بطنها من قطط, بعد فترة حمل استمرت لعدة أسابيع, وكان القط الأسود الملعون بجوارها ويحاول العبث معها وأنا أعلم مقدار كرهها للقط الأسود ونحن أيضا كرهنا هذا القط الذي يتدخل بحياتها كثيرا فطردته من جانبها وانتظرت أن تلد ولكن بدون فائدة,أمرت أولادي أن يبقوا في حراستها ريثما أعود من السوق, وذهبت مسرعا إلى محفظتي وبحثت فيها عن نقود فوجدتها تحتوي على عشرة دنانير فقط لا غير وهن لا يكفن أولادي ولا المطبخ ليومين أو ثلاثة, فخرجت من منزلي وذهبت إلى دوار البلدة الكبير الذي يسرح فيه الخيّال من كثرة اتساعه وهنالك عثرت على مكتب طبيب بيطري, دخلت عليه وأنفاسي مقطوعة من شدة الخوف على القطة وشرحت له الوضع,وقال إن كنت تريد مني أن أساعدك فأنا لا أخرج من عيادتي إلا بعشرين دينارا, فرجوته وفاوضته على العشرة دنانير ووعدته بالباقي في آخر الشهر, فصار يشكو لي سوء الحال والبطالة وقلة العمل,وخروجه من العيادة مكلف,حسب لي أجرة البنزين وغلاء المعيشة وارتفاع أسعار المحروقات ودخلنا في السياسة ونسينا موضوع القطة,فقاطعته قائلا:خلص اللي بدك إياه بصير بس أرجوك بسرعة , وافق الطبيب وحمل حقيبته وحضر إلى منزلي, كانت ولادتها عسيرة جدا جدا ونزيف الدم مستمر بشراهة , أنجبت القطة أربع قطط بيضاء ومن بينهن قطة واحدة لونها أبيض وأسود, اهتممت بقطتي المسكينة ووضعت أبناءها خلف الدار في كرتونة صغيرة, ولكن القط الأسود كان بكل لحظة يضايقها ويزعجها , وكانت في فترة غيابنا تقاتله بشراهة لم أكن أتوقعها منها ذلك أن قطتي مسكينة وليست من المقاتلات الأشاوس وهي ضعيفة الخبرة في الصيد ومسالمة جدا, تمر من بين أقدامها الجرذان والفئران ولا تلتفت لأي أحد منهم, إنها حنونة وتكره العنف, وصرفت القط الأسود عنها أكثر من مرة وهددته بالقتل ولكنه كان يصر على مضايقتها, عندها لم أجد حلا إلا بوضع الطعام له كما أضعه لقطتي البيضاء, فبدل أن أقاتله فكرت بوضع الطعام له لكي أصرف نظره عن صغار الأم المسالمة , ولكن اللعين يأكل حصته من الطعام وحصتها ومع ذلك يحاول سرقة أبنائها, عند ذلك فاوضت زوجتي على أن نضع القطة وأبنائها في غرفة نومي حتى تنتهي فترة الحضانة, وافقت زوجتي ومن ثم وافقت أمي على مضض لأنها تكره رؤية القطط. كانت القطة تُرضع صغارها وتخرج في منتصف الليل لتسرح في الحارة وكأنها صيادة ليلية وتعود يوميا في تمام الساعة السادسة صباحا وأحيانا في السابعة وهي تتضور من شدة الجوع,فأقول لها مازحا:طول الليل وانت دايره يا هامله وجايه جيعانه؟ليش ما بتصطاديش مثل باقي القطط,أنت كسولة وخجولة مثل التماسيح, وأضع أمامها الطعام فتأكل ومن ثم تُرضع الصغار وتنام نوما عميقا,والقط الأسود على النافذة كل يوم يسترق النظر إليها, وحين غاب عن الساحة ظننا بأن اللعين قد نسي الموضوع,فقررنا إخراجها من غرفة نومي.

عاشت القطة فترة الحضانة في غرفة نومي أكثر من شهرين بعد ذلك أخرجناها من غرفة النوم ووضعناها في غرفة بيت الدرج, ووضعنا أبناءها في كرتونة كبيرة, كانت على فترات ترضعهن وتخرج ليلا وتتركهن ,والقط الأسود غائب ولم يعد له وجود, فرحنا كثيرا وطمئنينا على حياة القطط الأربع, واستمرت القطط تلعب تارة على عجلات بسكليت ولدي علي وساعة على فرن الغاز وساعة على الدرج تطلع وتنزل وتقفز,كنا نراقبهن بشغف حتى أصبحت القطط الصغيرة مثل أمهن جزء من حياتنا, وذات يوم من الأيام خرجت من المنزل للذهاب إلى العمل, وجدت القطة في تمام الساعة السابعة على باب الدار تقفز وتماوي مواء شديدا, تركض حول أقدامي وتعبر من بينهن بطريقة ملفتة للنظر حتى أنني لم استطع العبور من باب الدار, فناديت زوجتي وقلت لها: عزيزتي, منشان الله تطعمي القطة, يبدو أنها جائعة, وخرجت من المنزل إلى باب الحارة وتبعتني وهي تماوي, ركبت في الباص وهي تركض وترفرف حولي وكأنها طائر,وأنا من شدة غبائي أقول لها:روحي أكلي,هسع جاي,مش راح أتأخر.

