مقدمة :
يُخامرني إحساس بالغبطة ,يتملّكني شعور بالسعادة ,يلبسني ثوب الفرح ونشوة النصر ..كلّما أحرزَ العلِمُ إنتصاراً بائناً على تُجّار الدين وفضحَ طرقهم الخسيسة وأفكارهم الظلاميّة .
وهذا الكتاب يُعّد نصراً فكريّاً معرفيّاً مُتميّزاً الى حدٍ بعيد !
لا أعدكم بأنّي سأقوى على تلخيصهِ كاملاً ,إذ غالبيته ممّا لايمكن تلخيصه أو إجتزائهِ .ما أقوم به ليس سوى تشجيعكم على قراءة هذا الكتاب الرائع !
صاحب الكتاب هو عالم الفيزياء الأمريكي ( روبرت لي پارك )
Robert Lee Park
ولد عام 1931 في مدينة كنساس من ولاية ميزوري الأمريكية .
يقول مايلي :
[العلمُ سبيلنا الوحيد للمعرفة ,وكلّ ما سواه مَحض خرافة] !
بينما مُترجم هذا الكتاب هو السيّد (حيدر السعدي) ,الذي يقول في آخر مقدمته ما يلي :
[ختاماً لا يسعني إلاّ الطلب منكم ,أن تُرسلوا الرابط الذي ستحمّلون منه هذا الكتاب الى بعضِ أو جميع أصدقائكم .فليس في الكتاب إلاّ معرفة مُقدّمة بإسلوب نقدي شيّق .من حقّ المعرفة أن تنتشر ,بل بالنشر تزهو ويظهر نورها ونفعها] !
و أنا (مُوجِزْ هذا الكتاب) بدوري أدعوكم أحبتي الى شرح ماتفهمونه من هذا الموجَز لأبنائكم وأحبتكم وأصدقائكم ,كلّما إستطعتم الى ذلك سبيلا !
ربّما قدركم التنوير ,الذي بدونهِ لن تقوم لنا قائمة مع تُجّار الدين والساسة الفاسدين ,الذين ملئوا الدُنيا هُراءً وعبثاً وتفاهات وسخافات من أفكارهم الظلاميّة !
ملاحظة هامة : كما نوّهت أعلاه ,فالإختصار في بعض فصول هذا الكتاب مُتعب ,خصوصاً القصص الشيّقة (وهي حقيقيّة) التي
يسردها المؤلف لتكون خلفيّة لحواره العلمي لاحقاً .لذا أنا مُضطّر الى نقل مقاطع كاملة لإيصال الفكرة والإبتعاد عن تشويه المعنى !
***
مقدمة المؤلف : دروس من شجرة !
مَضتْ سنة مذُ سقطتْ شجرة بلوط حمراء ضخمة قطرها ثلاثة أقدام .
إنقلعتْ جذورها من الأرض الليّنة على المُنحَدَر الشاهق للوادي الضيّق .
بعد إسبوع من المطر الشديد سَقطت على الأرض بعنفٍ بحيث إنقصمَ جُذعها الثقيل لنصفين .ولايزال القسم المكسور من الجذع يشير الى أسفلِ المُنحدر ,واصلاً لحافة الطريق تقريباً .
أمّا الجزء الباقي فكان قد قُطّعَ وسُحِبَ بعيداً لإخلاء الطريق .
كنتُ أتخيّل أنّ رؤيتي الشجرة سوف تستدعي ذكرى ما عن ذلك اليوم .
لكن لم يكن ثمّة شيء .كانت مجرّد شجرة ساقطة ككُل الأشجار الساقطة الأخرى التي تتعفّن ببطء على أرضِ الغابة !
كان الأطبّاء قد أعطوني الضوءَ الأخضر لمُمارسة الهرولة .لكنّها بدت أصعب من آلة الجري في مركز التأهيل الوطني .
كنتُ لا أزال ألهثُ حين مرّ رجلانِ مُسنّانِ أسفلَ الطريق .عندما وجدوني أنظر للشجرة الساقطة , توّقفا !
(هل تدري أنّ هذه الشجرة سقطت على رجل ؟) .. قال أحدهم !
