بين التقوقع والتميع*
جمال البنّا
أثارت زوبعة الحجاب في فرنسا قضية “الهوية” التي اعتبر الكثيرون أن الحجاب هو رمز لها، أو جزءاً لا يتجزأ منها.
وقضية الهوية من أعقد المشكلات الحضارية التي يتعرض لها المجتمع الإسلامي المعاصر، نتيجة لأن ثقافته، وأصوله، ومثالياته.. وآماله كلها ترتبط بالماضي المجيد، بينما يثير الحاضر في وجهه مشكلات معقدة كما يعرض رؤى ساحرة لها جاذبيتها، ولكنها لا تتفق – إن لم تكن تتعارض- مع مثله، ومن هنا يأتي التمزق والحيرة ما بين الشرق وماضيه.. وما بين الغرب وحاضره..
على أن هذه المشكلة إذا كانت تمثل تحدياً من أكبر التحديات بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، فإنها بالنسبة للأقليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا تمثل أعظم التحديات قاطبة، تحدياً جعل المواقف إزاءه تتقطب ما بين التقوقع.. والتميّع نتيجة لعدم التوصل إلى الحل الذي يمكن لهذه الأقليات أن تعيش في وطنها الجديد آمنة، مطمئنة، محتفظة بمثاليتها وفي الوقت نفسه تتعايش مع المجتمع الذي تعمل معه، ولا يمكن بالطيع أن تنعزل عنه.
بعض الأفراد ما أن يواجه المجتمع الأوروبي/ الأمريكي حتى ينبهر فتتزلزل خلال أسابيع أو شهور العادات والتقاليد والقيم والمبادئ القديمة زلزالا شديدا. ثم تتهاوى أمام صور الإغراء ومظاهر التحلل ووسائل الاستمتاع ويحس أنه كان فى “جرّه وطلع لبرّه” كما يقولون في ريف مصر.. ويتفاوت ما ينتابه من تطور ما بين التميّع الذي يصيب مقوماته، والذوبان الذي يأتي عليها ويفقده شخصيته الخاصة.
ولكن يحدث في حالات أخرى أن تثير مظاهر الحياة الأوروبية/ الأمريكية قوى المقاومة في النفس خاصة لدى الذين نشأوا نشأة إسلامية عميقة. فهؤلاء لا يستشعرون إعجابا وانبهارا، بل يحسون عزوفا وكراهية تؤدى بهم إلى نوع من التعصب والتقوقع والانعزال عن هذا المجتمع الكافر الضال المنحل!.
وفى نظرنا أن المسلكين خاطئان.. فالمسلك الأول يقضى على الشخصية الخاصة للمغترب طالباً أو عاملاً دون أن يكسب – ضرورة – الشخصية الأوروبية الأمريكية – ويغلب دائماً أن يستشعر نوعاً من النقص إزاء المجتمع الجديد الذي لم يبح له بكل أسراره ولم يفتح له كل أبوابه واعتبره رغم استعداده للذوبان دخيلاً. كما أن الرفض والتقوقع لن يمكن صاحبه من أن يفيد مما يقدمه المجتمع من مزايا وفرص وسيعسر عليه أن يحقق تماماً ما جاء من أجله دراسة أو تجارة أو مهنة.
وقد نجد مثالين واقعيين للتطرف في الموقفين في عمال الشمال الأفريقي “من مغاربة وتوانسة وجزائريين” الذين ذاب كثير منهم في المجتمع الفرنسي وإن ضاق بهم المجتمع الفرنسي، وفى العمال الأتراك الذين يقيمون في أحياء خاصة من المدن الألمانية التي يعملون فيها ولا تجمعهم بالمجتمع الألماني إلا ساعات العمل ولا يلمون من الألمانية إلا بما يفي لتبادل الأحاديث الضرورية.
