أسامة فاروق: أخبار اليوم
هدد الرئيس السوري أمين الحافظ أهل حماه بأنه لن يجعل في مدينتهم إلا سكاكين المطابخ. ومن وقتها أصبحت ككل المدن العربية منزوعة السكاكين لكنها مزروعة بالسلاح الأشد فتكا..الخوف.
في روايته الأحدث “لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة” يرصد خالد خليفة جرائم ذلك السلاح الذي جلل تلك المدن بالعار التاريخي، يعيد ببراعة عبر سيرة عائلة تسكن حي “ميدان أكبس” في حلب، رسم حياة مدينة وسكانها الذين يتقاسمون هواء مدينة واحدة خائفين من بعضهم البعض، كما يقول علي لسان جان الذي يكتب لابنه بيير مسيحيون خائفين من المسلمين، أقليات طائفية خائفة من الأكثرية، وأكثرية خائفة من بطش الأقلية، قوميات وأديان وطوائف خائفون من الرئيس وضباط مخابراته، والرئيس خائف من أعوانه وحراسه، وأعوانه يبحثون عن طرق مبتكرة للوشاية ببعضهم بعضا وتقديم ولائهم اللامتناهي، يرفعون الرئيس الي مرتبة القداسة والالوهية، ورغم ذلك يبقي في قصره خائفا من حراسه.
لذا فهي بالفعل ليست مجرد رواية كما يقدما الناشر (العين) بل حفر عميق في آليات الخوف والتفكك خلال نصف قرن، صدرت في لحظة فارقه، لحظة انتفضت فيها تلك المدن لتتحلل من عارها، القديم والمتجدد. وفي ظل ما تعيشه سوريا حاليا ومع كل نشرة أخبار كنت أتأكد من أنه لن يرد علي الأسئلة التي أرسلتها بمجرد أن انتهيت من القراءة، لكني راهنت علي نضاله وقوة إرادته وصموده الذي تأكد في الإجابات.
سألته عن إصراره علي البقاء في سوريا، رغم الفرص المتعدده للخروج وأجاب بأن الطبيعي أن يصر علي البقاء وليس الخروج، قال:”هنا مكاني الطبيعي، هنا ما تبقي من رفاقي وهنا الثورة، خروجي لا علاقة له بكم الفرص التي تتيح لي العيش خارج البلاد، نعم لدي الكثير من هذه الفرص لكنني عشت كل عمري هنا ولن أترك بلدي في هذا الوقت الصعب، ومن يعتقد بأن الكاتب هو مواطن سوبر يجب أن يعيد حساباته، دمنا ليس أغلي من دم موطنينا، فقدنا في هذه الثورة شباباً يشبهون الملائكة أذكياء وموهوبين وحين أنظر إلي صورهم أشعر بأنهم استشهدوا من أجلنا جميعاً لم يكتفوا بالبقاء بل قدموا حياتهم من أجل هذه الثورة”.
يعيش صاحب “مديح الكراهية” ككل السوريين تخلقها هذه اللحظات الصعبة في ظل الحرب الدائرة الآن وفي انتظار الضربة التي ربما تحدث في أي وقت “الهم الأول المحافظة علي حياتك قدر الإمكان” لكن هناك مفردات جديدة في هذه الظروف حيث كل شيء صعب “القلق علي ما تبقي هنا من أصدقاء، يجب أن تطمئن علي سلامة الجميع، حاجياتهم..الخ”.
لكن هناك أخبار جيده رغم هذا كله فقد عاد للكتابة منذ فترة قصيرة، لكن بالتأكيد ليس بانتظام لأنه باختصار يعيش كغيره كل يوم حسب ظروفه “في الحياة القاسية تعتاد أن تتقاسم كل ما لديك مع من حولك، الأشياء تفقد قيمتها، كما حس الملكية يتراجع إلي أدني درجاته. هناك الكثير من
التفاصيل أصبحت من البديهيات، الخلاص الفردي يتراجع كثيرا والشعور بأنك تتقاسم الموت مع كل السوريين يولد لديك إحساس جديد بالانتماء”.
فيس بوك ربما أصبح الطريقة الوحيدة للإطمئنان علي الأصدقاء هناك، من خلاله نعرف ونقرأ ونتجادل، إذا غاب خالد عنه بضع أيام ستجد بالتأكيد من يفتقده ويسأل حتي يطمأن أنه بخير، كتب منذ فتره علي صفحته “الطغاة ليسوا وحدهم من أتي بالغزاة بل شاركهم في ذلك مجموعة السياسيين وتجار الثورة الذين باعوا دمنا مرة لقطر ومرة للسعودية ومرة لمنظمات لاأدري ماهيتها دون أن اي شعور بالخجل” شعرت بأنها رساله مبطنة فسألته أن يوضح أكثر لمن بالتحديد كانت الرسالة؟ فقال إنها كانت رسالة لأصدقائه في الخارج الذين يجب أن يفكروا جيداً بأن هذه ثورة، ويجب عدم السكوت عن تجارها إذا أردنا النصر “نحن الثورة الأكثر يتماً في التاريخ، ولا مجال هنا للخوض في أسباب تخلي العالم، يجب أن نعتمد علي أنفسنا ولا ننتظر أن يقدم لنا أي أحد أية مساعدة احتراما للتضحيات الباهظة التي قدمها هذا الشعب لثورته”.
