ابراهيم العريس
سؤال لا بد أن يطرحه على نفسه كل مشتغل بالفلسفة لا سيما بعلم النفس في زمننا الحديث: لو أن رائد التحليل النفسي الذي اشتغل على النصوص الأدبية كثيراً وعرف كيف يمزج بين الفلسفة وعلم النفس، «سيغموند فرويد» اكتشف كتاب أبي العلاء المعري «رسالة الغفران» بطريقة من الطرق، وانصرف بعد قراءته بتمعن إلى مقارنته بسيرة حياة المعري نفسه محاولاً أن يجد الروابط بين كتاب الشاعر وسيرته، أولم يكن من شأنه أن يفرد حيزاً كبيراً في كتاباته لدراسة تلك الحالة الفريدة في الكتابة، التي يمثلها واحد من أكبر شعراء العربية في تاريخها، لم يتوانى البعض عن اعتباره فيلسوفاً في الوقت نفسه، وفيلسوفاً من الطبقة الأولى؟ وفي هذا السياق الأخير، لا شك أننا نقف في خط الباحث اللبناني الأب يوحنا قمير الذي حسم أمره وجعل للمعري مكانة في الفلسفة العربية تضعه إلى جانب ابن رشد والفارابي وابن سينا. صحيح أن كثراً لا يوافقون قمير على هذا التصنيف، غير أن بحثاً متمعناً في شعر المعري نفسه، ومن ثم قراءة متأنية لـ «رسالة الغفران» سوف يوصلاننا مع الباحث إلى نتيجة فيها إجابة على السؤال الذي يطرحه هذا الأخير في تقديمه للكتاب الذي أفرده للمعري في سلسلته العالمة «فلاسفة العرب». وفحوى السؤال: هل أبو العلاء فيلسوف؟ والحقيقة أن ما من أحد سوى فيلسوف يكاد يداني كيركغارد على أقل تعديل، وله من التقنية ما لابن طفيل الذي صاغ، كما فعل ابن سينا، جزءاً من فلسفته في شكل أدبي في «حي بن يقظان» يمكنه أن يدبج نصاً له عمق وذاتية وأسئلة «رسالة الغفران»، هذا دون أن نحتاج إلى مراجعة الأبعاد الفلسفية التي تهيمن على أشعار أبي العلاء وكتاباته الأخرى وحتى رسائله. فكل هذا يقول لنا دون لف أو دوران إن المعري يجب أن يُحسب دائماً في منطقة مميزة بين الشعراء الفلاسفة والفلاسفة الشعراء.
> كان أبو العلاء في الستين من عمره حين أملى «رسالة الغفران» ذلك النص الفريد في الأدب النثري العربي. و «رسالة الغفران» كما قد لا يدل اسمها، هي رحلة في الحياة الآخرة، رحلة من ذلك النوع الذي تمنى المفكرون والكتّاب، دائما، القيام به أو التعبير عنه، وعرف نفر قليل منهم كيف يفعل ذلك. ومن هؤلاء، بالطبع، أبو العلاء المعري، شيخ المعرة الضرير وشاعرها، ولكن أيضاً دانتي اليغيري، أحد أكبر شعراء عصر النهضة الإيطالية والنزعة الإنسانية، ذلك الشاعر الذي لطالما قورنت «كوميدياه» بـ «رسالة» المعري، واستنتج البعض أنها تكاد تكون منقولة عنها، فكرة وفي الكثير من التفاصيل. وهذا الأمر الأخير لا يزال لغزاً أدبياً محيراً إلى اليوم. لكن هذا ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو ذلك النص الطويل الذي أملاه المعري يوماً، وقد بلغ من الشيخوخة مبلغاً ليصف فيه جولة في النار والجنة، يقابل خلالها السابقين عليه ويصف حياتهم في الآخرة، على ضوء ما فعلوه في الحياة الدنيا، متحدثاً عن شعرهم وحياتهم وما اقترفوه من شر أو ما قاموا به من خير.
> «رسالة الغفران» هي قبل كل شيء نص فلسفي يتأمل الوجود والتاريخ والحياة، ويتأمل أيضاً ضروب الإبداع الإنساني، وهذا النص من الواضح أن أباً العلاء إنما شاء فيه، وعبر وصفه وتحليله للشخصيات التي يلتقيها خلال رحلته، من شعراء وقادة وأدباء وفلاسفة ومفكريـن ومتكلمين، شاء فيه أن يعبر أول ما يعبر عن ذلك التمزق الذي كان، هو، يعيشه، بين إيمانه وشكه، يأسه وأمله، متسائلاً عن جدوى كل ما عاش فيه وله، ومتسائلاً عن مكان الإنسان في هذا الكون. فمن ناحية، تكشف لنا «الرسالة» كم أن المعري مؤمن، يعيش إيمانه بكل جوارحه، يؤمـن بوحدة الله ورسالة نبيه، وكم أنه في الوقت نفسـه شكاك، لا يرى فائدة في الصورة التي يصنعها المتكلمون للدين. ولعل في هذه السمة الأخيرة مِـن سمات موقف المعري، في «رسالة الغفران» ما شجع الكثيرين على اتهامه بالزندقة والكفر.