ولو تقصينا مواقف الأغلبية العظمى للطلبة والعاملين المغتربين لوجدنا أنها تتذبذب ما بين التقوقع والتميع بنسب متفاوتة دون أن تتوصل إلى الموقف السليم لأن هذا الموقف السليم، وهو صعب وشائك وحساس، لا يمكن التوصل إليه بالتلقائية أو العشوائية أو الهوى أو حتى الاجتهاد الفردي. فهو مرتبط بعوامل موضوعية قدر ما هو مرتبط بنزعات ذاتية، وهناك عدد من المبادئ والأصول تحكمه وتحدده وتقيمه على أساس “أيدلوجي” أو على الأقل “مبدئي” بعيدا عن الهوى والعواطف، وأهم هذه المبادئ والأصول هي ما يتعلق بالإسلام الذي يهمله البعض فيذوب، ويتعصب له أو يسىء فهمه البعض الآخر فيتقوقع، لأن الإسلام هو عصمة المسلمين جميعا ومن هنا فإن من المهم إبراز المبادئ والأصول الإسلامية التي تؤثر على الموقف.
أولاً: أن المسلم “النمطي” بريء من عقدة النقص أو نزعة الاستعلاء..
بريء من عقدة النقص لأنه يعلم حق العلم أن دينه هو منتهى الأديان وأن رسوله هو خاتم الرسل وأن أي مقارنة ما بين كتاب الإسلام “القرآن” ورسول الإسلام “محمد” من ناحية وبقية كتب الأديان الأخرى ورسلها لابد وإن تسفر عن الأفضلية المطلقة لكتاب الإسلام ولرسول الإسلام، وهو يعلم أيضا أن الإسلام اكتسح العالم القديم اكتساحا وحرره من إسار القيصرية الرومانية والكسروية الفارسية ونُظمهما الطبقية الجائرة واحل محلها “الكتاب والميزان”، أي العلم والعدل. وان الإسلام أنجب من الخلفاء والقادة ورجال الدولة ما عجز عن تقديمه الرومان القدامى أو الأوربيون المحدثون، وان واقع “دولة المدينة” المنورة يفضل خيال “جمهورية أفلاطون”، وان المجتمع الإسلامي الأول أوجد عظماء العلماء في الرياضة والطبيعة والهندسة ومختلف العلوم إلى أخر أمجاد الإسلام التي لا يتسع لها المجال. وهو ثانيا برئ من نزعة الاستعلاء والزهو لأنه يعلم أن هذا كله من الله تعالى، وان الفضل فيه إلى الله وحده زانه تعالى عندما آثر المسلمين بهذه النعم فانه ربطها بقيام المسلمين بواجبهم فإذا اخلوا به حرموها حق العلم. إن التنشئة بالأنساب أو الأجناس أمر يستبعده الإسلام تماما، وان الشعوب جميعاً سواء دون تفرقة، والله تعالى لا ينظر إلى ألوان الناس أو أجسامهم ولكن إلى التقوى منهم. ولهذا فانه لا يستشعر استعلاء أو عدوانية أو زهوا أمام الآخرين.
ثانيا- يرتبط بالصفتين السابقين وينشأ عنهما أن أصبح للإسلام طبيعة موضوعية وليست ذاتية..
بحيث تكون” الحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنَّا وجدها”، وبحيث لا يجد الرسول حرجا من أن يقول بالنسبة لموسي وبنى إسرائيل “نحن أحق به منهم”. وانظر إلى موضوعية ونزاهة القرآن عندما يتحدث عن الخمر والميسر ]يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[. {219 البقرة}.. وكذلك ]وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[. {8 المائدة}.. ]وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ[. {85 الأعراف}.. والإسلام هو دين الحق وهي الكلمة التي يعبر بها القرآن عن الموضوعية. إن القضية هي أن الإسلام في حد ذاته يدعو إلى الحق وحيثما يكون الحق يكون الإسلام بل أن الله تعالى سمي نفسه “الحق” ومن هنا كان الحاكم الكافر العادل أفضل وأقرب إلى الإسلام من الحاكم المسلم الظالم لأن الظلم انتهاك للحق وأي انتهاك للحق هو انتهاك للإسلام وأي قيام بالعدل هو تطبيق للحق أي للإسلام.
ثالثاً: إن الإسلام ليس عبادات فحسب…
إن العبادة ليست إلا مكونا واحدا من مكونات الإسلام.. ومن المكونات الأخرى العمل وما يرتبط بالعمل من صلة بالمجتمع أو علاقات بين الناس من وفاء بالالتزامات وصدق في المعاملات وإحسان في الأداء، ومن مكونات الإسلام الشريعة وكل ما يدخل في عالم السياسة والاقتصاد والقانون وإتاحة الحرية والطمأنينة للناس وتحقيق العدالة الخ… فالإسلام لا يقتصر على العبادة، ولا هو يتمحور حولها..
