قراءة في رواية ‘مولانا’ للكاتب المصري إبراهيم عيسى

بقلم منى فياض/
يشكو شيخ الصوفية مختار الحسيني في رواية “مولانا” (للكاتب المصري إبراهيم عيسى) للداعية النجم حاتم الشناوي، الذي يعرف عن نفسه عندما يسأله أباه لماذا لا يصدق أنه شيخا: “أنا تاجر علم يا بابا”، وهو البطل الذي يمثل نموذج الداعية ـ النجم التلفزيوني وخطيب المساجد وجميع المناسبات المهمة. الشيخ الذكي “الواصل” باختصار، عبر مهاراته في تسويق الفتاوى والمستلزمات الاخرى لجمهور (يجد نفسه يكرهه لسذاجته قدر ما يشفق على حاجاته) وإلى مفاصل السلطة على أنواعها في نفس الوقت؛ يشكو إليه شيخ الصوفية من تعرضه لحرب شرسة تزداد ضراوتها مع الوقت، تتنوع أساليبها وتهدف للتضييق عليه وجماعته لتجميد نشاطاتهم بل وإجبارهم على مغادرة البلاد.
وسوف نحصل مما يسرده إبراهيم عيسى على لسان مختار الحسيني على عينات مفصلة من الأساليب المتبعة من أجهزة الأمن والتي تدخل في باب إرهاب المعني والتنكيل به، معنويا وسيكولوجيا، وصولا إلى العنف الجسدي. بأساليب يصعب أن تبرهن على أنها كذلك.
تبدأ هذه الأساليب من الاحتجاز في المطار والإخضاع للتحقيق دون سبب سوى الإذلال للانتقاص من قدره وهيبته، إلى سلسلة من المضايقات التي تصل إلى ما يشبه الاعتداء الجسدي والتي ستتوج بالاعتقال.
خاتمة ذلك هي القتل كما حصل مع الشيخ ومع سمير قصير أو القتل المعنوي كما حصل مع البطل حاتم الشناوي
سأل حاتم، جليس كبار القوم، شيخ الصوفية لم لا يشكو ويثير الموضوع؟
أخبره أنه بعدما استفسر عن الأمر في مكتب مدير المطار، أقسم الاخير أنه لا يعرف شيئا، وأن هذه التصرفات خاصة برجال الأمن، السلطة الموازية في بلدان العالم الثالث والتي تعمل بمعزل عن الدوائر الحكومية الرسمية كما يحصل في لبنان مؤخرا.
وتتتابع سلسلة المضايقات من محاولة هدم مسجد أثري اعتاد مع صحبه استعماله للنشاطات الدينية الخاصة بهم بأمر من وزير الداخلية إلى جعله منبرا استخدم لشتم الصوفية وأهلها والطعن بإيمانها، مع افتعال مشاكل فيه ومحيطه. أما الشيخ الذي يقوم بذلك، مع مجموعة السلفيين المجلوبين للصلاة، فقد يكون ومريديه مخبرين وفرق كاراتيه الأمن؛ فتنتهي الخطب بافتعال الإشكالات واقتحام المسجد والاعتداء بالضرب على خطيبه والمصلين. ثم توجه أصابع الاتهام إلى الجهة المراد التضييق عليها، وهي هنا الفرقة الصوفية، لزرع بذور الشك عند الجمهور.


على صعيد آخر، تخبرنا الرواية كيف تستخدم سيارات أجرة ونقل أو خاصة لتتبع المستهدفين بالتحرش. وهي سيارات، إما من دون لوحات أو بلوحات مزيفة، لأن الاستفسار عن أصحابها يظهر أنها غير مسجلة في دوائر المرور. إضافة إلى سيارات تهاجم المقصود ترهيبه ثم تنحرف عنهم لإحداث أبلغ الأضرار، ويفر سائقوها هاربين.
ويستخدم الميدان حيث تقام الشعائر الدينية لعمل خيمة سيرك أو سوق للغوغاء والباعة الجوالين فتحصل المشاغبات والمشاجرات وأعمال البلطجة، بهدف إلصاقها بالمضطهدين أمام الجمهور. وقد يصل الأمر إلى العبث بالتمديدات الكهربائية في سرادق عزاء أو غيره ما يتسبب بحريق يؤدي إلى بلبلة وعدد من القتلى والجرحى.
ويتم افتعال الشغب والاشكالات أمام أماكن السكن الخاصة وداخل البيوت نفسها؛ فيتعرض أصحابها لإقلاق الراحة والإزعاج من رمي الزبالة وحفلات الصخب وغيرها وصولا إلى المعارك والضرب والتهجم على الممتلكات وتكسيرها وقد يقع ضحايا.
يحصل ذلك تحت غطاء “عصابات وأبناء شوارع وقبضايات متفلتة”، تجهد “الشرطة للقبض عليهم”.
مأزق الشيخ الصوفي، ويمكن أن نستبدله بأي شخص آخر موضع اضطهاد وتنكيل من السلطة السياسية والأمنية، عجزه عن الرد باستنفار علني لمعارفه أو مريديه لأن في هذا ما يضعف مكانته ويفقده الحظوة التي يكنوها له عندما يظهر بمظهر العاجز الضعيف بينما هم يعتمدون عليه ويبحثون عنده عن الطمأنينة والثقة.
يتم إخراج جميع أنواع التنكيل والمضايقات هذه، لتحمل رسالة تهديد مبطنة يفهمها المعني بها، فيما تبدو وكأنها من أعمال رجال عصابات ومشاغبين وأبناء شوارع أو زعران كما نسميهم لا دخل للسلطة بهم.
ومن هذه الأعمال ما يصعب الإخبار عنه أو تأكيده، إذ يبدو أن المنكل به الخاضع للتجسس والمراقب بالكاميرات والميكروفونات المزروعة في محيطه وصولا إلى غرف النوم، يتعرض لإزعاج يصعب تأكيده أو حتى الإعلان عنه. فمم سيشكو؟ إنهم يلاحقونه في الفراش عندما يريد الاختلاء بزوجته وفي اللحظة الحميمة نفسها يبدأ موتور خلاط إسمنت هائل الصوت مسبب للصداع بالعمل تحت المنزل مباشرة! وعند الطلب من السائق الرحيل يجيب ثلة من المحيطين بالخلاط إنه معطل وأنهم يحاولون إصلاحه!
يعترف الآن المختصون النفسيون أن للتنكيل المعنوي، نتائج جدية على الصحة الذهنية قد تؤدي إلى الانتحار
المشكلة هنا أن الشكوى من مثل هذه الأمور قد تجعل السامع يشكك بالصحة الذهنية لمحدثه وقد يسأل نفسه هل يعاني من بارانويا أو فصام فيتخيل أمورا ويتصور من يلاحقه ويطارده؟ ألا يحصل هذا تماما مع من يعانون هذا المرض؟
جميعنا نذكر محاولات الشهيد سمير قصير الشكوى من أنه ملاحق ومراقب ويتعرض لما يشبه هذه الممارسات وطلب الحماية، من دون جدوى ودون أن يحرك أحد ساكنا! يضع المحيط نفسه على الحياد إما بسبب عدم التصديق أو الجبن أو الخوف أو اللامبالاة أو التواطؤ!
ولا يفيد تكرار الشكوى لأنها قد تؤدي إلى احتمال نزع صفة الأهلية عن المشتكي فالتساؤل يصبح: ألا يبالغ في شكوكه وأحاسيسه؟ وفي حالة الشيخ الصوفي في رواية “مولانا” تصبح الشكوى في غير مصلحته وتشكيكا في قدراته وفي البركة التي يجلبها لمريديه. فيخسر ثقة واحترام الآخرين وتنزع عنه صدقيته.
إنها إحدى الوسائل الماكرة لتبخيس الآخر ودفعه إلى ارتكاب الأخطاء ما يجعل انتقاده سهلا.
ويعترف الآن المختصون النفسيون أن للتنكيل المعنوي، نتائج جدية على الصحة الذهنية قد تؤدي إلى الانتحار. وهو من الأساليب التي استخدمت في المعتقلات النازية ويستمر العمل بها في الأنظمة التوتاليتارية. إنها أداة حكم فعالة.
خاتمة ذلك هي القتل كما حصل مع الشيخ ومع سمير قصير أو القتل المعنوي كما حصل مع البطل حاتم الشناوي. والتهم دائما جاهزة، في لبنان التعامل مع العدو كما حصل مؤخرا مع زياد عيتاني وغيره. وفي أماكن أخرى قد يكون التهجم على المقدسات من صحابة وغيرهم أو الإرهاب. تثير هذه الاتهامات الجمهور وتؤلبه ويصبح ما يجري للمتهم مقبول ومبرر ولا يدين السلطات.
إنها من أفضل الروايات التي تفضح جميع ممارسات الأجهزة ولا تترك زاوية إلا وتصلها بأسلوب فني جذاب.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.