> غير أن الدكتورة عائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ المفكرة المسلمة الراحلة، والتي قامت بأفضل تحقيق لنص «رسالة الغفران»، مستبقة إياها بنص محقق لـ «رسالة ابن القارح» التي كانت دافع أبي العلاء إلى كتابة «رسالة الغفران»، تنفي عن فيلسوف المعرة وشاعرها تلك التهم، متبعة في ذلك خطوات أستاذها طه حسين الذي وضع غير كتاب عن المعري، وكان- إلى حد ما- يرى نفسه شبيهاً به. فالدكتورة بنت الشاطئ، والتي لا يفوتها في مناسبات عدة أن تنوه بـ «إيمان المعري» مبررة لحظات الشك واليأس التي عاشها، تورد تفسيراً مميزاً لتأليف المعري لـ «رسالة الغفران»، إذ تقول إن هذه الرسالة إنما تعبر عن «أمانيه الموؤودة» وهي «مشحونة بأصداء أشواقه المكبوتة وصليل القيود التي كبلت نفسه بالحرمان الباهظ، وقد أطلق لها العنان في رؤيا عجيبة من رؤى يقظته وهذيان أمانيه، فصورت لنا عالمه الآخر كما تمثله وكما اقترحه عليه حرمانه. فالمقيد الذي لم يغادر محبسه منذ عاد من بغداد إلى أن مات، والذي ألجم عواطفه الهادرة وكبت انفعالاته الجياشة، جاءت جنته حافلة بالحركة بريئة من الهدوء والسكون، فيها رحلات صيد وزيارة ونزهة، وقد تعنف الحركة فتصير عراكاً ومنافرة وعربدة، ويعلو الصوت فيصير صياحاً وجعجعة. على أن هذه الحركة الحسية لا تقاس بالحركة النفسية العنيفة التي تموج بها جنة الغفران وتضطرب فيها نفوس الموعودين…». وتضيف الدكتورة بنت الشاطئ أن «صائم الدهر الذي حرم على نفسه لذات الدنيا، ملأ جنته بالخمر والنساء، وتفنن في حشد صنوف من اللذائذ الحسية والشهوات المصورة». بالنسبة إلى هذه الباحثة المميزة، كانت «رسالة الغفران» إذاً، نوعاً من التعويض بالنسبة إلى إنسان حرم كل شيء في دنياه، فأراد أن يحصل على كل شيء في الخيال، ولو عن طريق شخصيته الرئيسة ابن القارح. غير أن النص تجاوز، في طبيعة الحال، تلك الرغبات التي تخضع إلى التحليل النفسي على ضوء سيرة المعري وشخصيته، لكي يصبح قراءة في تاريخ الفكر والشعر والكلام، وتحليلاً لأبرز أعلامه، حيث في كل مرحلة من مراحل الرحلة تطالعنا وجوه نعرفها ونعرف الكثير عنها، ولكن كان من الصعب علينا تصور أي مصير كان لها.
> كتب أبو العلاء المعري- أو بالأحرى أملى- نص «رسالة الغفران» وقد بلغ الستين من عمره، وكان ذلك في العام 1040 ميلادية تقريباً، أي قبل رحيله عن عالمنا بأكثر من عقد ونصف العقد من الزمن، وذلك في وقت كان قرر أن يستقر في المعرة لا يبارحها، مكتفياً لرؤية الناس، أن يستقبلهم فيها. وهو كان قبل ذلك قام برحلته الشهيرة والحاسمة إلى بغداد. لكنه لم يقم في بغداد سوى عام ونصف العام، وهو الذي كان عازماً قبل ذلك على أن يقيم فيها زمناً أطول، ليس لكونها عاصمة الخلافة وموطن العمل السياسي- فهذان الأمران لم يكونا يعنيان شيئاً للمعري- بل لأنها المدينة التي تتوافر فيها العلوم والآداب كافة. كانت خيبة المعري في بغداد كبيرة، لذلك نراه سرعان ما يعود مكتهلاً يائساً، ويشرع فوراً في التفكير في كتابة «رسالة الغفران» خالقاً في داخلها عالماً متكاملاً، عجز عن أن يضع نفسه داخله في عالم الواقع.
> ولد أبو العلاء المعري العام 979 م. 363 هـ. في معرة النعمان، شمالي سورية، فقد البصر وهو في الرابعة. وعلى سبيل التعويض عما حلّ به من عاهة مستديمة، وجد باكراً أن ما يمكنه الحصول عليه إنما هو العلم والغرق فيه، والأدب والنهل منه، وهكذا راح يطلع على ما كتب السابقون، لا سيما على أشعار المتنبي، «أستاذه» وسابقه العظيم. ولكن لئن صاغ المتنبي شعره انطلاقاً من ظروفه وتقلبات حياته، فإن المعري لن يعير الظروف الطارئة اهتماماً، وسيكتب شعراً تأملياً وفلسفياً، وضعه بعد ذلك في الصف الأول من شعراء العرب. والحقيقة أن المعري لم يفعل، في حياته، شيئاً آخر غير التأمل والإملاء، فأنتج بعض أروع وأغرب ما في الشعر العربي، وحسبنا للتيقن من هذا أن نقرأ «اللزوميات» و «سقط الزند»، وأن نقرأ ونعيد قراءة «رسالة الغفران»، لتجدنا أمام عبقرية نادرة في تاريخ الإنسانية، عبقرية لا تزال حية على رغم أن صاحبها رحل عن عالمنا قبل أكثر من تسعة قرون ونصف القرن في العام 1058 م..
*نقلا عن صحيفة “الحياة”.