والإسلام ينفى الحرج عن المسلمين ما أمكن ذلك ويعتبر التيسير أصلاً من أصوله وهو يعترف بالضعف البشري ولا يفترض في المؤمنين العصمة ويقنع منهم أن لا يرتكبوا “كبائر الآثم والفواحش” وتوقع استسلامهم للضعف البشرى في صغار الذنوب التي أطلق عليها القرآن “اللمم” ووضع طريقة معينة للتعامل معها هي أن الحسنة تجب السيئة “إن الحسنات يذهبن السيئات” و “اتبع السيئة الحسنة تمحها” ورحب بالمذنب المستغفر.
إن استيعاب هذه الأصول والإيمان بها يعين الطالب المغترب والعامل المهاجر على تكييف موقفه في المجتمعات الأوروبية فلا يستشعر الدونية التي تجعله يذوب ويتلاشى في هذا المجتمع، ولا يحس بالاستعلاء الذي يدفع به إلى الرفض والترفع والاعتزال، ويرى أنه فرد من أسرة البشر ومن المجتمع الإنساني وأنه بقدر ما توجد من عوامل للفرقة فهناك أيضاً عوامل للوحدة فنحن وهم من أم واحدة وأب واحد ونحن وهم ندين بأديان سماوية حتى وإن حافت الكنائس ورجال الدين والمصالح المكتسبة على روح المسيحية السمحة، وحقيقة أنهم ليسوا مسلمين أمر لا يزعجه البتة لأن هذا هو ما أراده الله وما أوضحه فى القرآن مراراً وتكراراً.. وقد وجهنا الله تعالى للتعارف وأمر أن لا يحملنا شنأن العدوان على الظلم أو على أن نبخس الناس أشياءهم ووجهنا لأن نلتمس الحكمة في مظانها وأن نطلب العلم ولو في الصين. فمكاننا وسط هؤلاء الناس الذين تختلف ألسنتهم وبشراتهم وعاداتهم وطرائقهم ليس أمرا مستغربا ولكنه التطبيق لدعوة القرآن في السير في الآفاق والتعارف بين البشر وطلب الحكمة والعلم من مظانها. فلا يجوز أن نسمح للكره أو الهوى أن يتحكم فينا فلا نستشعر ضعفا أو ذلة نحوهم ولا نظلمهم حقهم أو نبخسهم أشياءهم.
داخل هذا الإطار العريض نستطيع أن نعالج بعض التفاصيل منها..
1. قضية الزي: ليس الزي جزءً من العقيدة. ولكنه يعود بالدرجة الأولى إلى العادات والتقاليد وضرورات المناخ وطبيعة العمل وصناعة الأنسجة والملابس. فلا يُتصور أن نلبس في المناطق الباردة ما نلبسه في المناطق الحارة أو أن نقتصر على ما كان عليه الحال قبل ظهور التطورات الضخمة في صناعة الأنسجة وتفصيلها الخ… وليس هناك ما يمنع من أن نلبس ونحن في دار الهجرة ما يلبسون، خاصة وأن من الكياسة أن لا نثير الشكوك والريب حولنا، أو أن نوجد جوا يغلب أن يكون عدائيا بحكم الزى الغريب.
وبالنسبة للمرأة المسلمة فالمفروض أن تلتزم بآداب الحشمة الإسلامية وهذا لا يعنى ضرورة التمسك بالحجاب المألوف وإذا أرادت أن تستر شعرها فيمكن أن ترتدي قبعة تحقق المطلوب. ويجب أن نتذكر أنه قد كان من أسباب الحجاب “ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين” وهذه الحكمة نفسها تُملي صرف النظر عن الحجاب التقليدي حتى لا يؤذين، المهم أن لا يكون هناك تبذل أو تبرج “الجاهلية الأولى”.