في تمام الساعة الحادية عشر رن موبايلي وأنا في العمل وتنكة الباطون على كتفي, كان المتصل زوجتي, تتحدث معي وهي تبكي, أنزلت تنكة الباطون عن كتفي وحاولت أن أفهم سر بكاءها, لكنها كانت تتحدث كثيرا دون أن أفهم منها كلمة واحدة غير كلمة,القطة…القط الأسود.., رجوتها أن تهدي من أعصابها ولكنها استمرت في البكاء, ظننتُ أن أباها قد مات أو أخاها أو أمي لأنها مريضة جدا, احترت جدا ولم أستطع أن افهم كلمة واحدة منها على الموبايل, ثم غضبت وأقفلت الخط, وحضرت إلى المنزل على جناح السرعة, كان أولادي كلهم متجمعون في بيت الدرج حيث تسكن القطة وأبنائها, ركضت بتول إلي وهي تقول:القط الأسود قتل أولاد القطة وأكل نص(نصف) واحد, جن جنوني, لم أصدق, لم أستطع تمالك نفسي, لم أستطع الوقوف على قدمي, استحلفت الجميع بالله وبالعذرى, وزوجتي صامتة والدموع تملئ مقلتيها, أولادي كذلك مثلي ومثل أمهم, علي صامت, وبرديس حائرة, ولميس تبكي, والكل أغرورقت أعينهم بالدموع وخصوصا حينما رأوني, حاولت أن أتمالك أعصابي وأهدئ على زوجتي ولكن أنا الآخر بدأت بالبكاء, وبعد أن حملت القطة الأم بين ذراعي وجدتها تنظر لي بشغف, قلت لها: ماذا حدث؟أين كنت يا(هاملة)؟ لماذا تركتيهم للقط الأسود اللعين؟؟؟, ألا لعنة الله على كل قط أسود, سألت أولادي عن القط وأين هو وأين شاهدوه؟, قالت لميس: آخر مرة شفته فيها كان بفمه القط الملون باللون الأبيض والأسود, صرخت من حرارة الروح وأقسمت على الانتقام, خرجت في عملية تمشيط عن القط الأسود في كل مكان, لاحقته بالحفايات وبالشباشب وبالكنادر وبدلاء الماء وبالتنك وكله أضربه فيها والملعون يفر ولا يتأثر بالضربات, يوما كاملا من البحث عنه, وكلما قالوا لي بأنه هنا أو هناك, أخرج إليه لأقتله, حاولت أن أطلق عليه النار, استعرت سلاحا ناريا من جاري وحين عثرت عليه وصوبت السلاح على رأسه لم أستطع أن أطلق عليه طلقة واحدة, جثوت على ركبتي وشعرت بالتعب الشديد وانهمرت بالبكاء وأولاد الحارة كلهم يصرخون بي:أقتله,يلعن أخته, أقتله كما قتل القطط, وضعت السلاح جانبا حتى جاء صاحب السلاح وأراد التصويب عليه ولكن القط اللعين هرب منه, فقال صاحب السلاح:ليش يا رجل ما قتلته؟فقلت له:أنا لا أستطيع أن أقتل نملة,أنا جبان, أنا خجول,أنا لا أدري ربما إذا قتلته سيدينني الرب يوم القيامة يوم الدينونة, كلنا يا جاري قتلة,أنت لديك محل دواجن وكل يوم تقتل أكثر من 100روح,لماذا لا نحاسبك على جريمتك, أنا أيضا قاتل,أنا أأكل الدجاج ولحوم الأبقار والخرفان,أنا مشتت فكريا وعاطفيا, بكيت مرة أخرى حزنا على أولاد القطة, والقطة البيضاء كانت بجانبي تشاهد كل ما جرى.

استمرت القطة مدة أسبوع كامل وهي تدخل الكرتونة في بيت الدرج وتخرج منها مثل المجنونة دون أن تشاهد أبنائها, في كل مكان وضعنا فيه أولاده تزوره وتماوي عليهن بصوت عالي,يا لها من مسكينة,إنها منهاره عصبيا,أنا حزين بشأن القطة وأشعر بالذنب لأني أخرجتهن من غرفة نومي مبكرا,كان عليّ أن أنتظر شهرين إضافيين ريثما يشتد عود القطط الصغيرة, الله يرحمهن جميعا.

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.