أجل قلتُ لهما ,فقد كنتُ ذلك الرجل .. بديا مبهورين !
لم نعرف يومَها ما الذي حصلَ لك .. قال الآخر بصوت منكسر وعينين تملئها الدموع ,وأضاف : من يومها كنّتُ اُصلّي لأجلك كلّ ليلة !
كان ذلك هو اللقاء الأوّل مع أيّ أحدٍ كان شاهداً على ماحصلَ ذلك اليوم .
(ديفيد أوكونر) و (شون مكارتي) ,هما قسيسان كاثوليكيّان !
كمُدرّسَين سابقين في معهد لاهوت قريب كانا يلتقيان كلّ يوم تقريباً ,
ليقطعا هذا الطريق الهاديء الذي كان يوماً جدول طاحونة ,لغرض التمرّن وصحبة بعضهم .
قبلَ سنتين عصر يوم أحدٍ كانا في طريقهما حين سقطت الشجرة !
لم يكونا أوّل من وَجَدَني ,إنّما سَبقهم مهاجر سلفادوري غير مُسجّل ,وهو الذي إتصل برقم 911 بواسطة الموبايل .
غير عارفين بدرجة إصابتي ,كان الثلاثة خائفين من محاولة إخراجي .
مرّ آخرون بي ,توّقفوا ثمّ أسرعوا خشية التوّرط !
إتصل صاحب الموبايل ثانيةً برقم 911 ليرى سبب تأخرّهم .
سيارةُ الإسعافِ على مايبدو وصلت حدّ (طاحونة أدلفي الأثرية) فقط .
لكنّ الشجرة كانت تبعد نصفَ ميل أسفل الطريق .
حين لم يجدوا أحداً عند الطاحونة عادوا أدراجهم ,فربّما كان نداءً عابثاً !
وحين أتاهم النداء الثاني أسرعوا الى هناك ليبحثوا في الطريق أبعد ,سيراً على أقدامهم هذه المرّة .
لديّ ذكرى وحيدة مُجتزأة عن شخصٍ ما يكتب في دفتر ماراً بجانب الحمّالة حيث حملوني الى الطاحونة ,ثمّ سيارة الإسعاف المُنتظرة هناك
أعطيتهُ إسمي ورقم هاتف منزلي ,ثمّ غرقتُ من جديد في إغماءة .
قبلَ أن يصل فريق الإنقاذ ,(ديفيد أوكونَر و شون مكّارتي) فعلا مايمكن للقسيسَين أن يفعلاه ,قاما بالشعائر الكَنسيّة الأخيرة .
فقبل سنوات قليلة كانت الصلاة هي ما يمكن لأيّ أحد أن يفعلهُ !
حتى الموبايل الذي إستخدمه المُهاجر السلفادوري كان تقنية حديثة في ذلك الوقت !
التهديد الأكبر في حالتي بعد الحادث ,كان إلتهاباً شديداً من بكتريا التربة التي دخلت تجويف جَسدي عن طريق كسور مُركّبة عديدة .
وأخيراً إستجاب ذلك الإلتهاب لجُرَعْ كبيرة من مُضاد حيوي مُطوّر حديثاً تُحقَنْ يوميّاً الى الوريد الأجوف لقلبي ,عن طريق قسطرة اُدخِلَت في وريدِ ذراعي .وإستخدم مركز واشنطن الطبّي الوطني جهاز تصوير طبّي حديث لتسليك القسطرة طوال الطريق الى قلبي .
لم أكُن لأقصَّ هذه القصة دون التقدّمات الجديدة في الطبّ والتقنية !
واقفينَ هناك عند شجرة البلوط الساقطة ,تشاركنا ماعرفناهُ عن ذلك اليوم .
دعاني الراهبان لمشاركتهما فيما تبّقى من مسيرهم .
في الأشهر والسنوات اللاحقة كنتُ ألتقي مع (ديفيد و شون) مرّات قلائل كلّ إسبوع لأمشي معهم قرب ذلك الجدول في الغابة !
أنا عالمٌ ,وأستاذ فيزياء في جامعة عامة كبيرة .