2. الأكل والشرب: يحرم الإسلام كما هو معروف – لحم الخنزير كما يحرم شرب الخمر وليس هناك صعوبة في اجتنابهما تماما وسيمكن للطالب المغترب أن يلم بالأطعمة التي يدخلها لحم أو شحم الخنزير فيتجنبها. وليس هناك أقل حرج في هذا. فمن الآداب المرعية دائما ترك الحرية لكل واحد في أن يأكل ما يشاء ويختار دون أي أفتئات عليه فهذا شأنه الخاص، كما لن يشق عليه أن يمتنع عن الخمر فهناك كثيرون يمتنعون أو يقلون من الخمر ويتمتعون بالتقدير والاحترام. فالطعام والشراب ليس فيهما إعنات كبير لا للمغترب ولا للمجتمع الأوروبي الأمريكي نفسه.
3. الحياة الاجتماعية والعلاقة بالمرأة: إن دخول المرأة في المجتمع الأوروبي بالصورة التي نعرفها قد يوجد حرجا شديدا للطالب المغترب في حالات عديدة، فقد يدعى إلى حفلات راقصة تعقدها اتحادات الطلبة وغيرها في مختلف المناسبات ويصعب على الطالب المغترب مقاطعتها لأن ذلك يمكن أن يمس وضعه فى الجامعة أو يعطى انطباعا معينا عنه. والأمر في الحقيقة يتطلب قدراً من الكياسة فيمكن الاعتذار عن أشد هذه الحفلات ابتذالاً، ويمكن حضور البعض الآخر والاعتذار عن مراقصة زميلاته بمختلف الحجج والأعذار، فإذا لم يكن بد فليعتبرها من اللمم “وقد أعتبر بعض المفسرين أن من اللمم القبلة والضمة” وليكفر عنها بعد ذلك بما يستطيع من حسنات من صدق وإخلاص وخدمة لإخوانه. وله أسوة بالرجل الذي قال للرسول إنه مارس مع إحدى النساء ما هو دون الزنا فسكت عنه الرسول حتى قامت الصلاة وصلاها الرجل معه فلما أعاد الرجل مساءلته، قال له: ألم تصلّ معنا؟ إن الحسنات تذهبن السيئات.
4. العلاقات الجنسية: هذه هي أشد القضايا حرجا وإرهاقا للطالب المغترب وقد يرى فيها تحديا يكون عليه أن ينتصر بإيمانه عليه فيسمو بغرائزه ويوجهها نحو مختلف المجالات السليمة. ولكن هذا إن صدق بالنسبة لواحد فإنه يصعب بالنسبة للآخرين لأن الغريزة غلابة والطالب المغترب والعامل المهاجر قد يقضى في دار غربته بضع سنوات في ريعان الشباب ووسط المغريات ولن يكون مفر من إقامة علاقات جنسية. وقد وضع الإسلام الحل لهذه القضية ولكن المسلمين لا يريدون الإفادة من الرخصة التي قررها ومن الحل الذي وضعه الرسول وفرضوا على أنفسهم العنت الذي رفضه الرسول “لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم”. وهذا الحل هو ما يطلق عليه الفقهاء “نكاح المتعة” وكلمة المتعة في حد ذاتها توضح لنا كيف تجرد المسلمون الأول من “العقد” التي استبعدت ألفاظ المتعة والاستمتاع والتمتع كما لو كانت خروجا على سمت الإسلام وما ينبغي له من حفاظ، والله تعالى أعلم من المؤمنين بأنفسهم وهو يعلم من الناس ما يخفون وهو أقرب إليهم من حبل الوريد. وقد رخص الرسول بهذا النوع من الزواج المحدد المدة وجعل أحكامه كأحكام الزواج باستثناء المدة وقيل إن الرسول نهى عنه بعد ذلك ولكن المسلمين ظلوا يمارسونه طوال خلافة أبى بكر وجزءا من خلافة عمر حتى نهى عنه عمر وحرّمه. وتحريم عمر يفهم منه بوضوح أنه هو الذي حرمه وليس الرسول ولو كان نهي عمر مبنيا على نهى الرسول لما احتاج إلى أن ينهى هو ولأحال الأمر على نهى الرسول فهو أولى. ويكاد يكون من المحقق أن عمر رضى الله عنه خشي إساءة استخدام الناس لهذه الرخصة فبادر بسد بابها وكان مصيبا في اجتهاده هذا. ولكن التحليل والتحريم مردهما إلى الله تعالى وليس إلى أحد من البشر وتحريم عمر لها لا يعنى استمرار تحريمها إذا جدت الأسباب التي من أجلها رخص الشارع فيها. وهو ما نعتقد أنه ينطبق على الحالة التي نحن بصددها، حالة المغتربين.
