المدن
هناك قصة لم تثر الاهتمام ولم تتم روايتها بعد، تتصل بالعمل الخفي الذي قام به الحلف الاسدي / الإيراني / الروسي ، واستهدف بناء تنظيمات متطرفة في سورية احتسبت على المعارضة ، مع انها لم تكن غير اختراقات سلطوية مزقت صفوفها ، ومحاولات لافراغ الثورة من مضمونها كثورة حرية ، ولتحويلها إلى اقتتال طائفي متعسكر ووحشي ، يقضي شيئا فشيئا على الذات الجماعية الحاملة لمشروع التغيير الثوري والمنخرطة فيه : المتمثلة في الشعب السوري .
لعب العمل المخابراتي دورا مجهولا في السعي لتقويض الثورة وتدمير الشعب وانقاذ النظام الاستبدادي . لا اتحدث هنا عن مخبرين افرادا اندسوا في هذا التنظيم او ذاك من تنظيمات الجيش الحر والمعارضة ، بل عن تنظيمات كاملة تم تأسيسها بعلم ومعرفة وتمويل مخابرات النظام وايران وروسيا، تبنت برامج مذهبية متطرفة، وقامت بفظاعات يصعب تصديقها ، كقطع اصابع شبان في مقتبل العمر قبض عليهم وهم يدخنون السجائر، وفرض نظم طالبانية على المواطنين عامة والنساء بصورة خاصة ، اللواتي الغي ما كان متاحا لهن من حرية وكرامة ، ومنعن من التعليم والخروج من منازلهن ، وكاقامة حواجز للتحرش بالناس والاعتداء عليهم وارعابهم ، وانشاء سجون تعرض المعتقلون فيها لضروب وحشية من التعذيب وللقتل ، وفرض اتاوات “جهادية” عليهم ادت الى سلب اموالهم ومصادرة ممتلكاتهم واختطاف اولادهم ، دون ان تقصر في تأليبهم على الجيش الحر واطراف المعارضة الأخرى، التي واجهت مخاطر القضاء عليها ، و”تحرير” المناطق التي حررتها منها ، وإعادة السيادة الاسدية إليها من خلال التنسيق العسكري والامني الوثيق مع اجهزتها ، بعد ان كلفت تنظيما معينا هو “داعش” باعتقال وقتل من لم تتمكن هي من اعتقالهم وقتلهم قبل خروجها من مناطقهم ، فلا عجب ان ايقن مواطنون كثيرون ان النظام عاد الى مناطقهم من جديد : بجلباب ولحية بدل البذة المبرقعة والذقن الحليقة. لذا ، دب اليأس في قلوبهم مما آلت إليه اوضاعهم، وفقدوا الامل في تحقيق الوعد الديمقراطي الذي ثاروا من اجل تحقيقه ، فوجدوا انفسهم فريسة مصيبة اشد هولا من اية مصيبة كانوا يخشونها ، ونسوا فترة الحرية القصيرة التي تمتعوا بها قبل طرد الجيش الحر من مناطقهم .
احتلال الثورة من الداخل وافراغها من مضمونها كفعل حرية ومعاقبة من قاموا بها : هذه هي مهام تنظيمات الارهاب التي عرفتها سورية، وجسدت “داعش” نموذجها الاكمل ، الذي عصف بالثورة السورية، وكاد يخرج الجيش الحر من معظم مناطق انتشاره في الاراضي المحررة ، واحتل المعابر الحدودية مع تركيا او المناطق المحاذية لها ، ومارس سياسات تمييزية وطائفية شاملة كان آخرها فرض الجزية على مسيحيي الرقة ، ونشر الفساد بين المقاتلين بقوة المال السياسي واطلاق ايديهم في رقاب الناس وارزاقهم، واختطف رجال الدين من مسيحيين ومسلمين ، وقتل مئات المثقفين والاعلاميين ورجال العلم والمعرفة ، ونسف منازل واماكن عبادة واسواق ومخابز ومشاف ميدانية ومدارس ، في استكمال واضح لعملية التدمير الشامل التي كان النظام ينفذها قبل طرده من المناطق المحررة .
واليوم ، يذوب الثلج ويبان المرج ، فإذا ب”داعش” تأمر برفع اعلام النظام فوق مراكزها ، وإذا بقسم كبير من منتسبيها يفاخر بانتمائه السابق او الراهن الى اجهزة النظام ، ويتباهى بتنفيذ اوامر أتته من دمشق ، التي اعانت ” داعش” على استرداد مواقع هامة استراتيجيا خسرتها ابان المعارك مع الجيش الحر، واعادت تسليحها وتنظيمها بعد هزائمها الاخيرة ، وموضعتها في مواقع تمكنها من احتلال مناطق حدودية في شمال سورية تقطع امدادت الجيش الحر ، وتستعيد من خلال وجودها فيها دورها الذي كانت تؤديه بخصوص محاصرة واختراق حلب وحماه وحمص وادلب ، وتشتت الجيش الحر الذي يجد نفسه منذ اشهر عديدة منخرطا في معارك ضارية على جبهتين متكاملتين يقاتل في اولاهما الجيش الرسمي ، وفي ثانيتهما تنظيم “داعش” الارهابي .
بالمقابل ، لم تلحق “داعش” اي أذى باي تشكيل من تشكيلات النظام واي شخص منه. لم تغتل ضابطا من ضباطه او قائدا من قادته ، ولم تقتحم منازل هؤلاء او تعتقلهم او تنكل باسرهم . ولم تهاجم ثكناتهم ومقراتهم او تحاصر مواقعهم ، ولم تعرضهم لأي فعل من الافاعيل التي تعرض لها كل من ينتمي إلى الجيش الحر والحراك المدني والديمقراطي ، ولم تكفرهم أو تعلنهم مرتدين . بدوره ، لم يهاجم النظام “داعش” بل هاجم من يقاتلونها ، ولم يقصف بالطيران والمدفعية الا من هددوا مراكزها أو تصدوا لها ، ومهد باسلحته الكقيلة لهجماتها، وزودها بما توفر لديه من معلومات عن الجيش الحر ، وسهل عبورها من مناطق سيطرته، وامدها بالاسلحة والذخائر والمؤن الضرورية لمعاركها، فليس مستغربا ان تقر اخيرا بواقعة أنها جزء من النظام ، وتبادر إلى رفع علمه فوق مراكزها ، تأكيدا لسيطرته عليها ، وحضوره الرسمي فيها .
لم تكتب بعد قصة الاختراقات المخابراتية التي جسدتها تنظيمات ارهابية فاعلة ك”داعش” . عندما ستتم كتابتها ، سيدرك العالم أي جهد بذل سوريا وايرانيا وروسيا لتشويه الثورة والاستيلاء عليها ، وكم ظلم شعب سورية حين احتسبت عليها تنظيمات متطرفة تكفر الحرية وتقتل الاحرار ، اكلت من رصيد ثورة الحرية ، وانهكتها وقتلت خيرة ابنائها !.