خالد البرى :
وفى شريعة الملحدين أن الرجل يتزوج أمه وأخته. هكذا قال ضيف برنامج ريهام السهلى. المذيعة المحترفة طبعًا لم تتدخل وتعترض عليه وتقُل له «الكدب حرام»، مع أنها خريجة جامعة أمريكية، وعارفة إن المجتمعات العالمانية، اللى شرائعها مش من الدين، حتى زواج أولاد العمّ ممنوع. ليه ما قالتلوش الكدب حرام؟ لأنه، فى شريعة مجتمعنا، الكذب عادى. أستاذ الشريعة يقدر يطلع كمان على التليفزيون، أمام ملايين المصريين، ويقول إن العالم أسقط نظرية دارون. يعنى كذب وجهل وبجاحة (البجاحة هى التباهى بالنقيصة بدلا من الاستتار بها).
يعنى إيه شريعة الملحدين؟ الإلحاد معناه عدم الاقتناع بفكرة وجود إله، فمن أين تأتى الشريعة (القانون الربانى)؟ أما إن كان الضيف يقصد الشريعة بمعنى اللوائح، فالإلحاد ليس دينًا ولا حركة سياسية. الإلحاد موقف فردى بحت. والملحدون لا يجتمعون على شىء. فيه ملحدة ليبرالية وملحدة شيوعية، وملحدة محافظة. بل وهناك ملحدون متدينون. هؤلاء الذين لا يؤمنون بوجود إله ولكن يؤمنون أن الدين مُنتَج ثقافى بشرى، لم تخلق البشرية حتى الآن مُنتَجًا يمكّنها من الاستغناء عنه بالكلية، وبالتالى فهو مهمّ فى تنظيم المجتمعات، ولا سيما المجتمعات قليلة الوعى، التى لا يمكن مخاطبتها اتكالا على فكرة أن الإنسان قادر على خلق تنظيماته. ربع رجال الدين فى كنائس إنجلترا لا يؤمنون بالإله «الإبراهيمى» بصورته التى وردت فى الكتاب المقدس، لكنهم -كما أسلفت- يؤمنون بأهمية الإيمان بدين.
وهذا يعنى أن من الملحدين من يؤمنون إيمانًا راسخًا بأهمية الدين فى المجتمع. موقفهم هذا عبّر عنه شيخ الملحدين، الفيلسوف الفرنسى فولتير، قائلا: «أريد أن يؤمن محامىّ، وترزىّ، وحتى زوجتى، بالله، لأن ذلك يعنى أننى سأتعرض للغش والسرقة والخيانة الزوجية مرات أقلّ. لو لم يكن الله موجودًا، سيكون من الضروررى أن نختلقه». فولتير نفسه ملحد كما هو معروف، شخص آخر من نزلاء مصحَّة الملحدين، التى فيها تشارلى تشابلن، وألفريد هتشكوك، وفيودور ديستويفسكى، وألبير كامو، وإرنست هيمنجواى، وفردريك نيتشه، وكارل ساجان، وبرتراند راسل، وألبرت أينشتاين، وطبعا تشارلز دارون.
دارون -وهو من أسرة مسيحية لا يهودية كما ادَّعى أستاذ الشريعة على التليفزيون- ليس صاحب فكرة التطور، بل صاحب نظرية تفسير كيفية التطور. التطور أثبته علم الجيولوجيا حتى من قبل دارون، كما أثبته علم التشريح، ولا تزال الأدلة عليه تتوالى وتتزايد. كل ما فعله دارون أنه وضع نظرية عن الآلية التى يحدث بها التطور. الآلية التى نلخِّصها فى حياتنا اليومية بعبارة «البقاء للأنسب»، وبالتالى الإبقاء على الصفات الأنسب. فى عملية تستغرق ملايين السنين، بتغيرات تدريجية غير ملحوظة إلا حين تتراكم عبر التاريخ السحيق للبشرية. ولو سقطت نظرية دارون فى تفسير حدوث التطور، فلن تسقط نظرية التطور. دى أدلّة مادية ملموسة مش شوية حكاوى وحواديت.
لقد كانت نظرية التطور مشكلة بالنسبة إلى الجامدين من رجال الدين، لكن الدين بقى فى أوروبا، لأنه لم يضع نفسه عدوا للبشر وللإنجاز البشرى كما يحاول رجال الدين عندنا، بوسطييهم ومتعصبيهم، أن يفعلوا، لدرجة أن أستاذ شريعة يخرج فى حلقة يراها ملايين ليدعى أن إحدى أهم أسس العلم الحديث كلام فاضى. ولا أدرى، هل من حساب فى الآخرة على تضليل الناس بمعلومات مغلوطة عن العلم البشرى أم لا؟ هل من حساب فى الآخرة لرجال الدين على «جناية العقل» بتضليله، حسب تعبير أستاذ الشريعة نفسه، أم لا؟ هل من حساب فى الآخرة لرجال الدين من أصله أم لا؟ لو كان هناك حساب فما أحسبهم إلا فى أسفل سافلين. لماذا؟
لأنهم نصَّبوا أنفسهم أعداء للبشر وللمنجز البشرى، لحماية أفكارهم، ومصالحهم، أفكارهم ومصالحهم هم، لا الدين. وإلا فإن الدين، على ما نعرف، هو الذى كان يطالب فى مكة بحرية العقيدة، وأن ينشغل كل شخص بنفسه.
الفكرة الأخلاقية الأساسية للدين ليست فكرة ضعيفة، وإلا ما عاشت كل تلك القرون بصيغ مختلفة، إنما الفكرة الواهية هى فكرة التسلط باسم الدين، واستعباد الناس باسم الحق الذى يعلو فوق أى نقاش (اللى هو كده، عاجبك والّا مش عاجبك؟). هذه فكرة تخلق ماكينات قتل وتعصب، لا بشرًا. البشر يفكرون، ويختارون. على الأقل، لا يخافون هذا الخوف المرضى من الأفكار.
لكن رجال الدين يحاربون كل فكرة. لاحظى أنهم لم يكونوا فى الحلقة التليفزيونية التى قدمتها ريهام السهلى يقفون ضد الإلحاد، بل يقفون ضد حرية التعبير، البهائيون ليسوا مُلحِدين، واللا دينيون ليسوا ملحدين، وطبعا العالمانيون الذين يدعون إلى إبعاد رجال الدين -بصفتهم رجال دين- عن مؤسسات الدولة، ليسوا ملحدين. ضيوف الحلقة يقفون ضد أى محاولة لتغيير سلوك المجتمع. قد أفهم هذا من مجتمع متقدم فرحان بنفسه، لكن مجتمع زى مجتمعنا فى مقلب زبالة العالَم، خايف على إيه؟ إيش تاخد الريح من البلاط يا صبحى!
منقول عن التحرير