وأنا أيضاً زوج ,جَدّ ,من مُحاربي الحرب الكورية ,ومُلحِدْ !
أنا الآن في أواخر سبعينيّاتي (مُمتنّاً لبقائي حيّاً) ,أجدُ نفسي اُنمّي صداقة مع قسيسَين كاثوليكيين إيرلنديين ــ أمريكيين .
عدا التعاطف مع الشأن الإنساني العام ,بدا أنّ لدينا أُموراً قليلة مُشتركة .
لقد إتبعنّا طُرقاً مُختلفة جدّاً ,وإنتهينا بإعتقادات مُختلفة جدّاً .ومنحتنا تلك الإعتقادات كثيراً ممّا نتحدثُ حولهُ .
إبتدأت مُحادثاتي مع رَجليّ الإيمان اللطيفين الحكيمين هذين .
عمليّة التفكير التي قادت في النهاية لهذا الكتاب !
تمشّى معنا خلال ذلك المَمر المُشجّر قرب جدول الطاحون ,لنتحدث حول الإيمان !
***
الفصل الأوّل / ص 11
جائزةٌ كبرى / حيث نكتشف فيه علماءَ مؤمنين !
تشارلز هارد تاونز (ولِدَ 1915) Charles Hard Townes
مُعلّم وعالم فيزيائي أمريكي حازَ جائزة نوبل للفيزياء عام 1964 .
إشتهر بإعماله في نظرية و تطبيقات المايزر ,لهُ بحوث رائدة في مجال الإلكترونيات الكموميّة المتعلقة بأجهزة الليزر والمايزر .
تشارلز تاونز ينحدر من عائلة متديّنة وينتمي الى كنيسة المسيح المُتحدة !
في طفولته لولعهِ الشديد بالفراشات تخيّل نفسه يصبح حشراتيّاً
Entomologist
ويجمع كلّ فراشات الأرض .
كان أبوه مُحاميّاً ,لكن عائلته عاشت في مزرعة قرب حدود (غرينفيل)
في ولاية كارولينا الجنوبيّة .حين كان يُتّم واجباته كان يتجوّل أحياناً في الغابات والحقول مع شبكة فراشات على كتفهِ .
مع ذلك عندما بلغ سنّ الجامعة قرّر تشارلز تاونز أنّ أخاه الأكبر هنري أفضل منهُ في مجال الحشرات ,وعليه فعل شيء آخر .
وبالفعل إستمّر هنري فأصبح حشراتيّاً معروفاً ,بينما إتجه تشارلز الى الفيزياء فأبدع فيها وإخترع المَيزر الذي قاد بدورهِ الى الليزر !
و رغم أنّهُ مايزال يجمع الفراشات للمُتعة ,فالأستاذ تاونز هو بالفعل أحد أكثر العلماء تقديراً في العالم .
لكنّهُ لم يصل اليوم (قصر باكنغهام) ليجمع الفراشات ,إنّما ليتلقى رسميّاً (جائزة تمبلتون) ,على يدِ دوق أدنبرة .
جائزة تمبلتون للتقدّم في البحوث أو الإكتشافات حول الحقائق الروحيّة
هي أكبر جائزة ماليّة سنويّة تُقدّم لشخص عن إنجاز فكري !
***
ص 12 / جائزة الحقائق الروحيّة !
وفقاً (لمؤسسة جون تيمبلتون),فإنّ كون قيمة تلك الجائزة تصل الى 1,5 مليون دولار (يُحرص دوماً على أن تفوق جائزة نوبل) ,يعكس قناعة صاحبها السير جون تيمبلتون ,بأنّ البحث الهادف عن الحقائق الروحيّة يمكن أن يأتي بمنافع للبشرية أكبر حتى من البحث الهادف للتقنيّة .كذلك يعكس قناعته بأنّ المال يجعل الأشياء تحصل !
وتيمبلتون هو في الواقع بليونير متواضع وِلِدّ في عائلة متوسطة في بلدة حزام إنجيلية تسمى وينشستر كنتاكي .
والداه مشيخيّان تقيّان عَززا فيه فضائل الإزدهار والتعاطف .
