في الغابة ذئب مؤمن
يتوضّأ بدماء الأرانب
ويقيم الصلاة في معبد الأسود.
خمبابا…
بعد أداء صلاة الفجر
يمشّط الغابة بحثاً عن فريسة يلتهم نصفها
ويقدم نصفها الآخر ذبيحة لإلهه المجبول بالحقد المقدس.
أن تموت واقفاً بشموخ
خيرٌ لك ألف مرّة
من أن تستجدي البقاء على قيد الحياة… راكعاً بذل.
ينبغي أن تبقى كبيراً في أحزانك
كما كنت دائماً كبيراً في أفراحك.
أختلجُ على ضوء الكلمات
كارتعاش شعاع الشمس على الأمواج.
ممرٌ مرصوف بالوهج
يرتقي بي إلى السموات العلى
تحت وابل الفرح الغامر
وأمام بوابة الآلهة
أتوغل في يقظتي الأبدية
في رونق الهوى القدسي المخضل بالسمو والذهول.
عروس السنابل
يلهث صوتها كغرير الأنوار في عتمة الليل
ما تلبث أن تنزوي في الصدر
لتبدأ صولتها في حنايا القلب.
كيف يتأتى لله أن يعبر محيطات السموات في طرفة عين؟
وأنا لا أستطيع عبور الشارع
لأختطف قبلة من ثغر حبيبتي.
أيها المدنّسون تراب وطني بأقدامكم الملطخة بالدماء
سحناتكم مرعبة
وروائحكم نتنة
لملموا قاذوراتكم
وارحلوا عن تخوم ذاكرتي.
أنا… الآشوري الذي كنت مشعشاً بالقداسة
مضمّخا بأريج الحضارات
حاملا فوق جبيني وشم الله
وقدماي ترفرفان بأجنحة الملائكة
أحدّق اليوم بصورتي النورانية في مرآة الأبدية
فأجد نفسي ريشة في مهب الريح
بلا مكان… ولا زمان
كاليراعة
تبحث بين الحقول عن فردوسها المفقود
كالحمامة تبحث عن عش آمن في غابة ملتهبة.
قلبي واحة منكوبة
أتمرغ في الحزن كقارب يمخر عباب الوحل
أتلوى من الألم كامرأة داهمها المخاض
وأبكي على ما ألمّ بشعبي
كغيمة تنوح في الظلام.
لو شطفتني بأجود أنواع المنظفات في العالم
فلن تستطيع تطهير قلبي من أدران الحزن والأسى
لأن الذي حفروا في جسمي أثلاماً من المآسي والويلات
لا زالت صورهم المرعبة تباغتني في أحلام اليقظة.
منذ ألفي عام
وكلاب الصحراء ما زالت هي التي تقرّر مصائرنا.
أيها الزمن الأبله
ليتك تعيدني إلى طفولتي اليانعة
بين أزقة تلك القرية المجهولة
لأعيد تشكيل رؤيتي للأمور من جديد
لأصوغ طقوس حياتي على سيمفونية الذات
لأمارس الصمت في عصر الضجيج والمساومات
ولأكبح جماح دمائي الملتهبة في طريقي إلى زقورة نينوى
ولألجم زمام شوقي العارم إلى التقيّل تحت ظلال حدائق بابل المعلقة
لكي أتخلص من هذا الحب المرهق الذي أضناني
ولأعيش، لا مباليا، في سعادة غامرة
ككل الأغبياء من أبناء أمتي.
ضيعتنا الفاتنة العذراء
التي كانت تتعطر كل صباح بأريج الزيزفون
ترتدي حلّتها القشيبة
وتتمخطر في الحدائق والمروج
تحت ظلال السحاب الزاجل
تستحم في النهر الهادر من جنائن السماء
ثم تتقيل في أرجوحة الأمل
وتنام في كل مساء على وسادة الأحلام
وكانت العصافير فيها تلهو غير عابئة بالصيادين
تتضوع في أنداء الفجر
تمارس الحب على أغصان الأشجار
وفوق سطوح المنازل بكل حرية
وبلا مبالاة
تمتزج تغاريدها بأمواج الشمس
فيستيقظ الله على أهازيج النجوم
وعلى رنين المجرات.
وفي ليلة حالكة السواد
صارت قريتي الطاهرة الحسناء
مهبّاّ للذئاب القادمة من عمق أعماق الصحراء
ومرتعاً للعناكب المقبلة من غار حرّاء
وانهمر عليها الحزن والجفاف
وفرّت العصافير من أعشاشها المحترقة
وأدبرت في جميع الاتجاهات
وتغلغل شواظ جمرات الألم واليأس
في عيون النساء والرجال
وأينعت الآهات والحسرات على أفنان قلوب الأطفال
وهم بعبرون بوابة المستحيل تحت ظلال الظلمات
يعاهدون أرواح شهدائهم
بأن ما من قوة على الأرض تجبرهم على النسيان.
واختلطت الأزمان ببعضها
وتلاشت ضيعتي من الوجود
كغيمة تسافر على أجنحة الرياح
وشعرت لأول مرة في حياتي
بأني أغوص في أعماق القبر
وأمتزج بجذور شجرة الحياة.
القوة التي تربطني بأرض وطني
أقوى بكثير من تلك التي تشدني إلى السماء.
وطني
كان زورق الأحلام يمخر عباب الغمام
ليرسو على ضفاف الشمس
طافحا بكل مسرات ومباهج العالم
وتحت جنح الظلام
أقبل المؤمنون الأتقياء جداً
ليفرغوا حمولته
ويفخخوه بالمتفجرات
ليتطاير شظايا على جدران الرياح.
عندما رأيت الجنائن التي عاث فيها القادمون من أقبية الجحيم… خرابا
اضطرمت في أفق الروح نيران البداوة بكل تجلياتها المظلمة.
مشردون…
لم يجدوا ما يتّقون به شر الصقيع في العراء
فتدثروا بجلودهم
وناموا… نوماً عميقا
في انتظار فجر أكثر دفئاً وأمانا.
أودعت قصائدي
ومسرّات قلبي
في ذاكرة ذلك النهر الذي فقد ذاكرته.
كان يقف على حافة هاوية اللا مكان… واللا زمان
يتأمل بشغف وانبهار ظلال الصفصاف المهيبة
وهي تتأرجح عارية على أمواج نهر الخابور
بينما العصافير تقف على الأغصان بخشوع لجلال الشفق
حين تلملم الشمس ذيولها
وتتوارى
رويداً
رويدا
في طيات المغيب.
كان غارقاً في التفكير
يحاول أن يفكر
ومحتار بماذا سيفكر
ليصبح مفكراً.
على طريق ممهّد بالأمل
مصقول بالأحلام
أسير بخطى ثابتة ورصينة
إلى الهدف الأسمى
حيث تتبرعم أزهار طفولتي
بين أحضان واحة في القفار
حيثما تتشظى روحي مع الشهب
وتغوص في عباب النجوم
لتفوح عطراً
ونوراً
وماء.
تسلية الله الوحيدة… في وحدته
هي حلّ كلمات الموت المتقاطعة
وقراءة الأسئلة المستعصية التي تراود مخيلة الإنسان
ولكنه… لا يردّ عليها.
ولد جواداً مطهّماً جموحا
ضاقت الميادين على أنفاسه
فحلق في الآفاق القصيّة
ليتنسّم أريج النجوم.
ليس له جناحان
ولكنه يستطيع التحليق فوق السموات السبع.
رغم ظروفه العصيبة
تراه متكئاً على كتف الأمل
غارقاً في الحلم
يستمتع بآلامه اللذيذة.