لأنى أحبك ستنطقين.
مريم ولدت محرومة من حاسة السمع. وكعادة أى مجتمع ينظر لهذه الحالة بصفتها إعاقات مُحالاً التعامل معها، يكون الحل الوحيد توجيهها لإحدى دور العناية الضعيفة التى لا تؤمن بأن صاحب الإعاقة له دور فى الحياة. اتخذ قراره الغريب. أعلن أمام الأطباء وعائلته ومجتمعه أنها ستنطق. صار محلاً للسخرية وللشفقة. المسكين لا يريد الاعتراف بأزمة ابنته.
لم يكن الأب البحرينى الذى يحمل شهادة الدكتوراة من الولايات المتحدة يعلم أن مسار حياته سيتغير عند عودته لوطنه. لا أحد يمكنه فهم خط سير الأقدار.
ترك البروفيسور فؤاد شهاب السياسة وكرس نفسه لابنته التى رفض التصديق بعجزها عن الكلام.
ومن يصدق أنه محروم من صوت ابنته؟ وأن الكائن الصغير الذى يتعدى جماله صرخات الطموحات والأحلام والرومانسيات والثروات يقف أمامك بجسده الضعيف يدمى أعصابك ومشاعرك.
لكن فؤاد لم يستسلم للصدمة، حبه لابنته دفعه لتجاوزها سريعاً والبحث عن حلول.
سافر بها لكل مكان، قابل أطباء فى مصر والسعودية وبريطانيا وأمريكا.. حتى الطب نصحه بأن يفقد الأمل. فالعرف يقول إن الأصم أبكم.. فؤاد لا يريد الاستسلام للأعراف ولا للنظريات الطبية أو التقاليد المجتمعية التى تعامل صاحب الإعاقة بتوحش.
أخيرا كان الخلاص بعد نصائح من طبيب بريطانى..
العلاج يتطلب ألا تهمل الصغيرة. أخذ يحكى معها كالببغاء.. لم يترك وسيلة أو معهدا أو مدرسة. كل المال والوقت والجهد فداء لعيون مريم.
هكذا يروى بكتابه (حبيبتى ابنتى.. سميتها مريم) مأساة مع مجتمع عربى رجعى حيث لا حياة به للأصحاء حتى يتمتع بها ذوو الاحتياجات الخاصة. يشكل الكتاب درسا قاسيا لكل أب عربى، رجل من الخليج ينشر صور عائلته بفخر ولا يخجل من إعلان اسم ابنته وزوجته، كتاب أتمنى أن يتحول لمنهج دراسى تقرره المدارس والجامعات.
حكى معها كما لم يثرثر أحد من قبل.
ترى كم فرصة أن تحظى أى ابنة خليجية (ومكتملة الحواس) بقناة تواصل تربطها بحنان أبيها؟
تخجلنى ضآلة النسبة. لكن حالة الانقطاع تلك لم تكن واردة فى قاموس فؤاد المتحضر..
يخبرنى كيف أمضى الزمن بحوارات لا تنتهى مع طفلة لم تبلغ العامين، كان يستمتع فى السفر لمسافات طويلة حيث باستطاعته وزوجته التحدث أطول وقت ممكن مع ابنة لم تخيب أملهما..
أول المعجزة كانت كلمة بابا. وتوالت الكلمات. وجهد المجتمع المتخلف بإخفاء علامات التعجب والاندهاش.
هل حقاً الأصم أبكم؟
من أين أتى بالإرادة الصلبة لإثبات العكس؟
لأنه يحبها..
تمادى فؤاد بتحدى قوانين المجتمع. بعمر السادسة أراد لمريم ارتياد مدارس للطلبة العاديين ليدمجها بالمجتمع فواجه معارضة قصيرة، لكنه اعتاد الانتصار. من سيقف أمامه بعد أن سمع (بابا)؟
لم أستغرب تفوقها على مدى حياتها الدراسية وصولاً للجامعة.. هكذا أب سينشئ حتماً مبدعين..
ولأنه إنسان جداً. فقد أسس ويترأس مركز الأمير سلطان لتنمية السمع والنطق. قال لى إن طفلاً لا يسمع بإمكانه النطق بلغات مختلفة تعلمها داخل المركز. لقد تحقق حلمه الكبير وكانت مريم سببا لتغير خارطة صحية لآلاف من الأطفال. مهمته الآن تكريس ثقافة دمج ذوى الاحتياجات الخاصة فى المجتمع بمدارسه وجامعاته ومختلف قطاعاته.
عند تخرجها صعدت للمنصة وكان أبوها واقفا على المسرح لتسليمها الجائزة. فؤاد شهاب الذى كان بالأمس يدور بها بين القارات بحثا عن أى أمل.. حلم بالكثير. لكنه لم يتوقع أن يشارك بحفل تخرج مريم ويسلمها بيديه جائزة التقدير الجامعى.
يتركك فؤاد شهاب فى حيرة وأسئلة وخيالات لا تنتهى.
هل السبب أنه مثقف واع. أم السبب حياته فى الغرب. أو هو طبعه العاطفى..
المهم أن مريم تعيش الآن فى البحرين مع زوجها وطفلتها ياسمين..
لم تكد تضعها حتى أخذها للفحص ليتأكد أن حفيدته تسمع وتنطق. وهكذا كان.
هذا الرجل الإنسان كان رئيسا للجنة تحكيم اختارتنى قبل أسابيع وجيزة للفوز بجائزة الإعلام السياسى فى العاصمة المنامة. كنت سعيدة بالجائزة ولم أكن أعلم أنها ستدفعنى للقاء أكاديمى مثقف وأب ضخ بى جرعات من الأمل لا مثيل لها. حتى حياتى بدأت تختلف بعد لقائه. لا أحد يمكنه فهم أين تأخذك الأقدار.
تحدوها. لا ترضخوا لصدماتها. أنتم والحياة فى معركة شرسة والمؤكد أن إرادة الحب هى المنتصر الأكبر.
ليتنا نؤمن بها..
*نقلا عن “المصري اليوم”