واستخدام هذه الرخصة سيحل عددا من المشكلات فسييسر وضع الغريزة محلها وبطريقة مشروعة بعيدة عن الزنا الكريه. وقد يستطيع أن يهدي الزوجة إلى الإسلام وهو “خير من الدنيا وما فيها” ومسألة الأولاد الشائكة التي كانت أصعب ما فى القضية يمكن استبعادها لسهولة وسائل تنظيم النسل “وهو بدوره مشروع ما لم يتخلق جنين” ولن يترتب عليه ما يترتب على الزواج العادي الدائم من مشكلات عويصة “خاصة في أوروبا وأمريكا” عند الطلاق في حالة فشله. ولن يثير هذا الأسلوب ضيقا لدى الطرف الآخر لأنه هو نفسه لا يريد التورط في زواج دائم قبل الزواج الدائم. وقد وضع ليون بلوم الزعيم الاشتراكي الفرنسي كتابا كبيراً يدعو فيه إلى هذه الفكرة ويسميها زواج التجربة ولها أنصار عديدون فى الولايات المتحدة مثل القاضي لندسى وغيره.
وبهذه الطريقة يمكن للمسلم المغترب أن يحل أزمته الجنسية طوال مده دراسته حتى يؤوب إلى بلده أما بالنسبة للمهاجر هجرة دائمة فإن زواج المتعة سيقدم له الطريقة الوحيدة المشروعة للتوصل إلى الزوجة الصالحة التي يمكن أن يحيا معها إلى الأبد…
******
إن هذا القسم الأول من المقال يتعرض لجانب هام من قضية الهوية بالنسبة للأقليات التي يكون عليها أن تندمج في المجتمع الأوروبي/ الأمريكي، وان يتقبلها هذا المجتمع في من يقبل من أقليات وبهذا تطمئن على أوضاعها ومستقبلها وهذا هو ما يهمنا فيما نحن بصدده، إذ سيمكنها هذا من المشاركة فى وضع سياسات وخطط هذا المجتمع داخليا، وخارجيا بما يتفق مع الخطوط الإسلامية ومصالح المجتمعات الإسلامية وحركات التحرر. أو على الأقل أن يكون مسلكها حياديا..
إن الأخذ بفكرة الاندماج يجب أن يكون عن طريق “استراتيجية” بعيدة المدى لها أهداف قد لا تتم إلا في المستقبل البعيد وبعد عدة أجيال، ولكنها ما لم تتخذ الآن فلن يتحقق بالطبع المطلوب منها والذي لا يمكن لغيرها أن تحققه والزمن بعد أمامنا ولا نستطيع أن نفر منه، ونظرية الإسلام كلها تدور حول إيثار الآجلة على العاجلة.
إن الاندماج في المجتمع الأوروبي – الأمريكي قد يتطلب الأخذ بمعظم مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولكنه لا يتطلب – ضرورة – الأخذ بها كلها. وسيكون على الأقليات الإسلامية أن تضع خطة محكمة ومحددة، وأن تتوفر لها الشجاعة للأخذ بما لا مناص من الأخذ به، والحكمة التي تحول دون تجاوز هذا القدر. وسيفيدها أن تدرس تجربة الشعب اليهودي في المجتمع الأوروبي – رغم وجود بعض الاختلافات.. إن اليهود استطاعوا ليس فحسب أن يتغلغلوا في المجتمع الأوروبي/ الأمريكي، بل أيضاً أن يسيطروا على فكر هذا المجتمع.
وقد يكون من مفاتيح هذه الخطة التزوج من أوروبيات وأمريكيات بعد إسلامهن لأنهم هن اللائى سيقدمن الأزواج المسلمين إلى المجتمع الأوروبي.. ومع أن المقاييس الشرقية والإسلامية عن المرأة تختلف عن مقاييسها في المجتمع الأوروبي فمن الخطأ أن نأخذ الفكرة عنها من السينما أو مما تقدمه مجلات الفضائح والابتذال والجنس.. إن المجتمع الأوروبي – الأمريكي يقوم على الحرية – وسمح ذلك بظهور القلة التي تؤثر الشهوات أو تكسب منها، ولكن المرأة الأوروبية مع هذا يمكن أن تكون زوجة ممتازة إذا أحبت زوجها وإذا أسلمت “وهذا شرط رئيسي لنجاح الخطة كلها”. وهذه هي مسئولية الزوج المسلم ويمكنه أن يظفر بعقلها وقلبها إذا تمسك بالخلق الإسلامي من صدق ووفاء ومرؤة وشجاعة وأمانة الخ…
وقد يتطلب الأمر الأخذ بأسماء أوروبية والأسماء لا تهم. ونحن نجد من المحدثين من يحمل اسم “إسرائيل” و”داود” و”يعقوب” و”اسحق” و”موسى” و”بن جريج” ويحمل المسلمون أسماء الأنبياء جميعا دون تفرقة..
