يبدو أن كثيرًا من الإعلاميين باتوا مسكونين بهاجس “الشو”. يتسمّر المشاهد العربي أمام شاشاتٍ تعلو فيها الفلسفة الاستعراضية، فيما تخبو على وقعها كل الاعتبارات القيميّة والإنسانيّة. تعتبر الإعلامية المصريّة ريهام سعيد، مقدّمة برنامج “صبايا الخير” على شاشة “النهار” المصريّة، إحدى أهم المسكونات بذاك الهاجس. لا يهمّ إن قدّمت سعيد صورة مبتورة عن مصر، أو إن كانت تشحذ من المشاهد عاطفة سيّالة، بعد تسليع عدستها لجثث المصريين. ولا يهمّ أيضًا إن وضعت براءة طفلين مخطوبين على الرّف، وارتدت ثوب المحقق معهما. ولا يهمّ كذلك إن حوّلت برنامجها إلى صيغة تشبه المسلسل الكرتوني “المحقّق كونان”. كلّ ما يهمّ أن تحكي على صفحتها عن “الاستقبال الأسطوري” الذي حظيت به هذا الأسبوع، بعدما أطلقت حملة “كلّنا مصريين” لمساعدة المتضررين من السيول في بلدة “رأس غارب”. على مدار أسبوعين، كنّا على موعد مع لقطات “هوليوودية” لمليوني بطانيّة وعدد كبير من الملابس والأغذية تمكّنت الحملة من جمعها، باسم البرنامج. ليست المشكلة هنا في صيغة التبرّع بحد ذاتها، لكن المشكلة تكمن في تحويل تلك الصيغة إلى عرض حيّ على الهواء، تتفوّق فيه عدسة الكاميرا على أي شيء آخر.
كانت كاميرا برنامج “صبايا الخير” قبل إطلاق هذه الحملة، زارت “رأس غارب”، وبدأت تتجوّل في المنطقة وهي تلقي باللوم على المسؤولين والمتنفّذين. وقفت سعيد على أحد الأسرّة في أحد البيوت، مشيرة إلى أنّ أحد الأطفال الغرقى قد يكون موجودًا أسفله. كلّ ذلك كان على وقع أغانٍ شجيّة. لكن سرعان ما تبدّلت الحال. جلست في الاستديو، وبدأت بتأديب بعض المشاهدين المعارضين للبؤس المصري الفادح. صدحت بالقول: “احنا المصريين كلّنا معنا أكل وشرب وبنتبرع، إنتو رجالة. أمّا دا اللي بقلك مش ملاقي ياكل ومش ملاقي سكر مش مزبوط. تحيا مصر، ويسلم الريّس والجيش. أنا مش قلقانة خالص. دي مصر، ودي وحدتنا”. انتهت الكارثة وفقًا لريهام. كأنّها تدعو بذلك أن يضع الجميع أقلامهم جانبًا، ويكفّوا عن الكتابة حول سياسة تعويم الجنيه. وعن آلاف المعتقلين السياسيين في سجون النظام المصري، عبارة “تحيا مصر” تكفّلت بالحلّ السريع، الى جانب أغاني حسين الجسمي ونانسي عجرم عن مصر، والتي رافقتنا في أكثر من حلقة من البرنامج.
ليست جملة سعيد مجرّد عبارة عفويّة، بل هي تزييفٌ للوعي من جهة، وتعبير عن وعي عدائي لمعارضي نظام الحكم في مصر من جهة أخرى. إنّ التعويل على “الأدرينالين” عند المشاهد فور سماعه “تحيا مصر” أو مشاهدته 120 سيارة نقل تحمل التبرعات، كمخدّر إعلاميّ يحسّن شروط القهر المصري. كانت الحملة بمثابة طقس عبور المذيعة من الأغاني الحزينة واتهام المحافظ والمسؤولين إلى “تسلم الأيادي” وتحيّة الرئيس. كلّ ذلك مع تأكيدها على أنّ ما تفعله ليس بـ “الشو الإعلامي”، إذ خاطبت المشاهدين بالقول: “فش حدا حيضحي بحالو أو يلاقي ثعابين وعقارب بالميّة عشان يعمل شو، لكن في واحد مؤمن انو بضحي نفسه لأنو لازم يساعد الناس”. الجميل هنا أن سعيد لا تعرف أن قاعدة نفي النفي هي إثبات بالمحصّلة.
لا تتوّقف سعيد عند هذا الحدّ، بل عادةً ما تُختزل حلقاتها حول جرائم الحرق والاغتصاب والتحرّش، من دون نسيان تنويه “للكبار فقط +18”. (شاهده الفيديو هنا: شيخ في الدعوه السلفيه يغتصب أطفال الشوارع في مصر) في إحدى الحلقات، حاورت سعيد فتاةً كان خطيبها السابق قد حرق أخاها في شقّتهم. كأنّ قاعدة البرنامج تقضي بضرورة انهيار الضيف لمزيد من الاستقطاب. في هذه اللحظات التي من المفترض أن نمنح الحزن وقته لدى الفاقد، بعيدًا عن الشاشات، تأتي سعيد لتحاور الفتاة وأمها في عزّ انهيارهما وصدمتهما، وتنهال عليهما بأجواء تشبه غرف التحقيق، فضلًا عن عرضها لجثّة أخيها المتفحّمة. سألت سعيد الفتاة “طيب إزاي ما قدرتيش تساعديه وإنتي شايفاه بيتحرق؟”، وكأنّ في هذا السؤال لومًا مستترًا وضمنيًا، في وقتٍ تحاول فيه الفتاة أن تعي ما حصل حولها.
في حلقة أخرى، استجوبت سعيد طفلين مخطوبين بحكم الأهل والخوف على الميراث. أعادت تدوير العنف ضدهما بأسلوب بدا أكثر نعومة من أهاليهما، إذ انتهكت براءة الطفلين على طريقتها الخاصة. بدأت تسألهما أسئلة الكبار، مثل: “بتقلّها بحبّك، أو انتي بتقوليلو بحبّك؟”. وحين أجاب كلامها بـ “لا”، أعادت سؤالهما “طيب امتى حتقولوا كدة؟”. بجانب هذا السؤال، سألتهما عن مواعيد لقائهما واتصالاتهما الاعتيادية، بالقول: “بتتصلوا كلّ يوم على بعض، وامتى بتشوفوا بعض؟”، ليجيب كلاهما: “لما نبقى فاضيين ونخلص واجباتنا”. كان الأحرى بسعيد بعد هذه الإجابات البريئة والعفويّة أن تعود أدراجها وكاميرتها، بدلًا من أن تُدخل الطفلين لعبة الاستعراض الإعلامي، وتستفزّ الطفلة بالقول: “طيب ما بتزعليش منو انو ما بكلمكيش؟”. كان بإمكان سعيد أن تعالج هذه القضية بعيدًا عن وجهي الطفلين. كان ممكنًا أيضًا أن تحاور الأهال بمفردهم، وتنتقد عنفهما الصارخ تجاه أطفالهما. لكن يبدو أننا في زمن بات فيه الطفل لا يعدو كونه “ترندًا”… نزكي لكم مشاهدة ايضاً: لهذا السبب مصر في الحضيض
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟بقلم مفكر حر
- تلغراف: تأثير #الدومينو علی #ملالي_إيران وتحولات السياسة الغربيةبقلم حسن محمودي
- الميلاد آتٍبقلم مفكر حر
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :