مضت سنة بالتمام والكمال في لبنان.. من دون رئيس للجمهورية.
شغور الرئاسة لمدة سنة لا يحصل في أي بلد في العالم يدّعي أنه سيّد مستقل. ولا يحصل في نظام يزعم المدافعون عنه أنه «ديمقراطي انتخابي». ولا يُسمح به في كيان سياسي يزايد قادة مكوّناته الفئوية في الحرص عليه، ولو اضطروا من أجل ذلك إلى حمل السلاح واستخدامه.
مع ذلك مرت سنة كاملة ولبنان بلا رئيس.. ولا رؤوس عاقلة تدرك عمق الأزمة.
في منطقتي الجبلية في لبنان أعرف عن شيخ جليل رزقه الله بولد أنس فيه أبوه الفطنة والذكاء منذ الصغر، فعزم على بذل الغالي والنفيس من أجل تعليمه. ولما كانت سيولة الشيخ النقدية محدودة فإنه اضطر إلى بيع الأملاك الزراعية التي ورثها عن أبيه وجدوده لتأمين الأقساط الجامعية المطلوبة لدراسة ابنه الطب. وحين لامه بعضهم على تفريطه بأملاك العائلة أجاب الشيخ: «إذا خرب البيت فلا أسف على الكواير (جمع كُوارة، والكُوارة في العامية اللبنانية خزنة الغلال الجدارية في البيوت الريفية). إذا كان في ولدي خير فإنه سيسترجع الأراضي قطعةً قطعة، وإذا خاب فسيبيعها على أي حال!». وصدقت فراسة الشيخ وقرّت عينه بابنه، الذي تخرّج طبيبًا ولمع، وكان يقصد كل من اشترى أرضا من أبيه ليسترجعها ولو بضعفي ثمنها.
مَثَل «إذا خرب البيت فلا أسف على الكواير» يصدُق لدى استغراب حصول الشغور الرئاسي في لبنان إذا كان البلد نفسه «محتلاً». ففي بلد «محتل» لا حاجة أصلاً إلى رئيس ولا حكومة ولا نواب ولا جيش… لأن قوى الاحتلال تسيّر شؤونه. ومن أصغى خلال الأسبوع المنصرم لنفر من «حكّام البلد المحتلّين» يلاحظ، فعلاً، أنهم يتصرّفون وكأنه لا وجود للدولة أو مؤسساتها.
السيد حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، قرّر عمليا «إعلان التعبئة العامة» بعد شنّه الحروب عبر الحدود (البرّية لتاريخه) جنوبًا وشرقًا وشمالاً من دون الاكتراث لوجود حكومة يتمثّل فيها بوزراء. وفي خضمّ الكلام عن «التعبئة العامة»، مهّد الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام، لاجتياح بلدة عرسال الحدودية السنّية وتهجير أهلها والنازحين السوريين إليها إذ قال: «هناك 400 كلم مربع من الأراضي اللبنانية في جرود عرسال محتلة من الإرهاب التكفيري… وحزب الله مصمم على أن يواجه هؤلاء لتحرير الأرض وسيستمر باستهدافهم، ولكن للأسف هناك من يغطيهم سياسيًا ويقبل باحتلالهم». وتابع لا فضّ فوه: «هناك بعض السياسيين في لبنان وبعض أتباعهم يفضّلون أن يدخل (داعش) و(النصرة) إلى قرى لبنانية إضافية ويحتلوها على أن يحمل حزب الله مكرمة تحرير الأراضي التي يتضرّرون هم من احتلالها… أما أن يقول لنا البعض: اجلسوا جانبًا والقوى المسلحة الرسمية تقوم بالواجب، فأمامكم تجربة الرمادي في العراق»!!
الرسالة واضحة إذن… لكنها إن لم تكن كذلك فهنا أمثلة أكثر بلاغة.
