ما هي حدود الحاكم المطلق؟ إذا أردت جوابا مختصرا، فهو، لا حدود. إذا أردت بعض العيّنات، يحسن بنا العودة إلى التاريخ، معاصرا وحديثا. لا أدري كيف أصنف الحبيب بورقيبة، لأنني، مع الاعتذار، كنت أقدر تجربته الوطنية في النضال وفي الحكم. وأعتقد أن تونس متماسكة اليوم بسبب أثر المدرسة البورقيبية في المجتمع التونسي. لكن بورقيبة، مثل كل حاكم مُطلق، تدخّل في حياة الناس، ماذا يأكلون، وماذا يشربون، وكيف يتصرفون.
صدام حسين لم يفرض على «أركانه» فقط البذلة العسكرية الموحدة (محمد سعيد الصحاف – وزير خارجية وإعلام العراق في عهد الرئيس صدام حسين)، بل قرر إلغاء الكرش من العراق. هذا يعني إلغاء الرز (التمّن) وتمور البصرة. معمر القذافي وجد (خارج تعاليم الكتاب الأخضر) أن من الضروري إلغاء الأغاني المطوّلة. لا أم كلثوم بعد اليوم، ومعها لا قصائد شوقي. العقيد يريد أغاني قصيرة توحّد أفريقيا.
صدام حسين لم يأتِ بجديد. هتلر طلب من مواطنيه الإكثار من تناول العصيدة. ولذلك قصة: فقد كان مساعده هاينريش هملر (قائد الصاعقة) معجبا بقامة ونحول اللورد هاليفاكس (وزير خارجية بريطانيا)، وأقنعه بوجوب إصدار أمر إلى الأمهات المرضعات بأكل العصيدة: «إن الإنجليز، وخصوصا اللوردات والنبيلات، يُربون على تناول هذا النوع من الطعام… إن تناوله أمر صحّي، ويجب أن ننشئ الأمهات على تدريب أطفالهنّ على استهلاك العصيدة. تحية إلى هتلر».
أمر هملر بالبحث في معسكرات الاعتقال عن الأطفال الذين يحملون بذورا جرمانية. كما أمر بإجراء التجارب على المعتقلات البولنديات (الأرانب الصغيرة) لمعرفة مدى تأثير بعض الجراثيم على الجسم البشري، طبعا، لم تكن هذه ألطف لطائفه، لكن هذا ليس موضوعنا الآن. التشرمان ماو منع الصينيين من تذوق الرسوم والآداب والموسيقى التي يحبون، بداعي أنها «بورجوازية حقيرة». نيكيتا خروشوف دخل إلى معرض للرسم الحديث وهاجم الفنانين أصحاب اللوحات قائلا: إن ذيل الحمار يرسم أفضل منها.
اليوم تباع لوحات الفنانين الروس بأغلى الأسعار حول العالم، سواء كان صاحبها رساما أو ذيل حمار. يريد الديكتاتور أن يفرض على الناس ذوقه ومفاهيمه وثقافته. خروشوف رفض الخروج من ذوقه كعامل منجم، مع أنه، في مسائل أخرى، توصل إلى حكم الاتحاد السوفياتي، وأصبح أحد أقدر الجدليين السياسيين في العالم.
الفن الوحيد الذي يعترف به الديكتاتور هو الفن الرسمي: ستالين كان يصوّر (أو ينحت) بملامح جديّة، وهتلر غاضبا، وماو مرحا، ومعمر بخزانة ملابس وعصا ذهبية. طوال زمن كان في إمكانك أن تقرأ الأحداث من خلال الصور والتماثيل. في أيام، غابت صور ستالين من كل مكان. وفي لحظات، غابت صور خروشوف. وأول مشهد من انهيار النظام العراقي كان سقوط أحد تماثيل صدام. ملصقات معمر ملأت ساحات أفريقيا بأكلاف بخسة، وغابت بكلفة أقل.
نقلا عن الشرق الاوسط