عام 1969 سافرت إلى آيرلندا موفدا من «النهار» في أثر الجنرال شارل ديغول، الذي ذهب إلى المنفى الذاتي المؤقت هناك. بكل سذاجة، ولكن بكل صدق، بعثت برسالة إلى سفير فرنسا في دبلن أتوسطه في تدبير لقاء، أو كلمة مع الجنرال. وكان السفير رجلا من رفاق ديغول في الحرب، حيث فقد ساقه في القتال.
بعد فترة، تلقيت في بيروت رسالة من مكتب ديغول موقعة باسم مساعده، يشكرني فيها على الطلب ويعتذر عن عدم التلبية. لم تكن رسالة خاصة. فمن عادة القصور في أوروبا ألا تهمل رسالة واحدة من دون رد. وكان في بيروت صاحب مقهى متواضع يعلّق على جدرانه الرسائل التي جاءته من زعماء أوروبا. كتب، فأجابوا.
ومع ذلك، فإن الرسالة من ديغول كانت تذكارا يُحفظ. غير أن السفر والترحل والتنقل وتغير البلدان يبدد الأيام وتذكاراتها. ثاني أهم رسالة تلقيتها في حياتي كانت من نائب الماريشال تيتو، ميلوفان دجيلاس. كنت قد ترجمت كتابه «محادثاتي مع ستالين»، بالاشتراك مع الزميل ذو الفقار قبيسي. صدر الكتاب فيما كان دجيلاس في سجن تيتو. ولما أُفرج عنه أواخر الستينات، أثار ذلك ضجة كبرى، فكتبت إليه من باريس إلى بلغراد أطلب موعدا.
كانت الرسالة بخط اليد. وكانت المفاجأة أن دجيلاس رد برسالة مطولة بخط اليد. هو أيضا لم يكن يملك كلفة رسالة مطبوعة. حدثني في رسالته عن زيارته إلى لبنان وعن أن «زرقة المتوسط في بيروت أكثر عمقا من أي مكان». وتحدث عن الأثر الذي تركه في نفسه اللقاء مع الزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط، وأمور أخرى.
ضاعت الرسالة بين حقيبة وأخرى. أو بين فندق وآخر. أما أجمل الرسائل فكانت من أطيب الناس، الطيب صالح. كنا نُقيم معا في لندن، ونلتقي في مكاتب الجريدة، ومع ذلك اختار أن يكتب لي. ولم أدرك يومها أنه يريدني أن أنشر الرسالة. وعندما أدركت، قررت أنني لا أستحق تلك الشهادة من طيب العرب، فلم أنشرها. وحرصت على الاحتفاظ بالرسالة. ثم حلّ الترحل من جديد، وضاع بخور الطيب بين الكتب والحقائب وأرقام الرحلات. ومن الرسائل الضائعة الثلاث كانت الأغلى والأكثر أهمية عندي، سطور طيب العرب. كان يجب أن أحفظها معلقة في صدر مكتبي.
الشرق الاوسط