كما سيتطلب الأمر الأخذ بالزى الأوروبي ومجاراة بعض تقاليد الحياة الاجتماعية بالصورة التي أشرنا إليها من قبل.
وفى الوقت نفسه فمن الضروري للأقلية الإسلامية في أوروبا وهى بالدرجة الأولى مسئولية الرجل – الزوج والأب..
1. البعد عن المحرمات صراحة كشرب الخمر واكل لحم الخنزير والزنا.
2. ممارسة الصلاة وصيام رمضان مع ملاحظة أن الزوجة والأبناء لن يستطيعوا – دائما – المواظبة التي يفرضها المسلم ولكن هذا التفريط سيستدرك ما ظل الأب – الزوج مواظبا وموجها الزوجة والأبناء إلى الصلاة والصيام وسيهديهم الله الذي هدى “ثقيف” من قبل مع تقدمهم في العمر واتزانهم في الحكم والأمور بخواتيمها فلا يبخع نفسه ولا يحدث معهم قطيعة فيتعجل السيئة قبل الحسنة.
3. الحفاظ على اللغة العربية بأن يتحدث بها الأب فى المنزل مع الأبناء ويعلمهم إياها من الصغر ولا يهمل هذا الواجب فإنه سيكون الرباط بينهم وبين عالم الإسلام بحيث يمكن للأبناء أن يتحدثوا ويقرأوا ويكتبوا العربية. وهذا فيما شاهدت هو أصعب الأمور وما يقصر فيه معظم الآباء مع أنه أهمها، ولو أن الأب تحمل بعض التعب في سبيل ذلك لكتب له النجاح لأن الأطفال ذاكرة لاقطة وسيتعلمون العربية ما دام أبوهم يحدثهم بها كما سيمكنه أن يعلمهم القراءة والكتابة وشرط نجاح ذلك أن يتم في سنوات الطفولة الأولى وأن يواصله الأب دائما. كما أن من الخير زيارة المواطن الأصلي كل سنة مرة وقضاء فترة فى المجتمع العربي الإسلامي. وأن يكون بالمنزل مكتبة عربية يشغل فيها “المصحف” مكان الصدارة وكما شاهدناه بأن الجيل الثاني – أي أبناء المغتربين، خاصة المتزوجين من أوروبيات يكاد ينبت عن المجتمع الإسلامي لأن الأب أهمل تعليم أبناءه اللغة العربية فقطع الصلة التي تربط الأبناء بالعالم الإسلامي وأهمل غرس فكرة الانتماء الإسلامي في نفوس أبنائه. ومقارنة إهمال الآباء المسلمين بحرص الآباء اليهود يوضح جريرة الأولين.. فقد حرص اليهود على تعليم أبناءهم “اليديش” وهى اللغة العبرية الأوروبية وفرضوا على المجتمع الأوروبي ما يتطابق مع دينهم بعد أن تمكنوا من التغلغل فيه مع أنهم كانوا عرضة للاضطهاد وكان اسمهم ملوثا وذلك لأنهم سلكوا استراتيجية طويلة المدى تعنى بالجوهر أكثر مما تعنى بالمظهر. وعندما قابلت سفيرة إسرائيل في موسكو “جولدا مائير” زوجة مولوتوف عبرت هذه عن سعادتها البالغة بمقابلة سفيرة إسرائيل لأنها “بنت الشعب اليهودي” وأنها تتحدث “اليديشية” التي خاطبت بها جولدا مائير بعد ذلك..
