قبل سجن تدمر وبعد سجن صيدنايا

مصطفى علوش

كلما تعرفَ الرأي العام في العالم (إن صحت التسمية) على فظاعات جديدة للنظام السوري، كالتقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية عن ضحايا سجن صيدنايا، زادت قناعتي بأننا نعيش عصراً مختلاً تماماً، لا سيما لجهة حالة الشلل والتفرج التام على مأساة الشعب السوري المستمرة من قبل المجتمع الدولي.

ضمن السياق نفسه ولتعرية كل أوراق التوت عن أعنف نظام عرفه التاريخ المعاصر، عرضت قناة «العربية» أخيراً فيلماً وثائقياً عن سجن تدمر، فيلماً رهيباً، قام بتأدية الأدوار فيه سجناء لبنانيون سابقون قضوا فيه سنوات عدة.

تدمر السجن، أو سجن تدمر، لا فرق، حيث المعتقلون أرقام فقط، والسجّان هو الجلاد والحاكم والقاضي.

من فتحة صغيرة في باب المهجع يتلصص أحد المعتقلين على سلوك أحد الحراس. كان التاريخ يشير إلى 8 آذار (مارس) أي إلى «عيد» وصول البعث إلى السلطة. فقط في هذا النهار رأى المعتقل أن الطعام هو رزّ وفروج وصنوبر، بينما في بقية الأيام يحصل سجناء كثيرون على حبة بطاطا. من تلك الفتحة رأى السجين المتلصص كيف أن الحارس وقد التهم بعض لحم الفروج، تبوّل على بقية طعام السجناء.

توثيق هذه الجرائم بالمعنى الحقوقي أمر في غاية الأهمية، ولكن متى تُترجم تلك الوثائق الحقوقية إلى فعل سياسي قانوني، كي تأخذ العدالة مجراها؟ فبمقدار الرعب الذي عاشه المعتقلون يكون السؤال الموجع، الذي أراه بلا جواب بسبب الصمت عن تلك الجرائم، فكأن هذا العالم يمشي مقلوباً مع السوريين، بلا رأس قانوني أو أخلاقي.

نظامٌ مروع تاريخه مسلسل من المجازر، وبمقدار الضياع الذي يراه السوريون في سياسة أنظمة العالم المؤثرة، هناك أيضاً وجه آخر قبيح ما زال السوريون بعيدين عن فضحه وتعريته، هو أن كل هذا القمع العاري والمديد الذي مارسه النظام كان بأيدي سوريين: فالحارس الذي تبول على طعام سجناء لبنانيين في سجن تدمر سوري.

سوريون مع النظام وجدوا في بوط بشار الأسد قبلتهم، سوريون يعتقلون سوريين، يعذبون سوريين، يقتلون سوريين.
هي حقيقة عارية نتجاهلها من شدة فظاعتها. الجلادون والقناصون ورماة المدفعية والطيارون درسنا معهم في المدارس نفسها، لكنهم هم أنفسهم بعد حين رأيناهم يعملون على تثبيت ركائز استبداد النظام، فصاروا ضباطاً وعساكر ومخبرين يخدمون نظامهم المروع ويهتفون بحياة قائده.

مروعٌ حال العالم إذاً، ولكن حالنا السوري الاجتماعي والنفسي أيضاً مروع أكثر. فالانقسام الاجتماعي، الطائفي والأخلاقي يأخذ شكل التشظي.
لذلك فإن من يعّول على أي تغيير سياسي عبر المفاوضات مع هذا النظام واهم، حتى لو رغبت موسكو بوتين بذلك. فليس النظام الإيراني وحده من يعيق أي اقتراب جدي من حل سياسي، إنما أيضاً النظام وبنيته الأمنية الصارمة. فهو لا يمكن تغييره إلا عبر الكسر والإزاحة.

صدى صوت السجان في سجن تدمر ما زال يروع حياة سجناء خرجوا أحياء من هناك، وما زال صراخ سجاني صيدنايا مروعاً أيضاً.
الثورة السورية وصفت باليتيمة، ولكن من وصفها بذلك لم يشاهد هذا الخراب والإجرام الهائل الباقي في نفوس السوريين الواقفين مع النظام. ثورة يتيمة، نعم، لأن بوط النظام العسكري والأمني بوط سوري قبل أن يتدخل البوط الإيراني والروسي.

في الأدبيات السياسية عادة ما يستخدم الكتاب والصحافيون عبارات كثيرة التلخيص والدقة حين يدرسون الظواهر السياسية لأي نظام سياسي، لكن في حالة النظام السوري لا بدَ من استعارة الكثير من مصطلحات الطب النفسي. وفي العمق الجارح هذا لا بدّ أن يدرك السوريون مأساتهم الذاتية مع جلاديهم السوريين، قبل أن يبدأوا بتفقد خرائط السياسة ونقدها في محيطهم العالمي.
نقلاً عن الحياة

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.