لقد تعلّم كلا الدَرسين جيّداً بحيث تخلّى عام 1968عن جنسيته الأمريكية إنتقلَ الى الباهاما ليصبح مواطناً بريطانيّاً متجنّباً ضريبة الدخل الأمريكية
منحتهُ الملكة لقب فارس عام 1987 لأعماله الخيريّة .لايزال (السير جون تيمبلتون) يُقيم في الباهاما ,وبالتأكيد لايدفع أيّ ضرائب أمريكية !
***
ص 13 / تقرير الأقليّة !
خريجاً من فورمان (وهي كليّة معمدانيّة محليّة) كان تشارلز تاونز منذُ البداية مُنجَذِباً الى العِلمِ .
لكن كون كميّة ونوعيّة العِلم المُقدّم في فورمان محدودة ,لذا فقد نالَ درجة في اللغات الحديثة ,ثمّ ذهبَ ال (ديوك) لماجستير في الفيزياء .
في ديوك اٌنتِبه الى قابليتهِ المُتميّزة في الفيزياء,فتّمَ تشجيعه على الذهاب الى (كالتيك) ليُكمل الدكتوراه .
في كالتيك تحمّل قدراً مُعيّناً من المُضايقة بسبب إعتقاداتهِ الدينيّة ,ليس من زملائه الطلّاب فحسب ,إنّما أيضاً من مُشرف إطروحتهِ وليم سميث .
في مقابلة مع (تيم رادفورد) من الغارديان بعد 65 عام ,تذّكر تاونز كيف كان اٌستاذه سميث يُعنّفهُ قائلاً : [ تشارلي لا تستطيع معرفة أنّ يسوع هو إبن الربّ ] .. إمتعضَ تاونز من ذلك ,ولا يزال !
بعد سنواتٍ قليلة وكان تاونز يقوم بالتدريس في جامعة كولومبيا الشهيرة إنضّمَ الى مجموعة الرجال في (كنيسة ريفرسايد) في نيويورك .
وبما أنّ قلّة من العلماء كانوا يحضرون الكنيسة ,فقد طُلِبَ منهُ أن يتحدّث للمجموعة عن آرائهِ .فعنون خطابه ب (تقارب العِلم والدين) .
إنتزع ذلك الخطاب إعجاب العديد من مُحرّري المجلات الذين أعادوا نشرهُ .لكنّ القرّاء العُلماء لم يُعجبوا به ,فحصلت شكاوي من علماء وخريجي
MIT
المرموقين !
بعد نصف قرن في تصريح لمؤتمر جائزة تيمبلتون الصحفي ,تذّكر تاونز تلك الخواطر قائلا :
[لقد عكستْ رؤية عامة من علماء ذلك الوقت ,أنّ أحداً لايُمكن أن يكون عالماً ومتديّناً في نفس الوقت .كانت هناك عَدائيّة في مناقشة الروحانيّة] !
وفعلاً لم تتراخَ هذه العدائية .فمعَ تصاعُد الإرهاب المُثار دينيّاً والأصوليّة الدينيّة (الضدّ ـ علميّة) حول ّالعالم ,تقوّت العدائية تجاه الدين بين العُلماء الى درجة المواجهة المباشرة .
ففي عام 2006 كان هناك على الأقلّ عنوان (ضدّ ـ ديني) بقلم عالِم مرموق في عمود نيويورك تايمز لأعلى المبيعات غير الخياليّة ,كلّ إسبوع !
***
ص 14 / تقارب العلم والدين !
القُضاة الذين مَنحوا جائزة تيمبلتون ل (تاونز) ,أشاروا في تقريرهم الى تقارب العلم والدين بالقول نصّاً :
[فَهمْ النظام في الكون وفهم الهدف منهُ ليسا مُتطابقين ,لكنّهما أيضاً ليسا على بُعدٍ شديد !]
هذا كلام عاطفي لايعتمد المنطق .في الواقع المفهومين متباعدين جداً ,بل على بُعد كونٍ كامل من بعضهما !
فالدين والعِلم على مسارات متباعدة تتباعد أكثر فأكثر مع توّسع المعرفة.