سألته: هل يوجد سيناريو واضح تتبناه لحل الأزمة الحالية؟
> وأجاب: لا يوجد سيناريو سوي استمرار الثورة، عزل المتاجرين فيها والمسيئين إليها عن التحدث باسمها وتمثيلها في المحافل الدولية وعلي الأرض، لكن خروج الموضوع من أيدي
السوريين نظام ومعارضة يعقد الأمر ويُبقي الأمور تحت وطأة توافق دولي لا أعتقد أنه قريب.
- في هذا السياق كيف تري بعض المقولات التي بدأت تشكك الآن في الثورة السورية، ومن مثقفين عرب كبار؟
> لم نعد نفاجأ أبداً بأي موقف من أي مثقف عربي كبير أو صغير، قد يكون طبيعي بأن ثورة مثل الثورة السورية قلبت الأوراق علي الطاولات، ومن الصعب فهمها من قبل مثقفين تربوا في أحضان أنظمة اكتفت تاريخياً بالحديث عن المقاومة ورفعت شعارات ومارست عكسها وكانت السبب الرئيسي في تدمير كل الأمة وليس سوريا فقط، لكن التاريخ لن يرحم أي مثقف استهان بتضحيات السوريين.
- وفق هذه الرؤية كيف تري الدور الحقيقي للمثقف في كل ما جري ويجري في العالم العربي؟
- دور المثقف أن يمتلك بوصلة تقوده للدفاع عن دم شعبه وحلمه في الديمقراطية والمشاركة في هذه الثورات، بدل الترفع والاكتفاء بالتنظير عن شكل ثورة موجودة فقط في أذهانهم، ودور المثقف يتجلي بفضح كل من يريد مصادرة الثورات والحلم بدولة مدنية حرة، الشعب الثائر لم يطلب الكثير من مثقفيه، فقط طلب أن لا يخونوا الدم، لكن علي ما يبدو كان هذا الطلب كبيراً لم يستطع بعض المثقفين التخلي عن مكاسبهم مقابل هذا الإخلاص للدم.
- كتبت عن الإخوان المسلمين في أعمالك الروائية أكثر من مرة، كيف تقيم التجربة السياسية لهذه الجماعة، وهل كنت تتوقع ماحدث لهم في مصر؟
- اعتقد بأن الأخوان المسلمين بعد هذا التاريخ يجب أن يسألوا أنفسهم لماذا حدث هذا، كانت فرصة حقيقية لهم ليتغيروا، يقومون بصياغة برامج حكم تحترم العدالة واختلاف وجهات النظر لكنهم ظلوا مخلصين لأفكارهم الثابتة عن الحكم، كما كانت فرصة للشعب كي يختبرهم في الحكم، كما يختبر كل مفردات وبرامج الإسلام السياسي الذي أعتقد بأنه في شكله الحالي لا يصلح للتشارك في الحكم لأنه ببساطة شديدة إسلام إقصائي، المصريون كما السوريين كما كل البشر يريدون لأولادهم مدارس جيدة وعدالة اجتماعية وحرية تعبير ورأي ولا يعنيهم ديانة الحاكم أو مذهبه أو طائفته.
كنت أتوقع ما حدث لهم في مصر لكن بعد وقت طويل، كنت أعتقد أنهم أكثر ذكاء ودهاء مما فعلوه خلال السنة التي حكموا فيها، والتي تميزت بما أسميه العمي السياسي.
- كتبت أيضا عن مأساة الأحزاب التي كانت مسيطرة علي سوريا كما في مصر وعن استبداد العسكر هل تعتقد أن تلك الأمور قابلة للتجدد؟
> زمن العسكر انتهي وإلي الأبد، لقد دفعنا الأثمان كاملة لهذه الحقبة وأكثر من شعوب أخري كانت لديهم تجارب مماثلة، لسوء حظنا ووجود إسرائيل في المنطقة، لكن في المدي المنظور أو القريب سيحاول العسكر التمسك أو التسلل إلي الحكم مرة أخري لكن الثورة مادامت مستمرة لن يكتب النجاح لهم بالسيطرة مرة أخري علي الحكم، لقد انتهي زمنهم ولكن مازلنا في الخطوات الأولي لقطف ثمار الثورات، قد نستغرق في مصر وسوريا وباقي بلدان الربيع العربي وقتاً أطول لتحسس أثار هذه الثورات نتيجة الخراب الكبير الذي خلفته سنوات العسكر وتحالفهم العضوي مع الفساد، لكن الزمن القديم انتهي.
