علياء إبراهيم : العربية
تعاني الصحافة السورية الوليدة والمنبثقة من الثورة، من عثرات البدايات، ولعلّ أبرز هذه العثرات، على ما يقول الصحافيون، هو عدم اكتراث سياسيي المعارضة السورية بها.
هذه الصحافة الجاهدة والمتلمسة خطواتها الأولى بعد أربعين عاماً من السبات، انطلقت اليوم من المناطق التي انسحب منها النظام في الشمال، ومن المدن التركية، ووجدت احتضاناً من مؤسسات دولية مدنية وإعلامية. ولكن وعلى رغم ذلك فهي تصطدم بعدم اعتراف السياسيين السوريين بها. وهذه القصة هي نموذج عن هذه المكابدة:
اتصلت جودي بشخص من قيادات المعارضة السورية موجود في القاهرة ومشارك في مؤتمر سوريا للجميع المنعقد هناك. قالت له إنها صحافية سورية تعدّ وتقدم برنامجاً اسمه “في الممنوع” مدته ثلاثون دقيقة ويبث على إذاعة نسائم سوريا، وهي إذاعة مستقلة تغطي محافظة حلب ولها جمهور واسع في الداخل. شرحت له أن حلقتها تتناول الموضوع الطائفي في سوريا وسألته إذا كان بإمكانه أن يكون ضيفها من القاهرة.
ضحك الرجل وأقفل الخط، ولكن ليس قبل أن يقول للصحافية كلمة: “طوشتونا”.
حاولت الصحافية مع شخصية ثانية، وثالثة، ولم تنجح، بدا عليها الإحباط.
جودي, وهذا طبعاً اسم مستعار، عمرها في الصحافة السياسية من عمر الثورة في سوريا، ولكنها إذاعية محترفة ومعروفة. لا تتباهى جودي بذلك لكن خبرتها على الهواء أكثر من واضحة. فهي إلى جانب برنامج في الممنوع، تعد وتقدم برنامجاً صباحياً اسمه حكاية بلد مدته ساعتان، تنتقل فيه من فقرة إلى أخرى مخاطبة كل هموم محافظتها بما في ذلك أهلها الذين لا يزالون في الداخل والذين تزورهم كل أسبوع, فهي لا تريد بأي شكل من الأشكال أن تقطع صلتها بالداخل, “هذا هوائي الذي اتنفس”، تقول.
في فقرة “هي الحرية البدكن ياها”, وبأسلوب لا يخلو من الطرافة, تتحدث جودي عن معاني الحرية التي تريد والبلد الذي تريد, عن حرية التعبير, والعدالة الاجتماعية ومحاسبة الفساد, والأمان.. وفي فقرة “ويبسايت دوت كوم” تعرض أهم الأخبار المطعّمة بتعليقاتها الخاصة السريعة والذكية والتي لا توفر أحداً. رئيس الائتلاف الوطني المستقيل معاذ الخطيب قال “إن معارضة الداخل مستعدة لإلقاء السلاح”, تقرأ جودي الخبر وتعلق عليه مضيفة “ولكن على كم كتيبة يمون السيد الخطيب”.
مُخاطبة الجيش الحر, تقول: شكراً, فعلاً, ولكن تذكروا قطعة الحديد، السلاح الذي في أيديكم, هو للدفاع عنا, ونحن ناس بسطاء, نريد أن نعيش بسلام”.
خبر انتخابات المجلس التشريعي في حلب واشتراط جبهة النصرة أن يكون لها أغلبية معطلة، أي النصف زائد واحد، تختمه جودي بعبارة: “لا أزال أذكر عندما قالت النصرة إن مشروعها ليس سياسياً”.
قد يفهم مما ذكرت أن جودي ممن يعارضون الجيش الحر.. هذا غير صحيح والحقيقة أنها من أكثر الداعمين له لكنها، وربما من دون أن تكون مدركة بشكل كامل، تقوم بالعمل الذي على كل صحافي أن يقوم به: الرقابة والمحاسبة.
تركيز جودي على البعد السوري للخبر لا يقلل من انفتاحها ومتابعتها لكل ما يجري. تنتقد المجتمع الدولي كله, من الغرب إلى إيران إلى دول الخليج, إلى الدول التي “تستقبل” اللاجئين بما في ذلك تركيا، حيث هي تقيم اليوم. هي لسان أهلها وصوتهم ومرة جديدة تقوم جودي بدور الصحافي غير المكترث لحسابات المؤسسات الداخلية والسياسات الخارجية.
جودي في غازي عنتاب ليست وحدها، هناك عشرات ممن عرفناهم خلال السنتين الماضيتين. كانوا في حينها الصحافيين المواطنين, يتفاوتون بخبراتهم, وبتخصصاتهم, وبمناطقيتهم، وها هم اليوم في طريقهم الى الاحتراف، من دون العبور في القنوات التقليدية للصحافة العربية… هم أنفسهم الشباب والصبايا الذين وقفوا في يوم من الأيام يحملون في أيديهم كاميرات الهواتف، وأخذوا صوراً كانت خطوة الثورة الأولى.
كثيرون منهم قتلوا, وآخرون انتقلوا الى الاحتراف، احتراف محفوف بمشاعر تأنيب الضمير؛ لأنهم أحياء أولاً ولأنهم بدأوا ينتقلون إلى مرحلة جديدة لا تقلل من انتمائهم إلى الثورة ثانياً.. لا يزالون يخاطرون بحياتهم، وكثيرون منهم يبحثون عن عمل.. هذا حقهم طبعاً، ذاك أن الاستمرار يحتاج تحصينا لسبل العيش، ثم إنهم ضاقوا ذرعاً ببيع صورهم وأفلامهم, مع حقوقها, لكبريات المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية مقابل لا شيء تقريباً. والأهم لأنهم بصدد بناء صحافة جديدة لا تزال تحتاج الى كثير من الخبرة والتنظيم, لكنها واعدة وضرورية لبناء دولة المستقبل التي يريدها السوريون أينما كانوا.. جيش الصحافيين المواطنين الذي تحدّى نظام بشار الأسد, بإمكانه أن يواجه هذا التحدي ولكنه محتاج لأن يحتضن.
لم تيأس جودي, بقيت تحاول الى أن وجدت ضيفاً كان مشاركاً في مؤتمر القاهرة.
المشكلة ليست في جودي, وريم, ومازن, وعبدالله وأحمد وعمر وفادي وآخرين من الذين لا يملكون اليوم حتى أسماءهم الحقيقية.. المشكلة بشخصية عامة سورية مشهورة موجودة في الخارج, تسخر من جهودهم وتغلق الخط في وجههم.