رئيس الهيئة الشرعية في الحزب الشيخ محمد يزبك، مثلاً، قال خلال الأسبوع الفائت: «حزب الله لم ولن يورّط الجيش اللبناني في أي معركة كما يقول البعض، بل على العكس نحن خلفه ومعه، ولكن عندما تتخلّى الدولة والحكومة عن مسؤولياتها في حفظ أمن أهلنا وشعبنا فنحن مضطرون إلى مواجهة الخطر من أجل سلامة أهلنا ومناطقنا». وكرّر الحاج محمود قماطي، القيادي في الحزب، المضمون ذاته بتأكيده – في منطقة لبنانية مختلطة هذه المرة – «عدم السماح لمحور التكفير والإرهاب باستباحة لبنان». كذلك «طمأن» نائب الحزب الدكتور علي فياض إلى أن «المقاومة قادرة على أن تخوض حربين في آن معًا ضد العدو الإسرائيلي والإرهاب التكفيري… هذا الإرهاب هدفه التقسيم وإنهاك الأمة وإضعافها بهدف إدخالها في أتون من الفتن الإرهابية والاقتتالات الطائفية التي لا تنتهي…!».
من كل هذا يُفهَم أن لدى الحزب استراتيجية قاطعة محسومة لا تنتظر إذْن أحد ولو كان «الدولة»، أما إذا اعترض فريق من اللبنانيين عليها فهو الذي يُرمى ويُدان بتهم الطائفية والتعصّب والتكفير والإرهاب… وصولاً إلى التسبّب بالاقتتال الأهلي والتقسيم!
مثل هذه المواقف كانت ستفاجئ اللبنانيين والعرب لو سمعوها وقرأوها قبل أربع أو خمس سنوات، أما اليوم فهي أكثر من طبيعية. إذ تبيّن، ولو بعد فوات الأوان، أن حزب الله ليس حزبًا مستقلاً لبناني الهوية والهوى، بل هو فصيل ديني مذهبي مرتبط ارتباطًا عضويًا بالمؤسسة السلطوية الدينية الأمنية التي تحكم إيران. ومن ثم فإنه جزء لا يتجزّأ من مشروع إيران الجيو – سياسي في المشرق العربي.
ثم إن هذا المشروع الجيو – سياسي ما كان ليصل إلى حيث وصل إليه في عموم المشرق العربي لولا وجود إدارة أميركية اتخذت قرارًا نهائيًا إزاء من هم «الحلفاء» ومن هم «الأصدقاء» في المنطقة.
وعلى المستوى الأضيق، أي مستوى لبنان، ما كان حزب الله ليصادر البلد ومؤسّساته لولا تمتعه بغطاء مسيحي انتهازي وانتحاري، لا يريد أن يقرأ التاريخ أو يتعلم منه. إن جزءًا أساسيًا من انكشاف دور حزب الله تحقق بعد حصوله على غطاء مسيحي. وفي كل مرحلة كان هناك مبرّر وتوصيف للغطاء، لكنه في الحصيلة النهائية أسقط زمام المبادرة من الأدوات المسيحية المتورّطة التي أوهّمت أنفسها أنها قادرة على استغلال الحزب في معاركها الحاقدة الصغيرة.
شغور الرئاسة اللبنانية مسؤولية يتحمّلها المسيحيون، ويؤكد سقوط ذهنية مريضة عند متخلفي «المسيحية السياسية» ظنت أنها قادرة على حماية نفسها بـ«تحالف الأقليات» إلى ما لا نهاية، إلا أنها لم تستوعب في الماضي ولن تستوعب في المستقبل أنها قد تتمكن من ربح معركة أو اثنتين أو ثلاث، لكنها لن تتمكن من ربح حرب قد تكون وجودية.
ما يحدث حاليًا في بعض مناطق سوريا، في جنوبها وشمالها، يؤكد سقوط رهان الأقليات على حماية يوفّرها نظام مُتداعٍ.. لم تحمِه حتى الآن سوى الميليشيات الطائفية الإيرانية وعبثية سياسات باراك أوباما الشرق أوسطية.
نقلا عن الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :