وفاء سلطان
سامر شاب سوري في العشرينيات من عمره
هو غض كوردة مشبعة بندى الصباح، لكنه حزين ومنكسر الخاطر، كزهرة زبلت تحت أشعة الشمس.
ولد وعاش داخل قبضة الديكتاتور…
لم يذق يوما طعم الحرية، ولم يتنفس أبدا رطوبة نسيمها….
هو ككل شباب عصره يحلم….
يحلم بأرض بعيدة، لكنها بلا أسوار…
يحلم بأن يصل تلك الأرض يوما، ويعيش طفولته التي لم يعشها وشبابه الذي لم يره بعد….
يحلم أن يحبو بعفوية…يناغي بعفوية…يلعب بعفوية….ويتسلق كتفي والده بعفوية
يحلم أن يذهب إلى مدرسته بلا حقيبة…بلا دفاتر….بلا أقلام …
يحلم أن يمشي على قارعة الطريق لا على رصيفه…
يحلم أن يطرح على معلميه الأسئلة المحرمة، ويجيب على أسئلتهم بطريقة محرمة
يحلم أن يخربش بطريقة لا تروق لغيره….ويكتب شعرا بطريقة يغني لها عشاق عصره…
يحلم أن تأتي حبيبته على ظهر فرسها، فتلتقطه وتخبأه ضلعا في صدرها…
يحلم أن تكون قوامة على بيتها، كي يحس بعمق عواطفها ويدرك رجاحة عقلها
يحلم أن يقول “أفٌ” لوالديه في محاولة لتقويم سلوك أي منهما
يحلم أن يثور في وجه المكر، ويغتال “خير” الماكرين
يحلم أن يقرأ كتابه بطريقة أخرى، ثم يجرب الحياة خارج حدود ذلك الكتاب….
سامر يحلم أن يفعل شيئا….شئيا واحدا كي يثبت بأنه هو، وليس مخلوقا آخر زجوه داخل قميصه…
تعرف سامر على كتاباتي، فازداد تمردا وعاش حلمه الأزلي الأبدي من خلالها…
كتب لي منذ سنوات مخاطبا إياي “أمي”.
لم يرني من خلال طائفتي، ولم أره من خلال طائفته….
رأى في شخصي أمه التي لم تلده، ورأيت فيه ابني الذي لم ألده…
تبناني فكريا، وتبنيته روحانيا…
غذته أفكاري، وأنعشت روحي كلماته…
زقزقت رسائله في بريدي على مدى سنوات، فالتقطت عصافيرها واحدا واحدا…
ورحت أبني لها أعشاشا بين قلبي وشغافه….
فرغ سامر همومه في جعبتي…
فأضاف إلى مسؤولياتي مسؤولية أخرى…مسؤولية مقدسة جدا ومهمة جدا جدا…
مسؤولية أخذتها على عاتقي، وخاطرت بحياتي من أجل أن أنجزها…..
مسؤولية الدفاع عن الحقيقة الغائبة في مجتمع يحرم الحقائق…
شاءت الأقدار أن يكون سامر من المدينة التي شهدت قصة حبي، وساهمت في بناء شخصيتي…
شاءت أقداره أن يولد سنيا، وشاءت أقداري أن أولد علوية…
لم يختر طائفته، ولم أختر طائفتي…
لكنه اختارني أما واخترته ولدا…
وقررنا بمحض ارادتنا أن نكون مسؤولين عن خياراتنا، أملا أن نغير واقعا فرض نفسه علينا….
سامر من حلب…
ليس هذا وحسب، بل شاء قدره أن يلتحق بالجامعة التي تخرجت منها…
كل صباح، يبحث سامر في أروقة جامعته عن وجهي، فيراه ـ على حد تعبيره ـ في كل مكان، مرسوما على كل جدار…
تلاحقه كلماتي في حله وترحاله، فيعيش من خلالها الحلم الذي لم يره بعد…
كل صباح أبحث عن صوره، فأراها منثورة فوق كتبي وأوراقي وأزهار النباتات التي تملأ مكتبي…
…..
وحدتنا هموم الوطن، وكهربتنا الأحداث التي أخذت تبتلعه مؤخرا شيئا فشيء…
رغم أنها لم تفاجئنا….
منذ البداية كنا ندرك بأن الوطن ينزلق نحو الهاوية…
وبأننا، أنا وهو، ضحيتان للشبيحة التي تحسبني على قائمتها، وللذبيحة التي تحسبه على قائمتها…
وأدركنا منذ البداية أن الشبيحة والذبيحة وجهان لعملة واحدة…
بشار الأسد صارـ غصبا عني ـ علامة فارقة في هويتي…
والشيخ عرعور صارـ غصبا عن سامر ـ علامة فارقة في هويته….
لكن، كما اختارني ـ بمحض إرادته ـ أما…
وكما اخترته ـ بمحض إرادتي ـ ابنا….
قررنا ـ وبمحض إرادتنا ـ أن نكون من كليهما براء….
…
إنها المؤامرة…..
نعم إنها المؤامرة….