ومعظم العُلماء المُتدينين يُقسّمون حياتهم مُعتمدين على الدليل العلمي في قسمٍ منها وعلى الوحي في القسم الآخر .ويبدو (تاونز) مُقسّماً حياته بنفس الطريقة ,لكن دون ان ينتبه كثيراً لكونه يفعل ذلك .
على جانب العِلم يُطبّق تاونز المنطق والرُشد
Reason
الى حدٍ كبير .
لكن على جانب الدين بما أنّ النصّ المُقدّس يقدّم الأجوبة ,فهو ينتهي برّد تعريف الكلمات ليجعل تلك الرؤيتين للكون تبدوان مُتقاربتين .
***
ص 15/ الفرق في معنى الإيمان !
العلماء الحقيقيين يستخدمون كلمة الإيمان
faith
للتعبير عن ثقتهم بأنّ قوانين الطبيعة ستدوم بدءً بقانون السبب والنتيجة .أمّا الإستخدام الديني ل (إيمان) فيتضمّن الإعتقاد بقوّة عُليّا تجعل الأشياء تحصل دون الإعتماد على سبب مادي ,وهذا هو بالضبط تعريف الخرافة
Superstition
لذا فالمعنيان ليسا مختلفين فحسب ,إنّما ضدّين تماماً !
كثيراً من العمل العلمي يتكون من تحسين طرق الملاحظة لتجنّب الإنخداع ,بما في ذلك خداع الذات ,فالطبيعة هي الحَكَم الوحيد !
على العكس من ذلك ,نجد الدين يدعو المؤمنين به لإنكار أدّلة حواسهم إنْ هي تناقضتْ مع النصّ المُقدّس !
يصعب تصوّر أنّ شخصاً حَذِراً مثل (جارلس هارلد تاونز) قد خلطَ بين معنيي الإيمان مراراً وتكراراً ,دون الرجوع لقاموس !
رغم ذلك (فالعالِم) في تاونز واضح بلا شكّ .فهو يضع نظرية داروين في الإنتخاب الطبيعي فوق قصّة التكوين كشرحٍ لأصل البشر .
وفيما يَعّد (تاونز) نفسهُ مَعمدانيّاً يُصلّي مرتين يوميّاً ويذهب للكنيسة كلّ يوم أحد ,فهو (كعالِم) يقول أنّ مؤلفي الكتاب المُقدّس قد لايكونوا مُدركين للنتائج العلميّة لكلماتهم .
ولكي يجعل الكتاب المُقدّس متوافقاً مع إستنتاجاتهِ العلميّة ,يُفسّرهُ مجازيّاً كما يفعل كلّ العلماء المُتدينيين !
مع ذلك فالمعمدانيّون الجنوبيّون الذين هم ليسوا علماء ,ينساقون لتفسير الكتاب المُقدّس بحرفية شديدة !
***
ص 16/ المتدينيين يحصلون على جائزة تيمبلتون !
لم يكُن تاونز هو الفيزيائي الوحيد الذي تلّقى جائزة تيمبلتون .فقبل عام 2001 كان إسم الجائزة ببساطة هو (جائزة تيمبلتون للتقدّم في الدين) !
كان الفائزون مَشاهير مُنتقين من العالَم الديني بدءً بالأُم تيريزا 1973
وكالمتوَقّع كان المُبشّر (بيلي غراهام) فائزاً مُتلقيّاً الجائزة عام 1982
حتى (جارلس كولسون) الذي جاءت شهرته نتيجة إدانتهِ في فضيحة ووترغيت تلّقى الجائزة عام 1993 كمؤسّس إرساليّة سجنيّة سُميّت “صُحبة السجن” .
أمّا أوّل فيزيائي حقيقي يربح الجائزة فكان (بول ديفيز) عام 1995 .
وهو عالِم إسترالي معروف بتبسيطاته العلميّة التي تضّم :
(عقل الإله ,الأساس العلمي لعالَم عقلاني) عام 1992
كان تفكير تيمبلتون يبدو في تقدّم .فقد ذهبت الجائزة الى فيزيائي آخر هو (إيان باربور) عام 1999 .وبعد سنتين تغيّر إسم الجائزة الى :
(جائزة تيمبلتون للتقدّم في البحوث أو الإكتشافات حول الحقائق الروحيّة) إنّما مُعظم المُتلقين للجائزة منذئذٍ أصبحوا ,كما عبّر د. ريتشارد داوكنز بمرارة في كتابهِ (وهم الإله) ..علماء يقولون أشياء حسنة عن الدين !
ومعظمهم كانوا فيزيائيين أو كونياتيين
Cosmologists !
***
ص 17 / شراء الحوار !
نال (إيان باربور) شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو .
كان مُساعداً تدريسيّاً ل (أنريكو فيرمي) ,ذلك الفيزيائي الإيطالي الكبير الذي فرّ من إيطاليا الفاشية مع زوجته اليهوديّة مع بدء الحرب العالميّة الثانية .ثمّ نفّذّ لاحقاً أوّل تفاعل ذرّي تسلسلي أسفل ملعب جامعة شيكاغو
ضامنّاً بذلك التفاعل أنّ الولايات المُتحدّة ( لا ألمانيا النازيّة ) هي مَنْ سيبني القنبلة الذريّة أولاً !
في عام 1949 أكملّ (إيان باربور) دراسته وبدا هادفاً لسيرته العلمية كأحد قادة الفيزياء في أمريكا ,بجانب علماء آخرين في مشروع مانهاتن .
لكن في السنتين اللاحقتين تغيّر سلوكهِ فسجّل في كلية لاهوت ييل ,وحاز على درجة في اللاهوت عام 1956 وأصبح اُستاذاً في الفيزياء والدين معاً في كلية كارلتون في مينيسوتا ,ونالَ تقديراً جيّداً في كلا المجالين .
ومثل كلّ العلماء المُتدينين يرفض (باربور) ببساطة التفسير الحَرفي لقصّة الخَلق التوراتيّة مِنْ الخَلقيين ,فهو يراها مجازيّة بوضوح .
ويُنسب إليه أنّهُ خلقَ الحوار المُعاصر بين العِلم والدين !
كانت أهميّة حوار (باربور) قد لوحظتْ من السير (جون تيمبلتون) !
ففي حين يعتقد تيمبلتون بإخلاص بالإسطورة المسيحيّة ,إلاّ أنّهُ يُقدّر العِلم أيضاً . ولِمَ لا ؟ فالثورة العِلميّة بعد كلّ هذا قادت الى نموٍّ رهيب في الإقتصاد العالمي جعلّ منهُ بليونيراً .
ربّما يعتقد (تيمبلتون) أنّ الله قد إختارهُ ليُري العالم أنّ (اللاهوت والعِلم)
هما نافذتان الى نفسِ المنظر !
كما يعتقد أنّ العُلماء لو إقتنعوا بالولوج الى الدين فسيعود ذلك بالنفعِ على العلِم والدين معاً .كيف إذن يستطيع إقناع العُلماء بذلك ؟
لماذا لا يشتري الحوار بين الدين والعِلم فحسب ؟ ما فائدة الثراء إن لم يفعل ما يعتقدهُ ؟على كلٍ كان شراء الحوار أسهل ممّا يمكن تصوّرهِ .
فالماكينة كانت موجودة أصلاً ,(مؤسسة جون تيمبلتون) !
كانت هذه قد اُسّست عام 1987 لتعمل كمُحفّز للدراسات العلمية في الأسئلة الكُبرى .أسئلة حول أشياء كطبيعة الوعي وأصل الحياة .
تُقدّم المؤسسة اليوم حوالي 60 مليون دولار كمُنَح بحثيّة كلّ عام .
ويشعر المتلّقون لتلك المُنَح برغبة في التعبير عن إمتنانهم عن طريق إبتداع نوع من الأرضية المُشتركة بين العلمِ والدين ,لتقويّة إسطورة التقارب بينهما !
***
ص 18 / الجائزة تذهب في النهاية للمتديّن !
كانت الحركة الكُبرى لمؤسسة جون تيمبلتون هي الذهاب مُباشرةً الى (هيئة الإدارة في الجمعيّة الأمريكيّة لتقدّم العلوم) AAAS
مع عرض مليون دولار لإنشاء حوار بين العِلم والدين .
