فنجان قهوة

الصباح .. كنت أقف فى الشرفة حين مر، طويل القامة بانحناءة خفيفة فى أعلى ظهره ـ فى الحقيقة أطول من الصورة التى اعتدنا ft6 (3)عليهاـ أنفه طويل شعره وشاربه أشيبين بالكامل ، على وجهه ابتسامة وله طلة مهيبة بعيون واسعة لها حدة عيون الصقر و إن كانت الابتسامة تضفي على ملامحه طيبة رغم هيبته، يرتدي قميصا أبيض اللون واسع بنصف كم ، وبنطلونا رماديا وساعة يد بأستيك جلد أسود، يتحرك بهدوء بين لفيف من الناس- يتركون إنطباعا بانهم- قصار القامة، يدورون حوله ويتزاحمون ليحتموا- من وهج شمس الصباح – في ظله الضخم ، رفع عينه نحو الشرفة ، إستبد بي وجل للوهلة الأولى وخوف لكني بادلته الابتسامة بمثلها وبجرأة لم اعهدها فى نفسي سألته :
– إلى أين ؟
فرد بود :
– رايح أقعد ع القهوة
دعوته لكي يحتسي فنجانا من القهوة لدينا .. ضحك ورد بصوت هادئ لكنه حاسم :
– وحتعرفي تعمليها ؟
وكأني سقطت فى هوة سحيقة انحبس صوتي لحظة أن فكرت أن هناك إحتمال لقبوله الدعوة وفى أن هذا قد يكون إختبارا حقيقيا لي وقلت بصوت مرتعش :
– حضرتك شرفنا وجرَّب .
صعد الثلاث درجات فى السلم التى تفصل شرفة الكابينة الصغيرة التى نسكنها -كل سنة للتصييف – عن الشارع الذى يعج بالناس الراغبين في الصعود معه لكن بإشارة منه أبقاهم فى إنتظاره، جلس بارتياح على الكرسي الأسيوطي العتيق والذى تآكلت أخشابه وكلحت ألوان وسائده من كثرة تعرضه للشمس، لكن لم يفقد أصالته التى تزداد مع القدم، أسند ساعده على مساند الكرسي ونظر الى يمينه ويساره بحثا عن طفاية ،ثم أطفأ السيجارة التى كانت بين أصابعه ونظر للأفق والابتسامة لا تفارقه .
قبل ان أدخل الى المطبخ لصنع القهوة لمحت مسحة الحزن الشهيرة التى نعرفها جميعا تكلل الابتسامة الهادئة.. سألته بأدب وأنا احاول ان أستجمع ثبات ساقاي المرتعشتان:
– قهوة حضرتك ايه .
رد ببساطة :
– سادة
كنت فى منتهى الارتباك ولا اعرف سببا فالرجل يتصرف بتواضع وبساطة شخص عادي لا يليقان بتاريخه، وهذا لا يشعرني إلا بمزيد من الاضطراب ، أسرعت الى المطبخ الصغير محدود المساحة ثم نظرت حولي أبحث عن البن و ” كنكة ” القهوة والملاعق ..!! وكأني ذهبت لمطبخ فى بيت غير بيتنا ، لا أعرف طريق أى شئ، ثم بعد دقائق مرت دهرا من التوهان والدوران حول نفسي وجدت ما أبحث عنه فى مكانه..!!
كما لو كنت أمر فى إختبار صعب، أستعيد طريقة صنع القهوة فى ذهني مرات ومرات، أقوم بتحضير الصينية وأختار فنجان ، أنظر له بإمعان وأديره فى يدي خوفا من خدش أو شرخ ، أغسله عدة مرات، أشعل البوتاجاز ثم أطفئه وحين أبدأ فى إعداد القهوة أكتشف اني نسيت نوع القهوة التى طلبها ..!!
– هل قال عالريحة ؟ أم سكر زيادة !! لأ لأ قال سادة .. لأ عالريحة .. أخرج أسأله تاني ؟ عيب يعني معقول رئيس جمهورية يطلب طلب وأنا لا أركز فى طلبه وأجري كالحمقاء دون ان أقوم بنقش طلبه فى عقلي وقلبي !! ما هذا الغباء .
والآن إذا خرجت وسألته عن قهوته مرة أخرى سيظن أني أستهتر بالشرف الذى منحني إياه أو قد يضيق ويقرر ان يمضي دون ان يشرب القهوة ويندم أنه منحني ثقته.
ماذا أفعل ؟ هل أعد كل انواع القهوة واخرج له بها كالبلهاء ليختار ؟ وكيف سيرضى بعد ذلك ان يتذوقها.. اكيد سيظن أني مجنونة أو غير مقدرة للمسئولية.
أعددت فنجانا على الريحة ولا أعرف لماذا خمنت ذلك ولكن حين صببته فى الفنجان ، كان الوجه مخترقا بدائرة سوداء ..!! الوجه غير مكتمل .. هل سأقدم قهوة بدون وجه .. سيقول أننا لم نتعلم الاتقان لأبسط الأعمال.
شعرت بضيق تنفس ومادت بي الأرض ومن شدة الخجل شعرت أن أطرافي تتجمد ولا أقوى على تحريكها لعمل القهوة او حتى الخروج لسؤاله .. قررت أن أعد ثلاثة أنواع من القهوة حتى لو إستغرقت وقتا اطول من المتوقع، خرجت حاملة الصينية لكن راعني ما وجدت عند خروجي، السيسي يجلس على الكرسي الأسيوطي بدلا منه مرتديا زيه العسكري وفى إنتظار القهوة.
فتحت عيني مفزوعة على صوت زوجي يوقظني قائلا :
– مالك !!
سألت وانا بين النوم واليقظة:
– تفتكر لسة عندنا بن.

‎فاتن واصل – مفكر حر؟

About فاتن واصل

كاتبة ليبرالية مصرية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.