إنها المؤامرة التي ولدت من رحم عقيدة شرذمت أبنائها ثلاث وسبعين فرقة، وأوهمتهم بخرافة الفرقة الوحيدة الناجية…
غرز زيد سكينه في رقبة علي…
وبقر علي بطن زيد…
اختلط الحابل بالنابل، وكل يدعي أنه وحده الناجي…
اجتاحت جحافل علي وزيد سوريا البلد الذي شهد أول أبجدية في التاريخ…
فصار لعلي شبيحته ولزيد ذبيحته…
وسقطت كل حروف الأبجدية من تاريخ عمره بعمر الأرض.…
……..
قلعوا أظافرنا….كمموا أفواهنا…. أحالوا أجسادنا أشلاءا…
كل يلوح بحجة الدفاع عن الفرقة الناجية….
كل طرف تبنى نفس الغاية ولجأ إلى نفس الوسيلة، حتى توحد الطرفان
ما الفرق بين أن يُعذب إنسان حتى الموت من قبل أحد الشبيحة، وبين شاب تتناثر جثته وهو في طريقه إلى عمله إثر إنفجار قنبلة دسها أحد الذبيحة في باص للنقل الداخلي؟
لا فرق!
آلاف السوريين الأبرياء سقطوا ضحية هذين الشرين، بين تصفية جسدية وبين غسيل دماغي لا يقل إيلاما!
الطغمة الحاكمة في سوريا طغمة مجرمة، عبثت في الوطن خرابا على مدى أكثر من أربعين عاما…
تصحر كل شيء، وصار الحقد الطائفي أعمق وأكثر حدة…
عسكروا ما استطاعوا من أبناء الطائفة العلوية، وبعسكرتهم جحشوا جيلا جديدا بكامله، وساهموا في تهميش وإفقار من تبقى…
شيعوهم عن طريق المد الإيراني، وبدت الأسلمة على الطريقة الشيعية تنتشر بين أبناء وبنات العلويين بصورة جلية….
في زيارتي الأولى لسوريا في أوائل العقد الماضي صعقتني مظاهر تلك الأسلمة في طائفة لم ينعكس الدين يوما ـ وعبر تاريخها ـ على أي مظهر من مظاهر الحياة، بل ظل علاقة روحانية بحتة تربط أتباعها، وعبر طقوس شفافة للغاية، بالله الذي يعبدون…
تشكلت جمعية المرتضى من خلال ـ غير المأسوف على حياته ـ جميل الأسد بملايين الدولارات التي نُهبت من البلد وجاءت من ايران…
وراح القائمون عليها يبثون سمومهم في عقول الشباب، فيخربون من لم تخربه بعد العسكرة التي مسك زمامها ـ المؤسوف على أنه مازال حيا ـ رفعت الأسد.
بالمقابل، حاولت تلك الطغمة أن تحمي نفسها من إرهاب شقها التوأم، شرذمة الإخوان المسلمين، فتركت لهم زمام أسلمة الشارع على الطريقة الوهابية، متغاضية عن عملية غسيل الدماغ التي بدأت تجتاح الشارع السوري
عندما تركت سوريا في آواخر الثمانينيات لا أذكر أنه كان هناك مدرسة اسلامية واحدة، بالطبع كان هناك مدارس حكومية تدرس الدين الاسلامي بضع ساعات في الاسبوع لا أكثر.
في منتصف العقد الماضي تجاوز عدد المدارس الإسلامية في سوريا الخمسة آلاف مدرسة، أغلبها داخل البيوت ولا تخضع لأية مراقبة حكومية.
وبالطبع كلها مدارس مبنية بالأموال السعودية ومشحونة بالحقد الطائفي
(تم ذلك على حد المثل الشعبي في سوريا (حكلي بحكلك
بمعنى، لكم حصتكم ولي حصتي، وليس لأحد علاقة بأحد
الطغمة الحاكمة تسرح وتمرح وتظن نفسها في مأمن من شر الإسلاميين، والإسلاميون يسرحون ويمرحون ويخططون لليوم الذي سيفترسون فيه تلك الطغمة، وكل من ألحقوه بها بريئا كان أم مذنبا
سقط الوطن كقطعة من اللحم المفروم بين الشاطر والمشطور
في سوريا نحن اليوم أمام كارثة إنسانية
حكومة فاسدة ومفلسة على كل صعيد، وشعب بكل طوائفه مشحون حتى الإنفجار
في سوريا اليوم مشكلتنا الأكبر والأكثر تعقيدا أننا نفتقر إلى سلطة أخلاقية، في ظل غياب سلطة قانونية.
كل طرف من طرفيها المتناحرين لا يستطيع أن يرى الأمور إلا من خلال منظاره الضيق، ومن خلاله مصالحه وارتباطاته.
والملايين سيدفعون ثمن ذلك التناحر عاجلا أم آجلا.
الخطر الأعظم يكمن في قدرة هذين الشرين على تقطيب الوطن، وكل قطب يرى مستقبله من خلال دمار الآخر.