لكن السؤال هنا :ألم تستطع
AAAS
المقاومة ؟
في الواقع لايزال مليون دولار يبدو مالاً كثيراً لدى العُلماء !
وبالفعل كلّما كان هناك حواراً بين العِلمِ والدين ,كان مؤكدّاً أنّ جماعة تيمبلتون يمدّون أيديهم هناك بالمال !
إنّ ما تمّ شرائه هو مُؤثرات صوتيّة إحترافيّة يُقصَد بها خلق وَهمْ مفادهُ أنّ العلم والدين يجدان أرضية مُشتركة .وعلى كلٍّ فهو وهم قد تحطّمَ لاحقاً بفعل أصوات الإنفجارات المكتومة كلّما فجّرَ مُتعصّبون دينيّون (وغرباء آخرين) أنفسهم ,بهدف إستبدال الحضارة بالحُكم الإسلامي !
ربّما كان أشّد الحوارات طموحاً الذي أجرته هيئة
AAAS
و رَعتهُ مؤسسة (تيمبلتون) ,هو ذلك النقاش الذي دار في مايو عام 1999 عن (الأسئلة الكونيّة) ,بين عالِمَين .
الأوّل : هو السير جون بولكنغهورن (وهو فيزيائي قدّم مساهمات ملحوظة في إكتشاف الكوارك ,ثمّ إستقال عام 1981 من اُستاذيته في جامعة كامبيردج ,ليصبح قسيساً إنجليكانيّاً في نهاية المطاف) .
الثاني : هو ستيفن واينبيرغ (فيزيائي ساهم في نظرية الجُسيمات وحاز جائزة نوبل عام 1979 عن توحيد الكهرومغناطيسيّة والقوّة الضعيفة , وهو مُلحِد صريح) .
كان عنوان الحوار الأساس بينهما هو : هل الكون مُصَمّمْ ؟
ورغم أنّ خطاب (واينبيرغ) كان صريحاً حاسماً ,وحسب أغلب الفيزيائيين هو الذي خرجَ مُنتصراً علميّاً دون أدنى جدل .
إلاّ أنّ صوت السير (جون تيمبلتون) كان أقوى بالطبع من صوت الفيزيائيين ,فذهبت جائزته عام 2002 الى القس جون بولكنغهورن !
***
ص 19 / المبدأ الإنساني !
يقول هذا المبدأ الذي يتبناه رجال الدين : أنّ الكون قد وُلّفَ بدقّة ليجعل الحياة مُمكنة .لكنّ السؤال هو : الى أيّ حدّ من الدقّة ؟
إنّهُ يشبه القول بأنّ الكون كبير ,حسناً : مقارنةً بماذا ؟
ستة من سبعة فائزين لاحقين (بجائزة تيمبلتون) قد يكونون فيزيائيين أو كونياتيين ,بدءً ب (إيان باربور) الذي كما ذكرنا كان في طريقهِ الى قصر بكغنهام لتسلّم جائزة تيمبلتون !
المهم كلّ الفائزين الثمانية بجائزة تيمبلتون كانوا يشيرون الى (المبدأ الإنساني) كدليل (لكن بدون برهان) على أنّ الكون كان مُصمّماً للحياة , والمُصمِّمْ يستحق إفتراضاً أن يكون هو الربّ !
***
ص 20 / الكون اللامأهول !
لو كان الكون مُصمّماً للحياة (حسب نظرية الخلق الذكي) ,فلابّدَ من القول أنّهُ تصميم غير كُفء حدّ الصدمة .إذ هناك أرجاء فسيحة في الكون تكون فيها الحياة (كما نعرفها) مُستحيلة بالتأكيد !
حتى في نظامنا الشمسي يبدو راجحاً أنّ الأرضَ هي القاعدة الوحيدة للحياة .إنّ البحث عن حياة (خارج أرضية) قد يكون أعظم كشوف العِلم . إلاّ أنّهُ مازال مُحبِطاً مولّفاً بدقّة الحياة .وقد يكون معقولاً أكثر أن نتسائل لماذا صمّمَ الله كوناً غير مأهول بالحياة البتّه ؟
عند هذه النقطة يمكنني سماع صوتَي القيسيسان الكاثوليكيّان (ديفيد أوكونر و شون مكارتي) ,يُذّكراني بصرامة بأنّ طُرق الله ليست طُرقنا ونحنُ لانعرف أسبابهُ !