4. يجب أن توجد تجمعات وتكتلات وتنظيمات تضم شمل الجالية الإسلامية وتعنى بمشاكلها وتساعدها للتغلب عليها وتطمئن على مُضى الاستراتيجية الموضوعة.
وهناك ملاحظة أخيرة وهامة تلك هي أن هذه التجربة لن تنجح ما لم يستقر في نفوس المقدمين عليها نوع من التقدير والتقبل للمجتمع الأوروبي الأمريكي يقوم على النزاهة في الحكم وسعة الأفق والاعتراف بالحسنات إلى جانب السيئات وأنه وإن كان الساسة وأصحاب المصالح في هذا المجتمع من أسوأ الناس أنهم ارتكبوا الموبقات في سياستهم الخارجية وسلكوا سبل النهب والسلب الخ… فإن معظم شعوبهم بعيد عن هذه الجريمة برئ منها وظهر الكثيرون الذين يعارضون هذه السياسات كُما أسهم علماؤها ومفكروها فى التقدم بمستويات الحياة إلى الدرجة التي لم تبلغها البشرية من قبل. ويجب على الجالية الإسلامية أن تؤمن فعلاً أن هذه البلاد قد أصبحت وطنهم الأول وأن وطنهم الأصلي قد أصبح هو الوطن الثاني وأن عليهم أن يخدموا هذا الوطن الأول بصدق وإخلاص كمواطنين صالحين “بافتراض اكتسابهم الجنسية التي يمكن اكتسابها فى العادة بعد قضاء فترة معينة أو التزوج من أوروبية” وأن يقدموا لهذا الوطن إضافاتهم، ولن يمنع هذا من أن يقفوا ضد أي سياسة تمس أوطانهم الأصلية أو المجتمعات الإسلامية لأن هذا يدخل في باب الحرية السياسية وعليهم أن يستبعدوا تماماً تلك الفكرة التي تخطر للسذج من المسلمين من أنهم سيكونون في الجنة وسيكون الأوربيون “الكفرة” في النار لأن الذي يحكم في هذه القضية هو الله تعالى ورحمته وسعت كل شىء فلا داعى للأفتئات عليها ]قل لو انتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الأنفاق[. فضلاً عن أن الأوروبيين لم تبلغهم الدعوة الإسلامية كاملة، أو على وجه التحديد ومن المحتمل أن لا يحاسبهم الله تعالى لذلك وأن يحاسبنا على إهمالنا، وقد لا يدخلون الجنة ولكننا قد ندخل النار لإهمالنا. كما أن الأوروبيين قد يكونون أقرب إلى بعض جوانب الإسلام من المسلمين أنفسهم، والأصل في المسيحية الإيمان باله واحد أما حكاية الأقانيم الثلاثة فشىء لا يفهمه إلا رجال الأكليروس، فلا ينقص الأوروبيين إلا الإيمان برسالة محمد ويغلب أن لا يرفضوها لو بلغوا بها بلاغا حسنا فليست الشقة بينهم وبين “لا إله إلا الله محمد رسول الله” ببعيدة كما قد يبدو..
إذا لوحظت الخطة التي أجملناها لمدة مائة سنة مثلا فيحق لنا أن نتوقع ظهور جاليات إسلامية قوية في المجتمعات الأوروبية وأن يكون بين الوزراء والمسئولين شخصيات إسلامية بارزة ولنا أن نتوقع انتشاراً للإسلام في أوروبا وتغييراً ملموسا في السياسات الأوروبية تجاه الإسلام والدولة الإسلامية، فإذا راجعا “حسبة” المكسب والخسارة فلا مراء في أنها صفقة رابحة فقد ضحينا ببعض المظاهر الثانوية وكسبنا للإسلام جمهورا ولسياسته تأييدا.
نقول هذا ونحن نعلم أن نسبة ضئيلة هي التي ستؤمن به أما الأغلبية العظمى فستقول ]بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا[. {107 البقرة}..
* فصل من كتاب “مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث وبحوث أخرى”. وفي هذا الفصل يوصي جمال البنّا بإمكانية أن ترتدي المرأة المسلمة القبّعة في الغرب، وبإمكانية زواج المتعة، الذي قال عنه الإمام علي: لولا أن عمر حرّم نكاح المتعة لما زنا إلا شقي. ويبدو أن هذين الموضوعين هما ما دفع الأزهر لمصادرة كتاب البنّا.