للطغمة الحاكمة وسائل إعلامها التي ترينا الطرف الآخر على حقيقته وتخفي عنا حقيقة نفسها
وللإسلامين وسائل الإعلام التي تتعاطف معهم لغاية في نفسها، فترينا جرائم السلطة على حقيقتها وتخفي عنا جرائم هؤلاء الإرهابين
والعاقل الوحيد هو من يستطيع أن يرسم صورة حقيقية من خلال ما تنقله لنا وسائل إعلام الطرفين، ومن خلال ما يصلنا من شرفاء الوطن الذين وقعوا بين مطرقة السلطة وسندان الإسلاميين
وما أندرهم هؤلاء العقلاء
….
سامر واحد من هؤلاء الشرفاء…
كتب لي اليوم رسالة تجسد معاناة الوطن بكل أبعادها …
لحقها برسائل أخرى كأجوبة على تساؤلاتي ( ستقرأ واحدة منها في نهاية المقال)..…
رسائل وضعتني أمام مسؤولياتي، كسورية تعرف تماما كيف تتعامل شراذم الأسد مع المواطن، وتعرف تماما كيف يهدد الحقد الذي أورثنا إياه الإسلام سلامة الوطن.
وتعرف تماما أهمية القضاء على هذين الشرين بغية تحرير الوطن، وإلحاقه بركب الإنسانية.
وتعرف تماما خطورة وصعوبة تلك المهمة!
سامر واحد من آلاف الشباب الذين تواصلوا معي ومازالوا يتواصلون..
سامر واحد من أحرار الوطن، الذين من أجلهم أكتب ولأجلهم سأظل أكتب..
المستقبل سيكون لي ولسامر، مهما راهن هؤلاء الرعاع عليه..
المستقبل لهؤلاء الذين يتحدون جرائم النظام، لكنهم في الوقت نفسه يرفضون ما يبثه شيوخ الإسلام من حقد وكراهية في ظل ذلك التحدي.
المستقبل لهم، لكن الطريق إليه ـ بلا شك ـ طريق شائك وطويل ومحفوف بالألغام.
…..
سوريا ليست ملكا لبشار الأسد، وليست ملكا للعرعور
ولا لمن لف لفيف أي منهما.
سوريا لي ولك يا سامر، ولكل من يؤمن بحق الحياة ويقدس ذلك الحق…
سلمتَ يا ولدي
وسلمت سوريا
***********
إحدى رسائل سامر
أمي الأولى وفاء
كل يوم قبل لحظة النوم أطلق أمنيتي في هذا الكون الفسيح
أريد أن أرى الدكتورة وفاء هنا تشارك في صناعة هذا الحلم
فيهمس قلبي بأن ذلك سيتحقق وعندها لن يكون في طننا مكان لا للشبيحة ولا للذبيحة
بل للحوار والديمقراطية والعودة الا صندوق الانتخاب وعدّ الأصوات
بالنسبة لي لقد أزيل الخوف من قلبي وأصبح بعيدا عني بعد الشبيحة والذبيحة عن مستقبل سورية
أبلغت أبي رسالتك وهو يرسل لك محبته .. لاأنسى كيف انتفض وهو يسمعك على قناة الجزيرة وأن تتحدثين عن أزمة الإنسان والإسلام وهو يقترح أن يكون عنوان المقال : وفاء و سامر بين الشبيحة والذبيحة
ويمكنك تبيين الأسماء في الوقت الذي ترينه مناسبا
ثقتي بك كبيرة يمكنك فعل ما ترينه مناسبا
انتظر مسودة المقال الذي سيكون وصف لحال كل السوريين فنحن الان كلنا بين دبابات الشبيحة و سواطير الذبيحة
إنك وإن كنت بعيدة عن الوطن لكن في قلب كل إنسان واعي
ماقل ودل : بداية تحياتي لك ياسيدتي الفاضلة د. وفاء سلطان وتعليقي ؟
١: صدقيني مثلك ومثل سامر بالألاف طيبين وخيرين إن لم يكن بالملايين ؟
٢: فعلا إن ماتمر به بلداننا وأوطاننا لهو شئ فضيع ورهيب ، لا لأنه لم يحدث مثله في تاريخنا بل لربما حدث ألأسوأ دون حسيب أو رقيب ، لكن المصيبة هى أن الكل يسمع ويرى هول الدم والجرائم والكل عاجز عن فعلب شئ بعيد كان أو قريب ، والمصيبة ألأكبر هى أن زيد تخندق مع الشبيحة وعلى تخندق مع الذبيحة والإثنان تخندقا ضد الوطن وضد من بقى على الحياد عاشق له كان أو حبيب ؟
٣: صدقيني دائما أتساءل أين العقل والضمير ، وهل يعقل أمة تذبح أبناءها بإسم إله أو حاكم ، والإثنان يسوقانهم كالحمير والبعير ؟
٤: وأخيرا لينكح الشبيحة والذبيحة أمهات بعضهم بعضا دون أسف ، ولكن ليتركو من رمته ألأقدار بينهم أو على قوارع الطريق ، فاليوم لاإله لهم منجد ولا نصير أو رفيق ، فلقد صدق من قال ( إنها الفوضى الخلاقة ) فإما ألإنطلاق للذرى وإما الكل غريق ؟