قضايا الحسبة والإرهاب

نوال السعداوي
وأنا طفلة كنت أرى وجه الله فى أحلامى كوجه أمى شديد العدل، وكوجه أبى شديد الرحمة لكن زميلتى فاطمة أحمد فى المدرسة كانت ترى وجه الله فى أحلامها كوجه أبيها شديد القسوة وكوجه عمها شديد الظلم، واكتشفت وأنا طفلة إن وجه الله يتراءى لزملائى وزميلاتى كوجه الأب أساسا، وكوجه الأم أحيانا، والمشكلة أن الله لا يرى بعين الأطفال ولا الكبار وما من وسيلة لرؤيته إلا فى النوم، وبالوجوه التى نراها لأقرب الناس لنا.

كانت هذه السطور(فى إحدى رواياتي) سببا لتقديمى للمحاكمة تعرضت لسبع قضايا حسبة بسبب أعمالى الأدبية الخيالية آخرها القضية لسحب الجنسية المصرية منى قرأت عنها وأنا بمؤتمر بالخارج فأمضيت ثلاث سنوات متصلة بعيدا عن بيتى وأسرتى ثم عدت للوطن بعد أن نلت البراءة بسبب الأستاذ “خالد علي” الذى تدخل فى القضية متضامنا متطوعا، وقدم للمحكمة مذكرته الهامة دفاعا عن حرية الرأي، ومنها هذه الفقرة: “فإذا كان من حق الطاعن إسقاط الجنسية المصرية عن مواطنة مصرية لاختلافه فى الرأى معها فإنه من حق الخصم المتدخل أن يرفض هذا الإجراء، ويدافع عن حق المطعون ضدها فى التمتع بجنسيتها ليس لأنه يتفق مع أفكارها فحسب، ولكنه يعتبرها من أهم مفكرى مصر القادرين على إثارة نقاش وجدل حول حقوق وحريات أبناء هذا الوطن، ويرى أن الدفاع عن حرية نوال السعداوى فى طرح أفكارها دون ملاحقتها بالعقاب هو أول الطريق للدفاع عن حقوقه وحرياته ، فنحن لسنا فى حاجة لحماية الآراء التى نتفق عليها فقط، ولكننا فى أمس الحاجة لحماية الأفكار التى نختلف عليها أيضا فبدونها يفقد الاتفاق معناه.

كما أن التاريخ أنبأنا بأن الفكرة التى نتفق عليها اليوم قد نختلف عليها غدا كما أن الأفكار التى تبدو غريبة على تقاليد مجتمع ما اليوم من الممكن أن تصبح هى الأفكار السائدة فى نفس المجتمع يوما ما، إن حرية الرأى والتعبير هى إحدى أهم الحريات والحقوق، وبدونها نفقد قدرتنا على نقد أنفسنا ونقد الآخرين أو تطوير المجتمع وتحديثه فهى إحدى الحريات التى يتمتع بها الإنسان لكونه إنسانا كما أن المتدخل هو مواطن مصرى يحمل هموم بلاده وينادى بالإصلاح، ولا إصلاح بدون الاعتراف بحق المواطن فى التعبير عن ذاته حتى ولو كان رأيه مخالفا للرأى السائد فى المجتمع أو مثيرا للجدل والنقاش”.

ومنذ شهرين تطوع الاستاذ “أحمد مقلد” لتقديم بلاغ للنائب العام ضد الأشخاص الذين أهدروا دمى وحرضوا على قتلى بسبب ندوة علمية تحدثت فيها كطبيبة عن مخاطر عمليات الختان، ومن مذكرته للنائب العام هذه الفقرة “إننا نلجأ للقانون الذى نحترمه رغم أن من أجرموا فى حقنا يشيعون أنهم على علاقة وطيدة بالسلطة وأن أحدا لن يمسهم كما أن أحدهم لديه حصانة برلمانية شرعت فى الأساس كى تحمى حقوق الشعب فأساء استخدامها، وتمترس خلفها سامحا لنفسه ولبرنامجه التليفزيونى أن يكون منبرا لنشر الكره والحقد والسب والقذف بل والتهديد بالقتل، والإيذاء البدنى ونرجو اتخاذ اللازم ضد المبلغ عنهم لا سيما وأن جرائمهم اتسمت بالعلنية كونها كانت فى قناة فضائية أى فى وسيلة مرئية ومسموعة يشاهدها الآلاف من الناس” وقد تطوع عدد من المحامين للدفاع عنى فى قضايا الحسبة السابقة منهم الأساتذة عادل أمين ونبيل الهلالى ونجاد البرعى وحمدى الأسيوطي.

وكلها حول أسئلة الأطفال المثيرة للجدل والنقاش، وهى دليل الذكاء الفطرى الذى يتم تدميره بسبب الإرهاب العقلى بالبيوت والمدارس يرضع الأطفال العنف من أول تجربة مؤلمة للتفرقة يتربى الولد على السيطرة على أخته، واحترام أبيه أكثر من أمه، وفى المدرسة يتعرض الأطفال للإهانة والظلم بسبب الفقر أو الدين أو الجنس، وكنت أقاوم الظلم بالتمرد على المدرسين، وأحلم بالليل أنى حرقتهم كما يحرق الله الظالمين، وكان يمكن أن أصبح إرهابية وأحرق المدرسة بالنار لولا أمى قالت لى: ما فيش نار يا نوال لا يمكن ربنا يحرق الناس أكتبى ودافعى عن العدل بدلا من حرق المدرسة هكذا حولت طاقة الغضب منذ طفولتى الى طاقة للكتابة والدفاع عن العدل.

لو أردتم القضاء على الإرهاب من جذوره فاقضوا على جميع أنواع التفرقة بين الأطفال، وبدلا من حصص الأديان وتحفيظ الآيات علموا الجدل والعدل للأطفال، وللكبار أيضا.

مواضيع ذات صلة: ننشر مقال د. نوال السعداوي الممنوع من النشر في الأهرام: أتكون الطفلة ملحدة؟

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.