ربّما (ديفيد وشون) مُحقّين ! فالله يُستخدَم أحياناً من الفيزيائيين كوصف جمعي لقوى الطبيعة المفهومة بشكلٍ منقوص .
لكن حجّة التوليف الدقيق هي مثال على مُغالطة قنّاص تكساس !
(يُصوّب القناص رصاصته على حائط حظيرة ,ثمّ يمشي الى هناك ويرسم دائرة حمراء حول ثقب الرصاصة) !
سنّمر على أمثلة اُخرى تشبه هذه المُغالطة في الفصولِ اللاحقة .
أكانَ التوليف الدقيق هو ماجعلَ تلك الشجرة تقع حين مررتُ بها ؟
هذه ليست طريقة مفيدة للتفكير في العالم !
*******
الخلاصة :
هل لاحظتم دور (المال) في شراء الذِمَمْ ,ثمّ سلوك طريق التديّن ؟
قد يقول قائل :وهل ربطتَ أنتَ بين (الإلحاد) ,والحرب العالمية على الإرهاب الديني ؟
وجوابي بالطبع معروف : مازلتُ لا أٌقيم وزنّاً لنظريّة المؤامرة !
على كلٍ سأتوّقف عند هذا الحدّ عن القراءة والتلخيص ,كي يمكن لأحبتي القرّاء متابعة الموضوع دون ملل .
وسوف أبدأ الجزء القادم بالحديث عن الإنشقاق الحاصل بين العلماء داخل مؤسسة
AAAS
ذاتها ,الذين شعروا بأنّ مؤسستهم العلميّة العريقة باعت روحها ل(تيمبلتون) , لأجل المال !
في موضوعٍ ذي صلة ,يقول عالم البايولوجي البريطاني د. ريتشارد داوكنز عن نفسه [أنّه مُلحد إنساني شكوكي علمي علماني عقلاني ] !
ويضيف في مقدمة كتابه (وهم الإله) ما يلي :
[أيّها القاريء لو كنتَ واحداً من أولئك ,فهذا الكتاب من أجلكَ .إنّهُ كتاب المُراد منهُ لفت الأنتباه الى حقيقة أنّ الألحاد هو تطلع واقعي وشجاع .فمن الممكن أن تكون مُلحداً سعيداً متوازناً مقتنعاً فكرياً ومعنوياً بشكلٍ كامل] !
إقتراحي بسيط جداً ,عند تطبيق هذا الكلام في بلادنا البائسة لنحاول حذف الكلمة الأولى فقط من تعريف داوكنز لنفسه ,أقصد (مُلحِد) !
ليس من أجل النفاق والمراوغة واللعب على المعاني والرقص على الحبال معاذ العقل !
إنّما لأجل الإبتعاد قدر الإمكان عن إستفزاز العامة المُعمّاة طيلة الوقت من تُجّار الدين .
كلمة مُلحد /إلحاد ,مازالت ثقيلة الوطء صعبة التقبّل في مجتمعاتنا .
حتى في بريطانيا تلك الدولة الرائدة في تنوير العقل البشري كان الملحدون هناك يُسمَون
Atheists,
بينما الآن يستخدمون تعبير
Humanists
أي إنسانيين (في إشارة الى أن الدينيين هم غير إنسانيين مع المُختلف عنهم) !
ثمّ في نهاية المطاف كلمة مُلحد خاطئة علميّاً ,لأنّهُ لا يوجد ما نُلحِد به .
الأصحّ التخلّص منها في الوقت الراهن !
***
المصدر : كتاب الخرافة في عصر العِلم / روبرت لي بارك .
إضافةً الى ويكيبيديا في حالة تعريف بعض الأسماء الواردة .
تحياتي لكم
رعد الحافظ
27 ديسمبر 2014