- هل تؤمن فعلا بأن الثورات غيرت في وعي المواطن العربي؟
> بدأت الثورات العربية تغير من وعي المواطن العربي، أهم شيء الآن تحسس هذا المواطن لحقوقه ومعرفتها، وابتعاده عن الإيمان بالقدر والاستسلام له، إيمانه بأن صوته في صناديق الاقتراع قد يغير حياته نحو الأفضل سيكون له نتائج كبيرة، نحن علي أولي درجات السلم من التغيير الجذري الذي تسعي إليه كل الثورات.
- لنتحدث عن الرواية متي بدأ كتابة “لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة” وهل فكرت في معالجة الوضع الراهن أم انها ربما تكون رواية مؤجلة؟
> بدأت كتابة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” عام 2007 وانتهيت من كتابتها في نيسان 2013 ولا أعرف إن كنت سأكتب عما يحدث الآن، لكن من المؤكد ليس في الوقت القريب.
- تري د.شيرين أبو النجا في مقالها عن الرواية أن العلاقة بالسلطة وتأثير السلطة علي الرؤية والمصائر هي نقطة ارتكاز الرواية..الي أي مدي تري أن هذه القراءة صحيحة؟ وبشكل شخصي هل ساهمت الكتابة في تحررك من السلطة/أي سلطة؟
> أعتقد بأنها قراءة موفقة في هذه النقطة، عموماً رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” تطرح سؤال أساسي عما فعله حكم ديكتاتوري لخمسين عام بحياة البشر، لقد دمرت الأحلام والطموحات لمجموعات بشرية كاملة.
نعم الكتابة ساهمت في تكويني الشخصي، وحررتني من مفاهيم كثيرة، وساهمت في حريتي، كما ساهمت بجعلي كائن أكثر هشاشة وأقل كبتاً وأكثر إنسانية.
- كيف تري الإبداع الذي يتناول اللحظة الراهنة؟ وكيف تنظر لمستقبل الكتابة الإبداعية بعد الثورات العربية؟
> أيضاً الكتابة الآن تتحسس التغييرات التي ستكون صاعقة بعد سنوات قليلة، سيكون هناك تيارات جديدة يقودها مجموعة كتاب شباب لديهم أفكار جديدة، لكن الآن يجب ان يتوقف الضجيج كي تبدأ الكتابة الحقيقية في الظهور والمادة الأولية الموجودة تكفي خمس أجيال علي الأقل، لكن المهم بأن الكثير من الكتاب الذين تربعوا علي عرش الكتابة بقوة الديماغوجيا والعلاقات أو ما أسميهم الكتاب المفروضين بقوة السيف سينسحبون لصالح الكتابة الجارحة الحقيقية التي تساهم فعلا في إعادة طرح الأسئلة وخلخلة السرد الراهن وثباته.
- رُشحت للبوكر ووصلت للقائمة القصيرة، وُرشحت وفزت بغيرها، ماذا تعني لك الجوائز بشكل عام؟
> الجوائز شيء يحتاجه الكاتب أحياناً ليدافع عن نفسه خاصة إذا كان هذا الكاتب لا ينتمي أو لا يريد الانتماء إلي كتاب الفساد، لكنها في النهاية هي شيء من خارج الكتابة يجب عدم التوقف عندها لوقت طويل، يكفي الاحتفاء فيها مع مجموعة الأصدقاء المقربين واعتبارها ضربة حظ جيدة، ثم نسيانها.
- لك تجارب سيئة مع المصادرة ألم تفكر في هذا الأمر وأنت تكتب روايتك الجديدة؟
> اعتدت هذه المعارك، والرقابة بالنسبة لي غير موجودة منذ زمن طويل، ولا أضيع وقتي بالفخر بأشياء سخيفة كمصادرة كتاب علي قسوته، نحن تُسلب وتصادر أعمارنا وليس الكتب فقط، أؤمن بأن للكتب أجنحة تستطيع الطيران ولا أحد سيوقفها، المهم أن تكتب كتاب جيد وصادق، ثق بأنه سيصل إلي القراء ويبقي في ذاكرة التاريخ.
- أخيرا تعرضت مؤخرا لوعكة صحية أريد أن أطمأن علي حالتك الآن؟
وضعي الصحي ممتاز، عدت إلي التدخين كما كل رفاقي الذين لا يصدقون الأطباء إلي حين ينامون ليلتهم الأولي في العناية المشددة، شغفي بالحياة لم يتغير بل ازداد، وأؤمن دوماً بأنني إذا مت فأنا عشت كما ينبغي لي ككائن يحب الحياة إلي درجة الموت.